تفصيل صاحب المعالم في المقام - الروايات الدالة على أنّ للقرآن بطوناً 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5035


وكيف كان ، فقد ظهر ممّا ذكرناه أ نّه لا وجه لما ذكره صاحب المعالم (قدس سره) (1) من التفصيل بين التثنية والجمع وبين المفرد ، حيث جوّز إرادة الأكثر من معنى واحد في التثنية والجمع دون المفرد ، بل اختار (قدس سره) أنّ الاستعمال حقيقي في التثنية والجمع ، واستدلّ على ذلك بأنّ التثنية في قوّة تكرار

ـــــــــــــــــــــ
(1) معالم الدين : 39 ـ 40 .

 
 

ــ[241]ــ

المفرد مرّتين ، والجمع في قوّة تكراره مرّات ، فقولنا : رأيت عينين في قوّة قولنا : رأيت عيناً وعيناً ، وكما يجوز أن يراد من العين الأوّل معنى ومن الثاني معنى آخر على نحو الحقيقة ، كذلك يجوز أن يراد المعنيان من التثنية .

وممّا يؤكد ذلك : صحّة التثنية في الأعلام الشخصية كقولك : زيدان ، فانّ المراد منه فردان متغايران لا محالة .

وما ذكره من أنّ الاستعمال حقيقي في التثنية والجمع لا يمكن المساعدة عليه أصلاً ، والوجه في ذلك هو أنّ للتثنية والجمع وضعين : أحدهما للمادة . والآخر للهيئة وهي الألف والنون أو الواو والنون .

أمّا المادة ، فهي موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات حتّى الخصوصية اللاّ بشرطية .

وأمّا الهيئة ، فهي موضوعة للدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها ، فحينئذ إن اُريد من المدخول ككلمة العين مثلاً في قولك : رأيت عينين، معنيان كالجارية والباكية ، أو الذهب والفضّة ، بناءً على ما حققناه من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فالهـيئة الطارئة عليها تدل على إرادة المتعدد منهما ، ويكون المراد من قولنا عينان حينئذ فردان من الجارية وفردان من الباكية ، أو فردان من الذهب وفردان من الفضّة ، فالتثنية تدل على أربعة أفراد .

وهذا وإن كان صحيحاً على ما ذكرناه ، إلاّ أ نّه أجنبي عن استعمال التثنية في أكثر من المعنى الواحد ، فانّه من استعمال المفرد في ذلك ، والتثنية مستعملة في معناه الموضوع له وهو الدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها . وهذا بعينه نظير ما إذا ثنّى ما يكون متعدداً من نفسه كالعشرة مثلاً أو الطائفة أو الجماعة أو القوم إلى غير ذلك ، كقولنا : رأيت طائفتين ، فكما أ نّه لم يذهب إلى وهم أحد أنّ التثنية في أمثال هذه الموارد مستعملة في أكثر من معنى واحد ، فكذلك في

ــ[242]ــ

المقام فلا فرق في ذلك بين المقامين أصلاً ، غاية الأمر أنّ المفرد هنا استعمل في المتعدد بالعناية دون هناك .

وكيف كان، فهذه الصورة غير مرادة لصاحب المعالم (قدس سره) يقيناً، لأنّ التثنية فيها لم تستعمل في أكثر من معنى واحد فلا معنى حينئذ لكونها حقيقة .

وإن اُريد من كلمة العين معنى واحد كالذهب مثلاً لتدل الهيئة على إرادة أكثر من طبيعة واحدة ، ففيه : أ نّه غير معقول وذلك لما عرفت من أنّ للتثنية وضعين :

أحدهما : للهيئة وهي تدل على إرادة المتعدد من المدخول .

والثاني : للمادة وهي تدل على الطبيعة المهملة . إذن إن اُريد بالمادة طبيعة واحدة كالذهب مثلاً ، فالهيئة تدل على إرادة المتعدد منه ويكون المراد من العينين فردين من الذهب ، وحيث إنّ المفروض في المقام إرادة طبيعة واحدة من المدخول ، فالتثنية تفيد تكرارها بارادة فردين منها ، ومع هذا كيف تدل على تعدد المدخول من حيث الطبيعة ، وليس هنا شيء آخر يكون دالاً على إرادة طبيعة اُخرى كالفضّة مثلاً .

نعم ، يمكن أن يؤوّل العين بالمسمّى ويراد من تثنيتها الفردان منه كالذهب والفضّة أو نحوهما ، كما هو الحال في تثنية الأعلام الشخصية ، إلاّ أ نّه أيضاً ليس من استعمال التثنية في أكثر من المعنى الواحد كما لا يخفى . مع أنّ هذا التأويل مجاز بلا كلام ولا شبهة .

وقد تحصّل من ذلك : أنّ تفصيل صاحب المعالم (قدس سره) باطل من أصله . فالصحيح هو ما ذكرناه من أ نّه يجوز الاستعمال في أكثر من معنى واحد ، بلا فرق في ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد . نعم ، هو خلاف الظهور العرفي .

ــ[243]ــ

ثمّ إنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بعد ما منع عن جواز الاستعمال في المعنيين قال : وهم ودفع : لعلّك تتوهم أنّ الأخبار الدالة على أنّ للقرآن بطوناً سبعة أو سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلاً عن جوازه . ولكنّك غفلت عن أ نّه لا دلالة لها أصلاً على أنّ إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ ، فلعلها كانت بارادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها . أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها ، انتهى (1) .

