5 ـ نظرية الإمامية : الأمر بين الأمرين 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 18076

 

(5)

نظريّة الإماميّة

مسألة الأمر بين الأمرين

إنّ طائفة الإمامية بعد رفض نظريّة الأشاعرة في أفعال العباد ونقدها صريحاً، ورفض نظريّة المعـتزلة فيها ونقدها كذلك ، اختارت نظريّة ثالثـة فيها وهي : الأمر بين الأمرين ، وهي نظريّة وسطى لا إفراط فيها ولا تفريط ، وقد أرشدت الطائفة إلى هذه النظريّة الروايات الواردة في هذا الموضوع من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) (1) الدالّة على بطلان الجبر والتفويض من ناحية ، وعلى إثبات

ـــــــــــــــــــــ
(1) وإليكم نصّ الروايات :
منها : صحيحة يونس بن عبدالرّحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليه السلام) «قالا : إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون ، قال : فسئلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا : نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض» [ اُصول الكافي 1 : 159 ح 9 ] .
ومنها : صحيحته الاُخرى عن الصادق (عليه السلام) قال : «قال له رجل : جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال : الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها ، فقال له : جعلت فداك ففوّض الله إلى العباد ؟ قال فقال : لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي ، فقال له : جعلت فداك فبينهما منزلة ؟ قال فقال : =

ــ[430]ــ

....................................................................................

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض» [ المصدر السابق ح 11 ] .
ومنها : صحيحة هشام وغيره قالوا : «قال أبو عبدالله الصادق (عليه السلام): إنّا لا نقول جبراً ولا تفويضاً» [ بحار الأنوار 5 : 4 ح 1 ].
ومنها : رواية حريز عن الصادق (عليه السلام) «قال : الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله (عزّ وجلّ) أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله (عزّ وجلّ) في حكمه وهو كافر . ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا وهن الله في سلطانه فهو كافر . ورجل يقول : إنّ الله (عزّ وجلّ) كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلم بالغ» [المصدر السابق ص 9 ح 14] .
ومنها : رواية صالح عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه السلام) قال : «سئل عن الجبر والقدر ، فقال : لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما ، لا يعلمها إلاّ العالم أو من علّمها إيّاه العالم» [ الكافي 1 : 159 ح 10 ] .
ومنها : مرسلة محمّد بن يحيى عن الصادق (عليه السلام) «قال: لا جبر ولاتفويض ، ولكن أمر بين أمرين» [ المصدر السابق ح 13 ] .
ومنها : رواية حفص بن قرط عن الصادق (عليه السلام) «قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله، ومن كذب على الله أدخله النار» [ المصدر السابق ح6 ].
ومنها : رواية مهزم قال : «قال أبو عبدالله (عليه السلام) أخبرني عمّا اختلف فيه من خلّفت من موالينا ، قال فقلت : في الجبر أو التفويض ؟ قال : فاسألني ، قلت : أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال : الله أقهر لهم من ذلك ، قال قلت : ففوّض إليهم ؟ قال : =

ــ[431]ــ

....................................................................................

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= الله أقدر عليهم من ذلك ، قال قلت : فأيّ شيء هذا أصلحك الله ؟ قال : فقلّب يده مرّتين أو ثلاثاً ثمّ قال : لو أجبتك فيه لكفرت» [ بحار الأنوار 5 : 53 ح 89 ] .
ومنها : مرسلة أبي طالب القمي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال قلت : «أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال : لا ، قلت : ففوّض إليهم الأمر ؟ قال قال : لا ، قال قلت : فماذا ؟ قال : لطف من ربّك بين ذلك» [ اُصول الكافي 1 : 159 ح 8 ] .
ومنها : رواية الوشاء عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال : «سألته فقلت : الله فوّض الأمر إلى العباد ؟ قال : الله أعزّ من ذلك ، قلت : فجبرهم على المعاصي ؟ قال : الله أعدل وأحكم من ذلك ، قال : ثمّ قال : قال الله يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيِّئاتك منّي عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك» [ المصدر السابق ح 3 ] .
ومنها : رواية هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) «قال : الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد» [ المصدر السابق ح 14 ] .
ومنها : ما روي عن الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) أ نّه «قال : لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» إلخ [ بحار الأنوار 5 : 17 ح 28 نقلاً عن الاعتقادات للشيخ الصدوق (ضمن مصنفات الشيخ المفيد) : 29 ] .
ومنها : رواية عن أبي حمزة الثمالي أ نّه قال «قال أبو جعفر (عليه السلام) للحسن البصري : إيّاك أن تقول بالتفويض ، فانّ الله (عزّ وجلّ) لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً» [ المصدر السابق ح 26 ] .
ومنها : رواية المفضل عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين» إلخ [ المصدر السابق ح 27 ] وغيرها من الروايات الواردة في =

ــ[432]ــ

الأمر بين الأمرين من ناحية اُخرى . ولولا تلك الروايات لوقعوا بطبيعة الحال في جانبي الافراط أو التفريط ، كما وقع أصحاب النظريتين الاُوليين .

