1 ـ نظرية الأشاعرة : الكلام النفسي 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 10204


(1)

نظريّة الأشاعرة

الكلام النفسي ، ونقدها

ذهب الأشاعرة إلى أنّ كلامه تعالى من الصفات الذاتية العليا ، وهو قائم بذاته الواجبة ، قديم كبقية صفاته العليا من العلم والقدرة والحياة ، وليس من صفاته الفعلية كالخلق والرزق والرحمة وما شاكلها ، ولأجل ذلك قد اضطرّوا إلى الالتزام بأنّ كلامه تعالى نفسي ما وراء الكلام اللفظي ، وهو قديم قائم بذاته تعالى ، فانّ الكلام اللفظي حادث فلا يعقل قدمه ، وقد صرّحوا به في ضمن محاولتهم واستدلالهم على الكلام النفسي ، وإليكم نص مقولتهم :

وهذا الذي قالته المعـتزلة لا ننكره نحن ، بل نقول به ونسمّيه كلاماً لفظياً ، ونعترف بحدوثه ، وعدم قيامه بذاته تعالى، ولكنّا نثبت أمراً وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس ، الذي يعبّر عنه بالألفاظ، ونقول هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته تعالى، ونزعم أ نّه غير العبارات ، إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام، ولايختلف ذلك المعنى النفسي ، بل نقول ليس ينحصر الدلالة عليه في الألفاظ ، إذ قد يدل عليه بالاشارة والكتابة ، كما يدل عليه بالعبارة ، والطلب الذي هو معنى قائم بالنفس واحد لايتغير مع تغيّر العبارات ، ولا يختلف

ــ[357]ــ

باختلاف الدلالات ، وغير المتغير ـ أي ما ليس متغيراً وهو المعنى النفسي ـ مغاير للمتغير الذي هو العبارات ، ونزعم أ نّه ـ أي المعنى النفسي الذي هو الخبر ـ غير العلم، إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه، بل يعلم خلافه أو يشك فيه ، وأنّ المعنى النفسي الذي هو الأمر غير الارادة ، لأ نّه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمخـتبر لعبده هل يطيعه أم لا ، فانّ مقصـوده مجرد الاختبار ، دون الاتيان بالمأمور به ، وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه ، فانّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه .

واعترض عليه : بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته ، إذ لا طلب فيهما أصلاً ، كما لا إرادة قطعاً ، فإذن هو ـ أي المعنى النفسي الذي يعبّر عنه بصيغة الخبر والأمر ـ صفة ثالثة مغايرة للعلم والارادة، قائمة بالنفس ، ثمّ نزعم أ نّه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى(1).

ومن الغريب جداً ما نسب إلى الحنابلة في شرح المواقف وهذا نصّه : قال الحنابلة : كلامه حرف وصوت ، يقومان بذاته تعالى ، وأ نّه قديم ، وقد بالغوا فيه حتّى قال بعض جهلاً : الجلد والغلاف قديمان فضلاً عن المصحف (2) .

يتضمن هذا النص عدّة خطوط :

1 ـ إنّ لله تعالى سنخين من الكلام : النفسي واللفظي . والأوّل من صفاته تعالى ، وهو قديم قائم بذاته الواجبة دون الثاني .

2 ـ إنّ الكلام النفسي عبارة عن المعنى القائم بالنفس ، ويبرزه في الخارج بالألفاظ والعبارات بشتّى ألوانها وأشكالها ، ولا يختلف ذلك المعنى باختلافها ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف : 93 .
(2) شرح المواقف : 92 .

ــ[358]ــ

كما لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة .

3 ـ إنّهم عبّروا عن ذلك المعنى تارةً بالطلب ، واُخرى بالأمر، وثالثة بالخبر، ورابعة بصيغة الخبر .

4 ـ إنّ هذا المعنى غير العلم ، إذ قد يخبر الانسان عمّا لا يعلمه ، أو يعلم خلافه ، وغير الارادة إذ قد يأمر الرجل بما لايريده كالمختبر لعبده فانّ مقصوده الامتحان والاختبار ، دون الاتيان بالمأمور به في الخارج .

ولنأخذ بالنقد على هذه الخطوط جميعاً .

أمّا الأوّل : فسنبيّنه بشكل واضح في وقت قريب إن شاء الله تعالى : أنّ كلامه منحصر بالكلام اللفظي ، وأنّ القرآن المنزل على النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) هو كلامه تعالى ، بتمام سوره وآياته وكلماته ، لا أ نّه حاك عن كلامه ، لوضوح أنّ ما يحكي القرآن عنه ليس من سنخ الكلام ، كما سيأتي بيانه ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ السبب الذي دعا الأشاعرة إلى الالتزام بالكلام النفسي هو تخيل أنّ التكلم من صفاته الذاتية ، ولكن هذا الخيال خاطئ جداً ، وذلك لما سيجيء إن شاء الله تعالى بصورة واضحة أنّ التكلم ليس من الصفات الذاتية ، بل هو من الصفات الفعلية .

