المعنى الاصطلاحي للأمر
حكى المحقق صاحب الكفاية (1) (قدس سره) أنّ الأمر قد نقل عن معناه الأصلي إلى القول المخصوص ، وهو هيئة (افعل) .
ـــــــــــــــــــــ (1) كفاية الاُصول : 62 .
ــ[348]ــ
ويرد عليه : أ نّه إن كان هذا مجرد اصطلاح ، فلا مشاحة فيه ، وإلاّ فلا وجه له أصلاً، وذلك لأنّ الظاهر أنّ الاشتقاق منه بحسب معناه الاصطلاحي ، وعليه فلو كان معناه الاصطلاحي القول المخصوص لم يمكن الاشتقاق منه لأ نّه جامد ، ومن الطبيعي أنّ مبدأ المشتقات لا بدّ أن يكون معنىً حدثياً قابلاً للتصريف والتغيير ، هذا من ناحية .
ومن ناحية اُخرى : أن يكون المبدأ خالياً عن جميع الخصوصيات ، ليقبل كل خصوصية ترد عليه .
ومن ثمة قلنا في بحث المشتق (1) إنّ المصدر لا يصلح أن يكون مبدأً له ، لعدم توفر الشرط الأسـاسي للمبدأ فيه ، وهو خلوّه عن جميع الأشكال والصور المعنوية واللفظية ، حتّى يقبل أيّة صورة ترد عليه ، نظير الهيولى في الأجسام ، حيث إنّها فاقدة لكل صورة افترضت ، ولذا تقبل كل صورة ترد عليها بشتّى أنواعها وأشكالها ، وبطبيعة الحال أ نّها لو لم تكن فاقدةً لها فلا تقبل صورة اُخرى ، لوضوح إباء كل صورة عن صورة اُخرى ، وكل فعلية عن فعلية ثانية .
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ القول المخصوص لا يصلح أن يكون مبدأً للمشتقات ، وأن يجعله شقة شقة ، لاستحالة تصريفه وورود هيئة اُخرى عليه ، فيكون نظير الجملة والمفرد والكلمة والكلام وما شاكل ذلك ممّا هو اسم لنفس اللفظ ، فانّها غير قابلة لأن تشتق منها المشتقات ، لعدم توفر الركيزتين الأساسيتين للمبدأ فيها : المعنى الحدثي ، الخلو من الخصوصيات .
نعم ، التلفظ بالقول المخصوص قابل لأن تشتق منه المشتقات وترد عليه الهيئات والصور ، وذلك لأنّ التلفظ إن لوحظ بنفسه مع عدم ملاحظة شيء
ـــــــــــــــــــــ (1) في ص 319 .
ــ[349]ــ
معه من الخصوصيات الخارجة عن حدود ذاته ، فهو مبدأ . وإن لوحظ قائماً بغيره فحسب فهو مصدر . وإن لوحظ زائداً على هذا وذاك وجوده وتحققه في الخارج قبل زمان التكلم فهو ماض ، وفي زمانه وما بعده فمضارع ، وهكذا . ولكن من المعلوم أ نّه لا صلة لذلك بما ذكرناه أصلاً .
ولكن لشيخنا المحقق (قدس سره) في هذا الموضوع كلام ، وهو أنّ الأمر بهذا المعنى أيضاً قابل للاشتقاق والتصريف ، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه :
وإن كان وجه الاشكال ما هو المعروف من عدم كونه معنىً حدثياً ، ففيه : أنّ لفظ «اضرب» صنف من أصناف طبيعة الكيف المسموع ، وهو من الأعراض القائمة بالمتلفظ به .
فقد يلاحظ نفسه من دون لحاظ قيامه وصدوره عن الغير ، فهو المبدأ الحقيقي الساري في جميع مراتب الاشتقاق .
وقد يلاحظ قيامه فقط ، فهو المعنى المصدري المشتمل على نسبة ناقصة .
وقد يلاحظ قيامه وصدوره في الزمان الماضي فهو المعنى الماضوي .
وقد يلاحظ صدوره في الحال أو الاستقبال ، فهو المعنى المضارعي وهكذا ، فليس هيئة (اضرب) كالأعيان الخارجية والاُمور غير القائمة بشيء حتّى لايمكن لحاظ قيامه فقط، أو في أحد الأزمنة . وعليه فالأمر موضوع لنفس الصيغة الدالة على الطلب مثلاً أو للصيغة القائمة بالشخص ، و «أَمَرَ» موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في المضي و «يأمر» موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في الحال أو الاستقبال (1) .
ـــــــــــــــــــــ (1) نهاية الدراية 1 : 254 .
ــ[350]ــ
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) وحاصله : أنّ ما ذكره في إطاره وإن كان في غاية الصحّة والمتانة ، إلاّ أ نّه لا صلة له بما ذكرناه ، والسبب في ذلك : أنّ لكل لفظ حيثيتين موضوعيتين :
الاُولى : حيثية صدوره من اللافظ خارجاً وقيامه به كصدور غيره من الأفعال كذلك .
الثانية : حيثية تحققه ووجوده في الخارج .
فاللفظ من الحيثية الاُولى وإن كان قابلاً للتصريف والاشتقاق ، إلاّ أنّ لفظ الأمر لم يوضع بازاء القول المخصوص من هذه الحيثية ، وإلاّ لم يكن مجال لتوهم عدم إمكان الاشتقاق والصرف منه ، بل هو موضوع بازائه من الحيثية الثانية ، ومن الطبيعي أ نّه بهذه الحيثية غير قابل لذلك كما عرفت . فما أفاده (قدس سره) مبني على الخلط بين هاتين الحيثيتين .
الجهة الثانية : هل أنّ العلوّ معتبر في معنى الأمر أم لا ؟
الظاهر اعتباره ، إذ لا يصدق الأمر عرفاً على الطلب الصادر من غير العالي ، وإن كان بنحو الاستعلاء وإظهار العلوّ .
وعلى الجملة : فصدوره من العالي منشأ لانتزاع عنوان الأمر والبعث والتحريك والتكليف وما شاكل ذلك ، دون صدوره عن غيره ، بل ربّما يوجب توبيخه باستعماله الأمر .
ويدلّنا على ذلك : مضافاً إلى مطابقة هذا للوجدان ، صحّة سلب الأمر عن الطلب الصادر من غير العالي ، بل يستحق التوبيخ عليه بقوله : أتأمر الأمير مثلاً ، ومن المعلوم أنّ التوبيخ لا يكون على أمره بعد استعلائه ، وإنّما يكون على استعلائه واستعماله الأمر .
|