وعلى ضوء هذه الروايات كان علينا أن نتّخذ تلك النظريّة لكي نثبت بها العدالة والسلطنة لله (سبحانه وتعالى) معاً ، بيان ذلك : أنّ نظريّة الأشاعرة وإن تضمنت إثبات السلطنة المطلقة للباري (عزّ وجلّ) إلاّ أنّ فيها القضاء الحاسم على عدالته (سبحانه وتعالى) ، وسنتكلم فيها من هذه الناحية في البحث الآتي إن شاء الله تعالى . ونظريّة المعتزلة على عكسها ، يعنى أ نّها وإن تضمّنت إثبات العدالة للباري تعالى إلاّ أ نّها تنفي بشكل قاطع سلطنته المطلقة وأسرفت في تحديدها .

وعلى هذا ، فبطبيعة الحال يتعيّن الأخذ بمدلول الروايات لا من ناحية التعبّد بها حيث إنّ المسألة ليست من المسائل التعـبّدية ، بل من ناحية أنّ الطريق الوسط الذي يمكن به حل مشكلة الجبر والتفويض منحصر فيه .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= هذا الموضوع ، وقد بلغت تلك الروايات من الكثرة بحدّ التواتر .
فهذه الروايات المتواترة معنىً وإجمالاً الواضحة الدلالة على بطلان نظريتي الجبر والتفويض من ناحية ، وعلى إثبات نظريّة الأمر بين الأمرين من ناحية اُخرى ، بوحدتها كافية لاثبات المطلوب فضلاً عمّا سلف من إقامة البرهان العقلي على بطلان كلتا النظريتين . وعلى هذا الأساس فكلّ ما يكون بظاهره مخالفاً لتلك الروايات فلا بدّ من طرحه بملاك أ نّه مخالف للسنّة القطعية وللدليل العلمي العقلي .
نعم ، قد فسّر الأمر بين الأمرين بتفسيرات اُخر وقد تعرّضنا لتلك التفسيرات في ضمن رسالة مستقلّة ، وناقشناها بصورة موسعة . كما تعرّضنا لنظريّة الفلاسفة فيها بكافّة اُسسها التي تقوم نظريّتهم على تلك الاُسس ونقدها بشكل موسع .

ــ[433]ــ

تفصيل ذلك : أنّ أفعال العباد تتوقف على مقدّمتين :

الاُولى : حياتهم وقدرتهم وعلمهم وما شاكل ذلك .

الثانية : مشيئتهم وإعمالهم القدرة نحو إيجادها في الخارج .

والمقدّمة الاُولى تفيض من الله تعالى وترتبط بذاته الأزلية ارتباطاً ذاتياً وخاضعة له ، يعنى أ نّها عين الربط والخضوع ، لا أ نّه شيء له الربط والخضوع . وعلى هذا الضوء لو انقطعت الافاضة من الله (سبحانه وتعالى) في آن ، انقطعت الحياة فيه حتماً . وقد أقمت البرهان على ذلك بصورة مفصّلة عند نقد نظريّة المعتزلة(1) وبينّا هناك أنّ سرّ حاجة الممكن إلى المبدأ كامن في صميم ذاته ووجوده ، فلا فرق بين حدوثه وبقائه من هذه الناحية ، أصلاً .

والمقدّمة الثانية : تفيض من العباد عند فرض وجود المقدمة الاُولى ، فهي مرتبطة بها في واقع مغـزاها ومتفرعة عليها ذاتاً ، وعليه فلا يصدر فعل من العبد إلاّ عند إفاضة كلتا المقدمتين ، وأمّا إذا انتفت إحداهما فلا يعقل تحققه . وعلى أساس ذلك صحّ إسناد الفعل إلى الله تعالى ، كما صحّ إسناده إلى العبد .

ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً عرفياً لتمييز كل من نظريتي الجبر والتفويض عن نظرية الإمامية، بيانه: أنّ الفعل الصادر من العبد خارجاً على ثلاثة أصناف :

الأوّل : ما يصدر منه بغير اختياره وإرادته ، وذلك كما لو افترضنا شخصاً مرتعش اليد وقد فقدت قدرته واختياره في تحريك يده ، ففي مثله إذا ربط المولى بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً ، وفرضنا أنّ في جنبه شخصاً راقداً وهو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع عليه فيهلكه حتماً . ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الفعل خارج عن اختياره ولا يستند إليه ، ولا يراه العقلاء مسؤولاً عن هذا

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 424 .

