الأمر الثاني : قد سبق أنّ المصادر المزيد فيها ، بل المصادر المجردة والأفعال جميعاً ، خارجة عن محل النزاع ، لأ نّها غير جارية على الذوات .
أمّا المصادر ، فلأ نّها وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذوات خارجاً فلا تقبل الحمل عليها .
وأمّا الأفعال ، فلأ نّها وضعت للدلالة على نسبة المادة إلى الذات على أنحائها المختلفة باختلاف الأفعال ، فالفعل الماضي يدل على تحقق نسبة المبدأ إلى الذات ، والفعل المضارع يدل على ترقب وقوع تلك النسبة ، وفعل الأمر يدل على طلب تلك النسبة ، ومن المعلوم أنّ معانيها هذه تأبى عن الحمل على الذوات .
ثمّ إنّ المشهور بين النحويين دلالة الأفعال على الزمان وقالوا : إنّ الفعل الماضي يدل على تحقق المبدأ في الزمن السابق على التكلم ، والمضارع يدل على تحققه في الزمن المستقبل أو الحال ، وصيغة الأمر تدل على الطلب في الزمان الحال ، ومن هنا قد زادوا في حدّ الفعل الاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة ، دون الاسم والحرف .
ــ[267]ــ
ولكن الصحيح عدم دلالته على الزمان ، والوجه في ذلك : هو أنّ كون الزمان جزءاً لمدلول الأفعال باطل يقيناً ، لأ نّها لا تدل عليه لا مادة ولا هيئة ، أمّا بحسب المادة فظاهر ، لأ نّها لا تدل إلاّ على نفس الطبيعة المهملة غير مأخوذة فيها أيّة خصوصية فضلاً عن الزمان ، وأمّا بحسب الهيئة ، فقد تقدّم أنّ مفادها نسبة المادة إلى الذات على نحو من أنحاء النسبة ، فالزمان أجنبي عن مفاد الفعل مادة وهيئة .
والحاصل : أنّ احتمال كون الزمان جزءاً لمدلول الفعل فاسد في نفسه ، والقائلون بدلالته على الزمان لم يريدوا ذلك يقيناً .
وأمّا احتمال كون الزمان قيداً لمداليل الأفعال بأن يكون معنى الفعل مقيداً به على نحو يكون القيد خارجاً عنه والتقيد به داخلاً ، فهو وإن كان أمراً ممكناً في نفسه ، إلاّ أ نّه غير واقع ، وذلك لأنّ دلالة الأفعال عليه لا بدّ أن تستند إلى أحد أمرين : إمّا إلى وضع المادة أو إلى وضع الهيئة ، ومن الواضح أنّ المادة وضعت للدلالة على نفس طبيعي الحدث اللاّ بشرط ، والهيئة وضعت للدلالة على تلبّس الذات به بنحو من أنحائه كما عرفت ، وشيء منهما لا يدل عليه .
وممّا يدلّنا على ذلك : ما نرى من صحّة إسناد الأفعال إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه من المجردات الخالية عن الزمان والخارجة عن دائرته من دون لحاظ عناية في البين ، فلا فرق بين قولنا (علم الله) و (علم زيد) و (أراد الله) و (أراد زيد) و (مضى الزمان) و (مضى الأمر الفـلاني) فالفعل في جميع هذه الأمثلة استعمل في معنى واحد وعلى نسق فارد ، فلو كان الزمان مأخوذاً فيه قيداً لم يصح إسناده إلى نفس الزمان بلا لحاظ تجريد ، فانّ الزمان لا يقع في الزمان وإلاّ لدار أو تسلسل ، وكذا لم يصح إسناده إلى ما فوق الزمان من المجردات ، إذ أفعالها لا تقع في الزمان لأ نّها غير محدودة بحد ، وما كان في الزمان محدود بحد
ــ[268]ــ
لا محالة . وبهذا يستكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الزمان غير مأخوذ في الفعل لا جزءاً ولا قيداً .
نعم ، الفعل المسند إلى الزماني وإن كان يدل على وقوع الحدث في أحد الأزمنة الثلاثة ، إلاّ أ نّه ليس من جهة الوضع ، بل من جهة أنّ الأمر الزماني لا بدّ وأن يقع في أحد الأزمنة .
فتحصّل : أنّ الأفعال لا تدل على الزمان وأنّ استعمالها في جميع الموارد على نحو الحقيقة ، ولا فرق بين استعمالها في الزمان وما فوقه واستعمالها في الزماني ، فالإسناد في الجميع اسناد حقيقي .
ولكن مع هذا كلّه يمتاز الفعل الماضي عن المضارع بخصوصية ثابتة في كل واحد منهما ، ولأجل تلك الخصوصية لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر ويكون الاستعمال غلطاً واضحاً .
