ــ[471]ــ
صيغة الأمر
وأمّا المقام الثاني : هيئة افعل وما شاكلها من الهيئات فالكلام فيه يقع من جهات :
الاُولى : قد ذكر لصيغة الأمر عدّة معان : الطلب، التهديد، الانذار، الاحتقار، الاهانة ، الترجي ، وغير ذلك .
ولكن ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أنّ هذه المعاني ليست من معاني الصيغة ، وأ نّها لم تستعمل فيها وإنّما استعملت في إنشاء الطلب فحسب . وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه :
ضرورة أنّ الصيغة ما استعملت في واحد منها ، بل لم تستعمل إلاّ في إنشاء الطلب ، إلاّ أنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي يكون اُخرى أحد هذه الاُمور ، وقصارى ما يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك ، لا بداعي آخر منها ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثاً حقيقةً وإنشاؤه بها تهديداً مجازاً ، وهذا غير كونها مستعملةً في التهديد وغيره .
ثمّ ذكر بقوله : ولا يخفى أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ الانشائية، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني والترجي والاستفهام بصيغها تارةً هو ثبوت هذه الصفات حقيقة ، يكون الداعي غيرها اُخرى ، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى ، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقّه (تبارك وتعالى) ممّا لازمه العجز أو الجهل وأ نّه لا وجه له ، فانّ المستحيل إنّما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي الذي يكون بمجرّد
ــ[472]ــ
قصد حصوله بالصيغة ، كما عرفت ، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضاً ، لا لاظهار ثبوتها حقيقةً ، بل لأمر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبّة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك . ومنه ظهر أنّ ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً (1) .
ملخّص ما أفاده (قدس سره) هو أنّ صيغة الأمر موضوعة لمعنى واحد وهو الطلب الانشائي وتستعمل فيه دائماً ، نعم يختلف الداعي إلى إنشائه ، فقد يكون هو الطلب الحقيقي ، وقد يكون التهديد ، وقد يكون الاحتقار ، وقد يكون أمراً آخر ، فبالأخرة يكون المورد من اشتباه الداعي بالمعنى ثمّ قال : إنّ الأمر في سائر الصيغ الانشائية أيضاً كذلك .
ولنأخذ بالمناقشة عليه : وهي أنّ ما أفاده (قدس سره) يرتكز على نظريّة المشهور في مسألة الانشاء وهي إيجاد المعنى باللفظ في مقابل الاخبار ، إذ على ضوء هذه النظريّة يمكن دعوى أنّ صيغة الأمر موضوعة للدلالة على إيجاد الطلب وتستعمل فيه دائماً ، ولكن الداعي إلى إيجاده يختلف باختلاف الموارد وخصوصيات المقامات . ولكن قد ذكرنا في مبحث الانشاء (2) أنّ هذه النظريّة ساقطة فلا واقع موضوعي لها ، وقلنا إنّ اللفظ لا يعقل أن يكون موجداً للمعنى لا حقيقةً ولا اعتـباراً . ومن ذلك فسّرنا حقيقة الانشاء هناك بتفسير آخر وحاصله : هو أنّ الانشاء عبارة عن اعتبار الأمر النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكل ذلك .
وعلى ضوء هذا التفسير لا مانع من الالتزام بتعدّد المعنى لصيغة الأمر ، بيان
ـــــــــــــــــــــ (1) كفاية الاُصول : 69 . (2) في ص 98 .
|