ــ[434]ــ

الحادث ولا يتوجه إليه الذم واللوم أصلاً ، بل المسؤول عنه إنّما هو من ربط يده بالسيف ويتوجه إليه اللوم والذم ، وهذا واقع نظريّة الجبر وحقيقتها .

الثاني : ما يصدر منه باختياره واستقلاله من دون حاجة إلى غيره أصلاً ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ المولى أعطى سيفاً قاطعاً بيد شخص حر وقد ملك تنفيذ إرادته وتحريك يده ، ففي مثل ذلك إذا صدر منه قتل في الخارج يستند إليه دون المعطي ، وإن كان المعطي يعلم أنّ إعطاءه السيف ينتهي به إلى القتل ، كما أ نّه يستطيع أن يأخذ السيف منه متى شاء ، ولكن كل ذلك لا يصحح استناد الفعل إليه ، فانّ الاستناد يدور مدار دخل شخص في وجوده خارجاً، والمفروض أ نّه لا مؤثر في وجوده ما عدا تحريك يده الذي كان مستقلاً فيه . وهذا واقع نظريّة التفويض وحقيقتها .

الثالث : ما يصدر منه باختياره وإعمال قدرته على رغم أ نّه فقير بذاته ، وبحاجة في كل آن إلى غيره بحيث لو انقطع منه مدد الغير في آن انقطع الفعل فيه حتماً، وذلك كما إذا افترضنا أنّ للمولى عبداً مشلولاً غير قادر على الحركة ، فربط المولى بجسمه تياراً كهربائياً ليبعث في عضلاته قوّةً ونشاطاً نحو العمل ، وليصبح بذلك قادراً على تحريكها ، وأخذ المولى رأس التيار الكهربائي بيده ، وهو الساعي لايصال القوّة في كل آن إلى جسم عبده بحيث لو رفع اليد في آن عن السلك الكهربائي انقطعت القوّة عن جسمه وأصبح عاجزاً .

وعلى هذا فلو أوصل المولى تلك القوّة إلى جسمه وذهب باختياره وقتل شخصاً والمولى يعلم بما فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما ، أمّا إلى العبد فحيث إنّه صار متمكناً من إيجاد الفعل وعدمه بعد أن أوصل المولى القوّة إليه وأوجد القدرة في عضلاته وهو قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى المولى فحيث إنّه كان معطي القوّة والقدرة له حتّى حال الفعل والاشتغال بالقتل ،

ــ[435]ــ

مع أ نّه متمكن من قطع القوّة عنه في كل آن شاء وأراد ، وهذا هو واقع نظريّة الأمر بين الأمرين وحقيقتها .

وبعد ذلك نقول : إنّ الأشاعرة تدّعي أنّ أفعال العباد من قبيل الأوّل ، حيث إنّها لم تصدر عنهم باختيارهم وإرادتهم بل هي جميعاً بارادة الله تعالى التي لا تتخلف عنها، وهم قد أصبحوا مضطرِّين إليها ومجبورين في حركاتهم وسكناتهم كالميت في يد الغسال ، ومن هنا قلنا إنّ في ذلك القضاء الحاسم على عدالته سبحانه وتعالى ، هذا من ناحية .
ومن ناحية اُخرى : قد تقدّم (1) نقد هذه النظريّة بشكل موسّع وجداناً وبرهاناً . وقد أثبتنا أنّ تلك النظريّة لا تتعدى عن مجرد الافتراض بدون أن يكون لها واقع موضوعي .

والمعتزلة تدّعي أنّ أفعال العباد من قبيل الثاني، وأ نّهم مستقلون في حركاتهم وسكناتهم، وإنّما يفتقرون إلى إفاضة الحياة والقدرة من الله تعالى حدوثاً فحسب، ولا يفتقرون إلى علّة جديدة بقاءً، بل العلّة الاُولى كافية في بقاء القدرة والاختيار لهم إلى نهاية المطاف. ومن هنا قلنا إنّ هذه النظريّة قد أسرفت في تحديد سلطنة الباري (سبحانه وتعالى) ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : قد سبق أنّ تلك النظريّة تقوم على أساس نظريّة الحدوث وهي النظريّة القائلة بأنّ سرّ حاجة الأشياء إلى أسبابها هو حدوثها ، ولكن قد أثبتنا آنفاً خطأ تلك النظريّة بشكل واضح، وأنّ سرّ حاجة الأشياء إلى أسبابها هو إمكانها الوجودي لا حدوثها ، ولا فرق فيه بين الحدوث والبقاء .

والإمامية تدّعي أنّ أفعال العباد من قبيل الثالث ، وقد عرفت أنّ النظريّة

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 386 وما بعدها .