وأمّا الثاني : فيتوقف نقده على تحقيق حال الجمل الخبرية والإنشائية .

أمّا الاُولى : فقد حـققنا في بحث الإنشاء والإخـبار (1) أنّ الجمل الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع ، هذا بناءً على نظريتنا . وأمّا بناءً على نظرية المشهور ، فلأ نّها موضوعة

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 94 .

ــ[359]ــ

للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه . ومن الطبيعي أنّ مدلولها على ضوء كلتا النظريتين ليس من سنخ الكلام ليقال إنّه كلام نفسي ، ضرورة أنّ الكلام النفسي عند القائلين به وإن كان موجوداً نفسانياً ، إلاّ أنّ كل موجود نفساني ليس بكلام نفسي ، بل لا بدّ أن يكون سنخ وجوده سنخ وجود الكلام ، لفرض أ نّه ليس من سنخ وجود الصفات المعروفة الموجودة في النفس . ومن المعلوم أنّ قصد الحكاية على رأينا وثبوت النسبة على رأي المشهور ليس من ذلك .

وبكلمة واضحة : إذا حلّلنا الجمل الخبرية تحليلاً موضوعياً، وفحصنا مداليلها في إطاراتها الخاصّة، فلا نجد فيها سوى عدّة اُمور: الأوّل تصوّر معاني مفرداتها بموادها وهيئاتها . الثاني : تصوّر معاني هيئاتها التركيبية . الثالث : تصوّر مفردات الجملة . الرابع: تصوّر هيئاتها . الخامس: تصوّر مجموع الجملة . السادس : تصوّر معنى الجملة . السابع : التصديق بمطابقتها للواقع أو بعدم مطابقتها له . الثامن : إرادة إيجادها في الخارج . التاسع : الشك في ذلك .

وبعد ذلك نقول : إنّ شيئاً من هذه الاُمور ليس من سنخ الكلام النفسي عند القائلين به .

أمّا الأوّل : فواضح ، إذ الكلام النفسي عند القائلين به ليس من سنخ المعنى أوّلاً على ما سيأتي بيانه . وليس من سنخ المعنى المفرد ثانياً .

وأمّا الثاني : فلأنّ الكلام النفسي ـ كما ذكروه ـ صفة قائمة بالنفس كسائر الصفات النفسانية ، ومن الطبيعي أنّ المعنى ليس كذلك ، فانّه مع قطع النظر عن وجوده وتحققه في الذهن ليس قائماً بها ، ومع لحاظ وجوده وتحققه فيه وإن كان قائماً بها ، إلاّ أ نّه بهذا اللحاظ علم ، وليس بكلام نفسي على الفرض .

وعلى ضوء هذا البيان يظهر حال جميع الاُمور الباقية ، فانّ الثالث والرابع

ــ[360]ــ

والخامس والسادس والتاسع من مقولة العلم التصوري ، والسابع من مقولة العلم التصديقي ، والثامن من مقولة الارادة .

فالنتيجة : أنّ الكلام النفسي بهذا الاطار الخاص عند القائلين به غير متصوّر في موارد الجمل الخبرية ، وحينئذ فلا يخرج عن مجرد افتراض ولقلقة اللسان ، بلا واقع موضوعي له .

وأمّا الجمل الانشائية : فقد سبق الكلام فيها بشكل مفصل ، وقلنا هناك إنّ نظريتنا فيها تختلف عن نظريّة المشهور ، حيث إنّ المشهور قد فسّروا الانشاء بايجاد المعنى باللفظ .

ولكن قد حققنا هناك (1) أ نّا لا نعقل لذلك معنىً صحيحاً معقولاً ، والسبب في ذلك : هو أ نّهم لو أرادوا بالايجاد الايجاد التكويني، كايجاد الجوهر والعرض ، فبطلانه من البديهيات التي لا تقبل الشك ، ضرورة أنّ الموجودات الخارجية ـ بشتى أشكالها وأنواعها ـ ليست ممّا توجد بالألفاظ ، كيف والألفاظ ليست واقعةً في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها .

وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري كايجاد الوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية وغير ذلك ، فيردّه : أ نّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني ، من دون حاجة إلى اللفظ والتكلم به ، ضرورة أنّ اللفظ في الجملة الانشائية لا يكون علّة لايجاد الأمر الاعتباري ، ولا واقعاً في سلسلة علته ، لوضوح أ نّه يتحقق بنفس اعتبار المعتبر في اُفق النفس ، سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن .

ودعوى : أنّ مرادهم بذلك الايجاد التنزيلي ، ببيان أنّ وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه تنزيلاً ، ومن هنا يسري إليه قبح المعنى وحسنه ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 97 .

