وبعد ذلك نقول : لا كلام ولا إشكال فيما إذا علم كون الواجب توصلياً أو تعبّدياً بالمعنى الأوّل أو الثاني، وإنّما الكلام والاشكال فيما إذا شكّ في كون الواجب توصلياً أو تعبدياً . والكلام فيه تارة يقع في الشك في التوصلي والتعبدي بالمعنى
ــ[495]ــ
الثاني . وتارةً اُخرى يقع في الشك فيه بالمعنى الأوّل . فهنا مقامان :
أمّا الكلام في المقام الأوّل فيقع في مسائل ثلاث :
الاُولى : ما إذا ورد خطاب من المولى متوجهاً إلى شخص أو جماعة وشككنا في سقوطه بفعل الغير ، فقد نسب إلى المشهور أنّ مقتضى الاطلاق سقوطه وكونه واجباً توصلياً ، من دون فرق في ذلك بين كون فعل الغير بالتسبيب أو بالتبرع ، أو بغير ذلك . وقد أطال شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) الكلام في بيانهما ، ولكنّا لا نحتاج إلى نقله ، بل هو لا يخلو عن تطويل زائد وبلا أثر حيث نبيّن الآن إن شاء الله تعالى أنّ مقتضى الاطلاق ـ لو كان ـ هو عكس ما نسب إلى المشهور، وأ نّه لايسقط بفعل غيره ، بلا فرق بين كونه بالتسبيب أو بالتبرع ، والسبب في ذلك : أنّ التكليف هنا بحسب مقام الثبوت يتصوّر على أحد أشكال :
الأوّل : أن يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وفعل غيره ، فيكون مردّه إلى كون الواجب أحد فعلين على سبيل التخيير .
وفيه : أنّ هذا الوجه غير معقول ، وذلك لأنّ فعل الغير خارج عن اختيار المكلف وإرادته ، فلا يعقل تعلّق التكليف بالجامع بينه وبين فعل نفسه .
وبكلمة اُخرى : أنّ الاطلاق بهذا الشكل في مقام الثبوت والواقع غير معقول ، لفرض أ نّه يبتني على أساس إمكان تعلّق التكليف بفعل الغير وهو مستحيل ، فإذن بطبيعة الحال يختص التكليف بفعل المكلف نفسه فلا يعقل إطلاقه .
أو فقل : إنّ الاهمال في الواقع غير معقول ، فيدور الأمر بين الاطلاق وهو تعلّق التكليف بالجامع ، والتقييد وهو تعلّق التكليف بحصّة خاصّة ، وحيث إنّ
ـــــــــــــــــــــ (1) أجود التقريرات 1 : 147 وما بعدها ، فوائد الاُصول 1 : 139 ـ 143 .
ــ[496]ــ
الأوّل لا يعقل تعين الثاني .
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا إمكانه بحسب مقام الثبوت ، إلاّ أنّ الاطلاق في مقام الاثبات لايعيّنه ، وذلك لأنّ أمر التكليف عندئذ يدور بين التعيين والتخيير، ومن الواضح أنّ مقتضى الاطلاق هو التعيين ، لأنّ التخيير في المقام الراجع إلى جعل فعل الغير عدلاً لفعل المكلف نفسه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة خارجة فلا يمكن إرادته من الاطلاق .
الثاني : أن يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وبين استنابته لغيره ، ونتيجة ذلك هي التخيير بين قيام نفس المكلف به وبين الاستنابة لآخر . وهو في نفسـه وإن كان أمراً معقولاً ولا بأس بالاطلاق من هذه الناحـية وشموله لصورة الاستنابة ، إلاّ أ نّه خاطئ من جهتين اُخريين :
الاُولى : أنّ لازم ذلك الاطلاق كون الاستنابة في نفسها مسقطة للتكليف ، وهو خلاف المفروض ، بداهة أنّ المسقط له إنّما هو الاتيان الخارجي فلا يعقل أن تكون الاستنابة مسقطةً وإلاّ لكفى مجرد إجازة الغير في ذلك وهو كما ترى ، وعليه فلا يمكن كونها عدلاً وطرفاً للتكليف حتّى يعقل تعلّقه بالجامع بينها وبين غيرها .