ــ[436]ــ

الوسطى هي تلك النظريّة ـ الأمر بين الأمرين ـ ونريد الآن درس هذه النظريّة بصورة أعمق منطقياً وموضوعياً . قد تقدّم أنّ سر حاجة الأشياء إلى العلّة بصورة عامّة ـ الكامن في جوهر ذاتها وصميم وجودها ـ هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي في قبال واجب الوجود والغني بالذات ، ومعنى إمكانها الوجودي بالتحليل العلمي أ نّها عين الربط والتعلق ، لا ذات لها الربط والتعلق ، وإلاّ لكانت في ذاتها غنية وغير مفتقرة إلى المبدأ ، وفي ذلك انقلاب الممكن إلى الواجب وهو مستحيل ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخـرى : أ نّه لا فرق في ذلك بين وجودها في أوّل سلسلتها وحلقاتها التصاعدية ، وبين وجودها في نهاية تلك السلسلة ، لاشتراكهما في هذه النقطة وهي الامكان والفقر الذاتي ، وإلاّ لزم كون الممكن واجباً في نهاية المطاف .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ الأشياء الخارجية بكافّة أشكالها أشياء تعلّقية وارتباطية ، وأ نّها عين التعلق والارتباط ، وهو مقوّم لكيانها ووجودها ، فلا يعقل استغناؤها عن المبدأ ، ضرورة استحالة استغنائها عن شيء ترتبط به وتتعلق .

ومن نفس هذا البيان يظهر لنا أنّ الموجود الخارجي إذا لم يكن في ذاته تعلقياً وارتباطياً لا يشمله مبدأ العلّية ، بداهة أ نّه لا واقع للمعلول وراء ارتباطه بالعلّة ذاتاً ، فما لم يكن مرتبطاً بشيء كذلك لا يعقل أن يكون ذلك الشيء مبدأً له وعلّةً ، ومن هنا لا يكون كل مرتبط بشيء معلولاً له .

فبالنتيجة : أنّ الموجود الخارجي لا يخلو إمّا أن يكون ممكن الوجود وهو عين التعلق والارتباط ، أو يكون واجب الوجود وهو الغني بالذات ، ولا ثالث لهما . وعلى أساس ذلك أنّ تلك الأشياء كما تفتقر في حدوثها إلى إفاضة المبدأ ،

ــ[437]ــ

كذلك تفتقر في بقائها الذي هو الحدوث في الشوط الثاني ، ولا بدّ في بقائها واستمرارها من استمرار إفاضة الوجود من المبدأ عليها ، فلو انقطعت الافاضة عليها في آن ، ماتت تلك الأشياء فيه حتماً وانعدمت ، بداهة استحالة بقاء ما هو عين التعلق والارتباط بدون ما يتعلق به ويرتبط .

ونظيرها وجود النور داخل الزجاج بواسطة القوّة والطاقة الكهربائية التي تصل إليه بالأسلاك والتيارات من مركز توليدها ، ولا يمكن استغناء وجود النور بقاءً عن وجود هذه الطاقة ، فاستمرار وجوده فيه باستمرار وصول تلك الطاقة إليه آناً بعد آن، ولو انعدمت تلك الطاقة عنه في آن انعدم النور فيه فوراً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة الدقيقة : وهي أنّ الوجود الممكن بشتّى ألوانه وأشكاله وجود تعلقي وارتباطي ، فالتعلق والارتباط مقوّم لوجوده وكيانه ، وعلى أساس تلك النتيجة فالانسان يفتقر كل آن في حفظ كيانه ووجوده وقدرته إلى الافاضة من المبدأ عليه ، ولو انقطعت إفاضة الوجود منه مات كما لو انقطعت إفاضة القدرة عنه عجز .

وقد يناقش في هذه النتيجة : بأ نّها مخالفة لظواهر الأشياء الكونية ، فانّها باقية بعد انتفاء علّتها ، ولو كان وجود المعلول وجوداً تعلّقياً ارتباطياً لم يعقل بقاؤه بعد انتفاء علّته .

والجواب عن هذه المناقشة : قد تقدّم بصورة مفصّلة (1) عند نقد نظريّة المعتزلة ، وأثبتنا هناك أنّ المناقش بما أ نّه لم يصل ألى تحليل مبدأ العلّية لتلك الظواهر حدوثاً وبقاءً وقع في هذا الخطأ والاشتباه فلاحظ .

لا بأس أن نشير في ختام هذا الشوط إلى نقطتين :
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 426 .