ويردّه : أ نّه لو كان المراد من البطون ما ذكره (قدس سره) أوّلاً لم يكن ذلك موجباً لعظمة القرآن على غيره ولفضيلته على سائر المحاورات ، لامكان أن يراد المعاني بأنفسها حال التكلم بالألفاظ في غير المحاورات القرآنية ، بل يمكن إرادتها كذلك حال التكلم بالألفاظ المهملة فضلاً عن الألفاظ الموضوعة ، فمن هذه الجهة لا فرق بين الكتاب وغيره ، بل لا فرق بين اللفظ المهمل والموضوع ، فالكل سواء ولا فضل لأحدهما على الآخر . على أنّ لازم ذلك أن لا تكون البطون بطوناً للقرآن ومعاني له ، بل كانت شيئاً أجنبياً عنه ، غاية الأمر أ نّها اُريدت حال التكلم بألفاظه ، وكلا الأمرين مخالف لصريح الروايات المشتملة على البطون ، فهي كما نطقت باثبات الفضيلة والعظمة للقرآن على غيره من جهة اشتماله على ذلك ، كذلك نطقت باضافة تلك البطون إليه وأ نّها معان للقرآن لا أ نّها شيء أجنبي عنه .

منها : «ما في القرآن آية إلاّ ولها ظاهر ، ظهر وبطن ... » إلخ (2) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 38 .
(2) البحار 92 : 94 / 47 .

ــ[244]ــ

ومنها : «وإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانّه شافع مشفّع ـ إلى أن قال ـ وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، وله تخوم وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه» (1) وما شاكلهما من الروايات الكثيرة .

وأمّا ما ذكره (قدس سره) ثانياً من أنّ المراد من البطون لوازم معناه وملزوماته ـ من دون أن يستعمل اللفظ فيها ـ التي لن تصل إلى إدراكها أفهامنا القاصرة إلاّ بعناية من أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) الذين هم أهل القرآن ، فهو الصحيح ، وتدلّنا على ذلك روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر إجمالاً بلا ريب :

منها : «إنّ القرآن حي لم يمت وأ نّه يجري كما يجري الليل والنهار وكما يجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا» (2) .

ومنها : «إنّ القرآن حي لا يموت والآية حيّة لا تموت ، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين» (3) .

ومنها : «لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات اُولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السّماوات والأرض ولكل قوم آية يتلونها ، هم منها من خير أو شر» (4) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 6 : 171 / أبواب قراءة القرآن ب 3 ح 3 وفيه «نجوم» بدل «تخوم» ، تفسير البرهان 1 : 14 .
(2) ، (3) البحار 35 : 403 ـ 404 .
(4) البحار 92 : 115 / 4 ، تفسير العياشي 1 : 10 .

ــ[245]ــ

ومن هنا قد ورد في عدّة من الروايات أنّ الآية من القرآن إذا فسّرت في شيء فلا تنحصر الآية به، وهو كلام متصل ينصرف على وجوه (1) ، وأنّ القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه(2). وهذا معنى أنّ للقرآن بطوناً لن تصل إليها أفهامنا القاصرة إلاّ بتوجيه من أهل البيت (عليهم السلام) كما وجّهنا إليها في بعض الموارد ، وقد دلّت على ذلك المعنى روايات كثيرة واردة من طرق العامّة والخاصّة . ومن أراد الاطلاع على مجموع هذه الروايات في جميع هذه الأبواب فليطلبها من مصادرها .

وفي بعض الروايات إشارة إلى صغرى هذه الكبرى وهو ما ورد : إنّ القرآن ظاهره قصة وباطنه عظة (3) ، فانّه في الظاهر بيّن قصص السابقين وقضاياهم كقصة بني إسرائيل وما شاكلها ، ولكنّها في الباطن عظة للناس وعبر ودروس لهم ، فانّ التأمّل في القضايا الصادرة عن الاُمم السابقة دروس وعبر لنا . وينبهنا على أنّ السير على منهاجه ينجينا عن الضلال ، وأنّ الكفر بنعم الله تعالى يوجب السخط على الكافرين والعاصين .

وعلى الجملة : أنّ قصص الكتاب في الظاهر وإن كانت حكايات وقصصاً إلاّ أ نّها في الباطن دروس وعبر للناس .
فقد أصبحت نتيجة هذا البحث لحدّ الآن اُموراً :

الأوّل : أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز على مسلك من يرى حقيقة الوضع التعهد والالتزام ، نعم هو خلاف الظهور عرفاً .

ـــــــــــــــــــــ
(1) البحار 92 : 94 / 45 ، 48 ، تفسير البرهان 1 : 45 ـ 46 .
(2) مجمع البيان 1 : 13 .
(3) لم نعثر عليه .

ــ[246]ــ

الثاني : أنّ المراد من بطون القرآن لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وملزوماته وملازماته ، من دون استعمال اللفظ فيها على ما نطقت به الروايات من طرق الخاصّة والعامّة .

الثالث : أنّ هذه البواطن التي تضمنها القرآن لا يعرفها إلاّ من خوطب به وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) .

ومن هنا قد وقفنا على بعضها في بعض الموارد بواسطة الآثار المنقولة منهم (عليهم السلام) .

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net