وتفصيل ذلك : أنّ الخصوصية في الفعل الماضي هي أ نّه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المادة مقيداً بكونه قبل زمان التكلم ، وهذه الدلالة موجودة في جميع موارد استعمالاته ، سواء أكان الإسناد إلى نفس الزمن وما فوقه أم إلى الزماني ، فقولنا : مضى الزمان ، يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق الزمن قبل زمن التكلم ، وإن كان الزمان لا يقع في ضمن الزمان، وكذا قولنا : علم الله وأراد الله وما شاكل ذلك ، يدل على أنّ المتكلم قاصد للإخبار عن تحقق المادة وتلبس الذات بها قبل زمن التكلم ، وإن كان صدور الفعل ممّا هو فوق الزمان لا يقع في زمان ، وكذلك إذا اُسند الفعل إلى الزماني كقولنا : قام زيد وضرب عمرو، فانّه يدل على قصد المتكلم الإخبار عن تحقق المبدأ وتلبّس الذات به قبل حال التكلم ، فهذه الخصوصية موجودة في الفعل الماضي في جميع موارد استعمالاته من دون دلالة له على وقوع المبدأ في الزمان الماضي .
ــ[269]ــ
نعم ، بين الإسناد إلى الزماني والإسناد إلى غيره فرق من ناحية اُخرى ، وهي أنّ الاسناد إلى الزماني يدل بالالتزام على وقوع الحدث في الزمان الماضي . فهذه الدلالة وإن كانت موجودة إلاّ أ نّها غير مستندة إلى أخذ الزمان في الموضوع له ، بل من جهة أنّ صدور الفعل من الزماني قبل حال التكلم يستلزم وقوعه في الزمان الماضي لا محالة .
وأمّا الخصوصية في الفعل المضارع ، فهي أ نّه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المادة في زمن التكلم أو ما بعده ، ولا يدل على وقوعها في الحال أو الاستقبال ، كيف فانّ دلالته على ذلك في جميع موارد إسناده على حد سواء ، فلا فرق بين إسناده إلى الزمن وما فوقه ، كقولنا (يمضي الزمان) و (يريد الله) و (يعلم الله) وبين إسناده إلى الزماني ، غاية الأمر إذا اُسند إلى الزماني يدل على وقوع المبدأ في الزمن الحال أو الاستقبال بالالتزام ، من جهة أنّ الفاعل الزماني يقع فعله في الزمن لا محالة ، وإلاّ فالمضارع بوضعه لا يدل إلاّ على تحقق المبدأ حال تحقق التكلم أو ما بعده من دون أن يدل على وقوعه في الزمان .
وقد تحصّل من ذلك أمران :
الأوّل : أنّ الأفعال جميعاً لاتدل على الزمان لابنحو الجزئية ولا بنحو القيدية، لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية . نعم ، إنّها تدل عليه بالدلالة الالتزامية إذا كان الفاعل أمراً زمانياً ، وهذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع ، بل هي مستندة إلى خصوصية الاسناد إلى الزماني ، ولذا هذه الدلالة موجودة في الجمل الإسمية أيضاً إذا كان المسند إليه فيها زمانياً ، فإذا قيل : زيد قائم ، فهو يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المبدأ وتلبس الذات به في الخارج بالمطابقة ، وعلى وقوعه في أحد الأزمنة الثلاثة بالالتزام .
الثاني : أن كلاً من الفعل الماضي والمضارع يدل على خصوصية بها يمتاز
ــ[270]ــ
أحدهما عن الآخر ، وتلك الخصوصية مأخوذة في المعنى على نحو التقييد ، فيكون معنى الفعل الماضي تحقق المادة مقيداً بكونه قبل زمن التلفظ بنحو دخول التقيد وخروج القيد ، ومعنى المضارع تحقق المادة مقيداً بكونه في زمن التكلم أو فيما بعده . هذا كلّه فيما إذا كان الفعل مطلقاً فيدل على تحقق المادة ونسبتها إلى الذات قبل زمن التكلم أو مقارناً معه أو متأخراً عنه . ولكن قد يقيد بالسبق واللحـوق أو التقارن بالاضافة إلى شيء آخر غير التكلم ، إذن لا يكون الماضي ماضياً حقيقة والمستقبل مستقبلاً كذلك ، وإنّما يكون ماضياً أو مستقبلاً بالاضافة إلى شيء آخر ، كما في قولنا : جاءني زيد قبل سنة وهو يضرب غلامه ، فاللحوق أو التقارن إنّما يلاحظ في هذا المثال بالقياس إلى شيء آخر وهو المجيء لا زمن التلفظ ، و [ قولنا : ] يجيء زيد في شهر كذا وقد ضرب عمراً قبله بأيام ، فالسبق هنا إنّما يلاحظ بالإضافة إلى شيء آخر وهو مجيء زيد ، لا زمن التكلم .
وعلى الجملة : لا ريب في صحّة استعمال الماضي والمضارع في هذه الموارد في اللغة العربية وغيرها .
فقد ظهر : أنّ الملاك في صحّة استعمال الماضي جامع السبق ، سواء كان بالإضافة إلى زمن التكلم أم كان بالإضافة إلى شيء آخر ، وإن كان الظاهر عند الإطلاق خصوص الأوّل، والملاك في صحّة استعمال المضارع جامع التقارن أو اللحوق ، وإن كان الظاهر عند الاطلاق خصوص التقارن أو اللحوق بالإضافة إلى زمن التكلم .
|