ــ[438]ــ

الاُولى : أنّ مردّ حديثنا عن أنّ الأشياء الخارجية بكافّة أنواعها أشياء تعلّقية وارتباطية تتعلق بالمبدأ الأعلى وترتبط به ، ليس إلى نفي العلّية بين تلك الأشياء ، بل مردّه إلى أنّ تلك الأشياء بعللها ومعاليلها تتصاعد إلى سبب أعمق وتنتهي إلى مبدأ أعلى ما وراء حدودها ، والسبب في ذلك : أنّ تلك الأشياء بكافّة سلسلتها التصاعدية وحلقاتها الطولية والعرضية خاضعة لمبدأ العلّية ، ولا يمكن افتراض شيء بينها متحرر عن هذا المبدأ ، ليكون هو السبب الأوّل لها ، فإذن لا بدّ من انتهاء السلسلة جميعاً في نهاية المطاف إلى علّة غنية بذاتها ، لتقطع السلسلة بها وتضع لها بداية أزلية .

مثلاً بقاء ظواهر الأشياء استند إلى بقاء عللها ، وهي الخاصية الموجودة في موادها من ناحية، والقوّة الجاذبية التي تفرض المحافظة عليها من ناحية اُخرى ، وترتبط تلك الظواهر بهما ارتباطاً ذاتياً ، فلا يعقل بقاؤها على وضعها بدونهما ، ثمّ ننقل الكلام إلى عللها وهي تواجه نفس مسألة الافتقار إلى مبدأ العلّية وهكذا إلى أن تصل الحلقات إلى السبب الأعلى الغني بالذات المتحرر من مبدأ العلّية .

الثانية : أنّ ارتباط المعلول بالعلّة الطبيعية يفترق عن ارتباط المعلول بالعلّة الفاعلية في نقطة ، ويشترك معه في نقطة اُخرى .

أمّا نقطة الافتراق : فهي أنّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلّة وينبثق من صميم كيانها ووجودها ، ومن هنا قلنا إنّ تأثير العلّة في المعلول يقوم على ضوء قانون التناسب . وأمّا المعلول في الفواعل الارادية فلا يرتبط بذات الفاعل والعلّة ولا ينبثق من صميم وجودها ، ومن هنا لا يقوم تأثيره فيه على أساس مسألة التناسب . نعم ، يرتبط المعلول فيها بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته ارتباطاً ذاتياً ، يعنى يستحيل انفكاكه عنها حدوثاً وبقاءً ، ومتى تحققت

ــ[439]ــ

المشيئة تحقق الفعل ، ومتى انعدمت انعدم . وعلى ذلك فمردّ ارتباط الأشياء الكونية بالمبدأ الأزلي وتعلّقها به ذاتاً إلى ارتباط تلك الأشياء بمشيئته وإعمال قدرته ، وأ نّها خاضعة لها خضوعاً ذاتياً وتتعلق بها حدوثاً وبقاءً ، فمتى تحققت المشيئة الإلهية بايجاد شيء وجد ، ومتى انعدمت انعدم ، فلا يعقل بقاؤه مع انعدامها ، ولا تتعلق بالذات الأزلية ، ولا تنبثق من صميم كيانها ووجودها ، كما عليه الفلاسفة .

ومن هنا قد استطعنا أن نضع الحجر الأساسي للفرق بين نظريّتنا ونظريّة الفلاسفة ، فبناءً على نظريّتنا ارتباط تلك الأشياء بكافّة حلقاتها بمشيئته تعالى وإعمال سلطنته وقدرته ، وبناءً على نظريّة الفلاسفة ارتباطها في واقع كيانها بذاته الأزلية وتنبثق من صميم وجودها ، وقد تقدّم عرض هذه الناحية ونقدها في ضمن البحوث السابقة بشكل موسع .

وأمّا نقطة الاشتراك : فهي أنّ المعلول كما لا واقع له ما وراء ارتباطه بالعلّة وتعلّقه بها تعلّقاً في جوهر ذاته وكيان وجوده ، لما مضى من أنّ مطلق الارتباط القائم بين شيئين لا يشكّل علاقة العلّية بينهما ، فكذلك الفعل لا واقع موضوعي له ما وراء ارتباطه بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته وتعلّقه بها تعلّقاً في واقع ذاته وكيانه ، ويدور وجوده مدارها حدوثاً وبقاءً ، فمتى شاء إيجاده وجد ، ومتى لم يشأ لم يوجد .

فالنتيجة : أنّ المعلول الطبيعي والفعل الاختياري يشتركان في أنّ وجودهما عين الارتباط والتعلق ، لكن الأوّل تعلق بذات العلّة ، والثاني بمشيئة الفاعل لا بذاته ، رغم أنّ صدور الأوّل يقوم على أساس قانون التناسب ومبدأ الحتم والوجوب ، وصدور الثاني يقوم على أساس الاختيار ، وقد تقدّم (1) درس هذه

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 400 .

ــ[440]ــ

النواحي بصورة موسّعة في ضمن البحوث السالفة .