 
 

ــ[361]ــ

وعلى هذا صحّ أن يفسّروا الانشاء بايجاد المعنى خاطئة جداً ، وذلك لأنّ تمامية هذه الدعوى ترتكز على نطرية من يرى كون الوضع عبارة عن الهوهوية ، وجعل وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى ، ولكن قد ذكرنا في محلّه (1) أنّ هذه النظريّة باطلة، وقلنا هناك إنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهد والالتزام النفساني، وعليه فلا اتحاد بينهما لا حقيقةً وواقعاً ، ولا عنايةً ومجازاً ليكون وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً له .

وأمّا مسألة سراية القبح والحسن فهي لا ترتكز على النظرية المزبورة ، بل هي من ناحية كون اللفظ كاشفاً عنه ودالاً عليه ، ومن الطبيعي أ نّه يكفي لذلك وجود العلاقة الكاشفية بينهما ، ولا فرق في وجود هذه العلاقة بين نظرية دون اُخرى في مسألة الوضع .

وبعد ذلك نقول : إنّ مدلول الجمل الإنشائية على كلتا النظريتين ليس من سنخ الكلام النفسي عند القائلين به .

أمّا على نظرية المشهور فواضح ، لما عرفت من أنّ الكلام النفسي عندهم عبارة عن صفة قائمة بالنفس في مقابل سائر الصفات النفسانية ، وقديم كغيرها من الصفات الأزلية، وبطبيعة الحال أنّ إيجاد المعنى باللفظ فاقد لهاتين الركيزتين معاً ، أمّا الركيزة الاُولى فلأ نّه ليس من الاُمور النفسانية ليكون قائماً بها . وأمّا الثانية فلفرض أ نّه حادث بحدوث اللفظ ، وليس بقديم .

وأمّا على نظريتنا فأيضاً الأمر كذلك ، فان إبراز الأمر الاعتباري ليس من الاُمور النفسانية أيضاً .

فالنتيجة لحدّ الآن ، أ نّه لا يعقل في موارد الجمل الخبرية والانشائية ما

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 43 ، 48 .

ــ[362]ــ

يصلح أن يكون من سنخ الكلام النفسي ، ومن هنا قلنا إنّه لا يخرج عن مجرد وهم وخيال ، فلا واقع موضوعي له .

ثمّ انّه قد يتوهم أنّ صورة الكلام اللفظي المتمثلة في اُفق النفس هي كلام نفسي ، ولكن هذا التوهم خاطئ ، لسببين :

الأوّل : أنّ هذه الصورة وإن كانت موجودةً في اُفق النفس ومتمثلة فيه ، إلاّ أ نّها ليست بكلام نفسي ، ضرورة أنّ الكلام النفسي عند القائلين به مدلول للكلام اللفظي ، والمفروض أنّ تلك الصورة بهذا الاطار الخاص ليست كذلك ، لما عرفت من أنّ مدلول الكلام سواء أكان إخبارياً أم إنشائياً أجنبي عنها . أضف إلى ذلك : ما ذكرناه في محلّه (1) من أنّ الموجود بما هو موجود لا يعقل أن يكون مدلولاً للفظ ، من دون فرق في ذلك بين الموجود الخارجي والذهني . فإذن لا يمكن أن تكون تلك الصورة مدلولاً له لتكون كلاماً نفسياً . على أ نّها لا تختص بخصوص الكلام الصادر عن المتكلم بالاختيار ، بل تعم جميع الأفعال الاختيارية بشتى أنواعها وأشكالها ، حيث إنّ صورة كل فعل اختياري متمثلة في اُفق النفس قبل وجوده الخارجي .

الثاني : أنّ هذه الصورة نوع من العلم والتصور وهو التصور الساذج ، وقد تقدّم انّ الكلام النفسي عندهم صفة اُخرى في مقابل صفة العلم والارادة ونحوهما .

وقد تخيّل بعضهم أنّ الكلام النفسي عبارة عن الطلب المدلول عليه بصيغة الأمر . ولكن هذا الخيال فاسد جداً ، والسبب في ذلك ما حققناه سابقاً من أنّ الطلب وإن كان غير الارادة مفهوماً ومصداقاً ، إلاّ أ نّه ليس بكلام نفسي ، لما

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 56 .

ــ[363]ــ

عرفت من أ نّه عبارة عن التصدي نحو المقصود خارجاً، وهو من الأفعال الخارجية وليس من المفاهيم اللفظية في شيء حتّى يدعي أ نّه كلام نفسي ، ومن هنا قلنا إنّ الصيغة مصداق للطلب ، لا أ نّها وضعت بازائه .

فالنتيجة على ضوء هذا البيان أمران : الأوّل فساد توهم كون الطلب منشأ بالصيغة أو ما شاكلها . الثاني : أنّ الأشاعرة قد أخطأوا هنا في نقطة وأصابوا في نقطة اُخرى . أمّا النقطة الخاطئة فهي أ نّهم جعلوا الطلب من الصفات النفسانية ، وقد عرفـت خطأ ذلك . وأمّا النقطة الثانية فهي أ نّهم جعلوا الطلب مغايراً للارادة ذاتاً وعيناً وقد سبق صحّة ذلك .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net