قد انتهينا في نهاية المـطاف إلى هذه النتيجة : وهي أنّ للفعل الصـادر من العبد نسبتين واقعيتين :

إحداهما : نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته .

وثانيتهما : نسبته إلى الله تعالى باعتبار أ نّه معطي الحياة والقدرة له في كل آن وبصورة مستمرة حتّى في آن اشتغاله بالعمل ، وتلك النتيجة هي المطابقة للواقع الموضوعي والمنطق العقلي ولا مناص عنها ، ومردّها إلى أنّ مشيئة العبد تتفرع على مشيئة الله (سبحانه وتعالى) وإعمال سلطنته ، وقد أشار إلى هذه الناحية في عدّة من الآيات الكريمة .

منها قوله تعالى : (وَمَا تَشَـاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَـاءَ الله )(1) حيث قد أثبت (عزّ وجلّ) أ نّه لا مشيئة للعباد إلاّ بمشيئة الله تعالى ، ومدلول ذلك كما مضى في ضمن البحوث السابقة (2) أنّ مشيئة الله تعالى لم تتعلق بأفعال العباد وإنّما تتعلق بمبادئها كالحياة والقدرة وما شاكلهما، وبطبيعة الحال أنّ المشيئة للعبد إنّما تتصور في فرض وجود تلك المبادئ بمشيئة الله سبحانه ، وأمّا في فرض عدمها بعدم مشيئة الباري (عزّ وجلّ) فلا تتصور ، لأ نّها لا يمكن أن توجد بدون وجود ما تتفرّع عليه ، فالآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى .

ومنها قوله تعالى : (وَلاَ تَقُـولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاءَ

ـــــــــــــــــــــ
(1) الانسان 76 : 30 .
(2) في ص 417 .

 
 

ــ[441]ــ

اللهُ)(1) حيث قد عرفت أنّ العبد لا يكون فاعلاً لفعل إلاّ أن يشاء الله تعالى حياته وقدرته ونحوهما ممّا يتوقف عليه فعله خارجاً ، وبدون ذلك لا يعقل كونه فاعلاً له ، وعليه فمن الطبيعي أنّ فعله في الغد يتوقف على تعلّق مشيئة الله تعالى بحياته وقدرته فيه ، وإلاّ استحال صدوره منه ، فالآية تشير إلى هذا المعنى .

ويحتمل أن يكون المراد من الآية معنى آخر ، وهو أ نّكم لا تقولون لشيء سنفعل كذا وكذا غداً إلاّ أن يشأ الله خلافه ، فتكون جملة (إلاّ أنْ يشاء الله)مقولة القول ، ويعبّر عن هذا المعنى في لغة الفرس «اگر خدا بگذارد» ومرجع هذا المعنى إلى استقلال العبد وتفويضه في فعله إذا لم يشأ الله خلافه ، ولذا منعت الآية المباركة عن ذلك بقوله (وَلا تَقُولنّ لِشَيء) إلخ ، ولعل هذا المعنى أظهر من المعنى الأوّل كما لا يخفى .

ومنها قوله تعالى : (قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ)(2) حيث قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية الكريمة لا تدل على الجبر ، بل تدل على واقع الأمر بين الأمرين، بتقريب أنّ المشيئة الإلهية لو لم تتعلق بافاضة الحياة للانسان والقدرة له فلا يملك الانسان لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا يقدر على شيء ، بداهة أ نّه لا حياة له عندئذ ولا قدرة كي يكون مالكاً وقادراً ، فملكه النفع أو الضر لنفسه يتوقف على تعلّق مشيئته تعالى بحياته وقدرته آناً فآناً ، ويدور مداره حدوثاً وبقاءً ، وبدونه فلا ملك له أصلاً ولا سلطان .

ومنها قوله تعالى : (يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ)(3) حيث قد أسندت

ـــــــــــــــــــــ
(1) الكهف 18 : 23 ـ 24 .
(2) يونس 10 : 49 .
(3) النحل 16 : 93 .

ــ[442]ــ

الآية الكريمة الضـلالة والهداية إلى الله (سبحانه وتعالى) مع أ نّهما من أفعال العباد ، وسرّه ما ذكرناه من أنّ أفعال العـباد وإن لم تقع تحت مشيئة الباري (عزّ وجلّ) مباشرةً، إلاّ أنّ مبادئ تلك الأفعال بيد مشيئته تعالى وتحت إرادته ، وقد تقدّم (1) أنّ هذه الجهة كافية لصحّة إسناد هذه الأفعال إليه تعالى حقيقةً من دون عناية ومجاز .

فالنتيجة : أنّ هذه الآيات وأمثالها تطابق نظريّة الأمر بين الأمرين ولا تخالفها . وتوهم أنّ أمثال تلك الآيات تدل على نظريّة الجبر خاطئ جداً ، فان هذا التوهم قد نشأ من عدم فهم معنى نظريّة الأمر بين الأمرين فهماً صحيحاً كاملاً ومطابقاً للواقع الموضوعي ، وأمّا بناءً على ما فسّرنا به هذه النظريّة فلا يبقى مجال لمثل هذا التخيل والتوهم أبداً .

ثمّ إنّه لا بأس بالاشارة في نهاية المطاف إلى نقطتين :

الاُولى : أنّ الفخر الرازي قد أورد شبهةً على ضوء الهيئة القديمة وحاصلها : هو أنّ الله تعالى خلق الكائنات على ترتيب خاص وحلقات تصاعدية مخصوصة ، وهي أ نّه تعالى خلق الكرة الأرضية وجعلها نقطة الدائرة ومركزاً لها ، ثمّ كرة الماء ، ثمّ كرة الهواء ، ثمّ كرة النار ، ثمّ الفلك الأوّل ، وهكذا إلى أنّ ينتهي إلى الفلك التاسع وهو فلك الأفـلاك المسمّى بالفلك الأطلس ، وأمّا ما وراءه فلا خلأ ولا ملأ ولا يعلمه إلاّ الله (سبحانه وتعالى) ثمّ إنّه تعالى جعل لكل من تلك الكرات والأفلاك حركة خاصّة من القسرية والطبيعية ، فجعل حركة الشمس مثلاً من المشرق إلى المغرب ، ولم يجعلها من الشمال إلى الجنوب أو من المغرب إلى المشرق ، وهكذا .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 433 .

ــ[443]ــ

وبعد ذلك قال : إنّ للسائل أن يسأل عن أنّ الله تعالى لم لم يجعل العالم على شكل آخر وترتيب ثان بأن يجعل حركة الشمس مثلاً من المغرب إلى المشرق ، وهكذا، وبأيّ مرجح جعل العالم على الشكل الحالي دون غيره ، فيلزم الترجيح من دون المرجح وهو محال .

وحكى صدر المتألهين هذه الشبهة عنه في مشاعره(1) وأجاب عنها بعدّة وجوه.

ونقل شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(2) أنّ صدر المتألهين قد تعرّض لهذه الشبهة في شرح اُصول الكافي ، ولكن لم يأت بالجواب عنها إلاّ باللعن والشتم واعترف بأ نّه أتى بشبهة لا جواب لها .

وغير خفي أنّ إيراد الفخر هذه الشبهة على ضوء الهيئة القديمة لا من جهة ابتناء الشـبهة عليها ، بل من ناحية أنّ أفكارهم عن العالم في ذلك العصر وتصوّرهم عنه كانت قائمة على أساس تلك الهيئة ، وإلاّ فالشبهة غير مختصة بها ، بل تجيء على ضوء الأفكار الجديدة عن العالم في العصر الحاضر أيضاً ، حيث إنّ للسائل أن يسأل عن أنّ الله تعالى لماذا جعل حركة الأرض حول الشمس دون العكس ، وهكذا .

ولنأخذ بالنقد في هذه الشبهة على ضوء كلتا النظريتين ، يعني : نظريتنا ونظريّة الفلاسفة .

أمّا على نظريّتنا، فلأ نّها ساقطة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، والسبب في ذلك : هو أنّ الفعل الاختياري إنّما يفتقر في وجوده إلى إعمال قدرة الفاعل

ـــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ شرح المشاعر : 289 .
(2) أجود التقريرات 1 : 140 .

ــ[444]ــ

واختياره ، فمتى أعمل قدرته نحو إيجاده وجد وإلاّ فلا ، سواء أكان هناك مرجّح خارجي يقتضي وجوده أم لم يكن ، وهذا بخلاف المعلول فانّ صدوره عن العلّة إنّما هو في إطار قانون التناسب ، ويستحيل صدوره في خارج هذا الإطار ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : قد ذكرنا في بحث الوضع (1) أنّ الترجيح بلا مرجّح لم يكن قبيحاً فضلاً عن كونه مستحيلاً، وذلك كما إذا تعلّق الغرض بصرف وجود الطبيعي في الخارج وافترضنا أنّ أفراده كانت متساوية الأقدام بالاضافة إليه ، فعندئذ اختيار أيّ فرد منها دون آخر لم يكن قبيحاً فضلاً عن كونه محالاً . نعم ، اختيار فعل من دون تعلّق غرض به لا بشخصه ولا بنوعه لغو وقبيح ، لا أ نّه محال .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ المشيئة الإلهية حيث تعلّقت بخلق العالم وإيجاده ، فاختياره تعالى هذا الشكل الخاص له والترتيب المخصوص المشتمل على الأنظمة الخاصّة المعيّنة من بين الأشكال المتعددة المفترض تساويها لا يكون قبيحاً فضلاً عن كونه محالاً .

على أنّ الترجيح بلا مرجّح لو كان قبيحاً لقلنا بطبيعة الحال بوجود المرجّح في اختياره ، وإلاّ استحال صدوره من الحكيم تعالى ، بداهة أ نّه ليس بامكاننا نفي وجود المرجّح فيه ودعوى تساويه مع بقية الأفراد والأشكال ، وكيف كان فالشبهة واهية جداً .

وأمّا على نظريّة الفلاسفة ، فالأمر أيضاً كذلك ، والوجه فيه : أنّ صدور

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 34 .

ــ[445]ــ

المعلول عن العلّة وإن كان يحتاج إلى وجود مرجّح ، إلاّ أنّ المرجّح عبارة عن وجود التناسب بينهما ، وبدونه يستحيل صدوره منها . وعلى هذا الأساس لا محالة يكون وجود العالم بهذا الشكل والترتيب الخاص معلولاً لعلّة مناسبة له وإلاّ استحال وجوده كذلك .

وبكلمة اُخرى : قد تقدّم (1) أنّ تأثير العلّة في المعلول على ضوء قانون التناسب بينهما ، وعليه فالتناسب الموجود بين العالم وعلّته لا يخلو من أن يكون موجوداً بين وجوده بهذا الشكل ووجود علّته أو يكون موجوداً بين وجوده بشكل آخر ووجود علّته ، ولا ثالث لهما ، فعلى الأوّل يجب وجوده بالشكل الحالي ويستحيل وجوده بشكل آخر ، وعلى الثاني عكس ذلك ، وحيث إنّ العالم قد وجد بهذا الشكل فنستكشف عن وجود المرجّح فيه لا في غيره .

الثانية : قد عرفت أنّ للفعل الصادر من العبد إسنادين حقيقيين :

أحدهما : إلى فاعله مباشرة .

وثانيهما : إلى معطي مقدّماته ومبادئه التي يتوقف الفعـل عليها ، وهو الله (سبحانه وتعالى) .

ولكن قد يكون إسناده إلى الله تعالى أولى في نظر العرف من إسناده إلى العبد ، وقد يكون بالعكس ، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال : وهو أنّ من هيّأ جميع مقدّمات سفر شخص إلى زيارة بيت الله الحرام مثلاً من الزاد والراحلة ونحوهما وسعى له في إنجاز تمام مهماته وقد أنجزها حتّى أحضر له سيّارةً خاصّة أو طائرة فلم يبق إلاّ أن يركب فيها ويذهب بها إلى الحج ، فعندئذ إذا ركب فيها

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 401 .

ــ[446]ــ

وذهب وأدى تمام المناسك ، فالعرف يرى أولوية إسناد هذا العمل إلى من هيّأ له المقدمات دون فاعله . وأمّا لو استغلّ هذا الشخص الطائرة وذهب بها إلى مكان لا يرضى الله ورسوله به وعمل ما عمل هناك ، فالفعل في نظر العرف مستند إلى فاعله مباشرةً دون من هيّأ المقدّمات له.

وكذلك الحال في أفعال العباد ، فان كافّة مبادئها من الحياة والقدرة ونحوهما تحت مشيئته تعالى وإرادته كما عرفت سابقاً، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : أنّ الله تعالى قد بيّن طريق الحق والباطل، والهداية والضلال، والسعادة والشقاوة ، وما يترتب عليهما من دخول الجنّة والنار بارسال الرسل وإنزال الكتب .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ الله تعالى يعطي تلك المبادئ والمقدّمات لهم ليصرفوها في سبل الخير وطرق الهداية والسعادة ويرتكبوا بها الأفعال الحسنة ، لا في سبل الشر وطرق الضلالة والشقاوة ، وعندئذ بطبيعة الحال الأفعال الصـادرة منهم إن كانت حسنة ومصداقاً لسبل الخير وطرق الهداية لكان استنادها في نظر العرف إلى الله تعالى أولى من استنادها إليهم ، وإن كانت قبيحةً ومصداقاً لسبل الشرّ وطرق الضلالة ، لكان استنادها إليهم أولى من استنادها إليه (سبحانه وتعالى) وإن كان لا فرق بينهما في نظر العقل .

وعلى هذا نحمل ما ورد في بعض الروايات بهذا المضمون «إنِّي أولى بحسناتك من نفسك وأنت أولى بسيِّئاتك منّي» (1) فانّ النظر فيـه إلى ما ذكـرناه من التفاوت في نظر العرف دون النظر الدقي العقلي . وهذا لا ينافي ما حـققناه من صحّة استناد العمل إلى الله تعالى وإلى فاعله المباشر حقيقةً .

ـــــــــــــــــــــ
(1) اُصول الكافي 1 : 160 ح 12 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net