الثانية : لو تنزّلنا عن ذلك وأغمضنا النظر عن هذا ، إلاّ أنّ الأمر هنا يدور بين التعيين والتخيير ، وقد عرفت أنّ قضيّة الاطلاق في مقام الاثبات إذا كان المتكلم في مقام البيان ولم ينصب قرينةً هي التعيين دون التخيير ، حيث إنّ بيانه يحتاج إلى مؤونة زائدة كالعطف بكلمة (أو) والاطلاق غير واف له ، ونتيجة ذلك عدم سقوطه عن ذمّة المكلف بقيام غيره به .
الثالث : أن يقال إنّ أمر التكليف في المقام يدور بين كونه مشروطاً بعدم قيام غير المكلف به وبين كونه مطلقاً ، أي سواء قام غيره به أم لم يقم فهو
ــ[497]ــ
لا يسقط عنه .
ويمتاز هذا الوجه عن الوجهين الأوّلين بنقطة واحدة ، وهي أنّ في الوجهين الأوّلين يدور أمر الواجب بين كونه تعيينياً أو تخييرياً ، ولا صلة لهما بالوجوب . وفي هذا الوجه يدور أمر الوجوب بين كونه مطلقاً أو مشروطاً ولا صلة له بالواجب .
ثمّ إنّ هذا الوجه وإن كان بحسب الواقع أمراً معقولاً ومحتملاً ولا محذور فيه أصلاً ، إلاّ أنّ الاطلاق في مقام الاثبات يقتضي عدم الاشتراط وأ نّه لا يسقط عن ذمّة المكلف بقيام غيره به ، ومن الطبيعي أنّ الاطلاق في هذا المقام يكشف عن الاطلاق في ذاك المقـام بقانون التبعية . ومن هنا ذكرنا في بحث الفقه في مسألة تحنيط الميت(1) أنّ مقتضى إطلاق خطابه المتوجه إلى البالغين هو عدم سقوطه بفعل غيرهم وإن كانوا مميزين . وقد تحصّل من ذلك : أنّ مقتضى إطلاق كل خطاب متوجه إلى شخص خاص أو صنف هو عدم سقوطه عنه بقيام غيره به ، فالسقوط يحتاج إلى دليل .
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه تظهر أنّ ما هو المعقول والمحتمل بحسب الواقع من الوجوه المذكورة هو الوجه الأخير ، أعني الشك في الاطلاق والاشتراط ، دون الوجه الأوّل والثاني كما عرفت . وعندئذ فلا مناص من إرجاع الشك في أمثال المسألة إلى ذلك بعد افتراض عدم معقولية الوجه الأوّل والثاني .
وعلى هذا فلو شككنا في سقوط الواجب عن وليّ الميت مثلاً بفعل غيره تبرّعاً أو استنابةً ، فبطبيعة الحال يرجع الشك في هذا إلى الشك في الاطلاق والاشتراط ، وسيأتي في ضمن البحوث الآتية بشكل موسّع أنّ مقتضى إطلاق
ـــــــــــــــــــــ (1) شرح العروة 9 : 165 المسألة [ 924 ] .
ــ[498]ــ
الخطاب عدم الاشتراط كما أشرنا إليه آنفاً أيضاً .
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ مقتضى الأصل اللفظي في المسألة عدم التوصلية ، هذا إذا كان في البين إطلاق .
وأمّا إذا لم يكن فالأصل العملي يقتضي الاشتغال ، وذلك لأنّ المقام على ما عرفت داخل في كبرى مسألة دوران الأمر بين الاطلاق والاشتراط ، هذا من ناحية . ومن ناحـية اُخرى : قد ذكرنا في
محلّه(1) أنّ فعلية التكليف إنّما هي بفعلية شرائطه ، فما لم يحرز المكلف فعلية تلك الشرائط لم يحرز كون التكليف فعلياً عليه .
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحـيتين : هي أنّ الشك في إطلاق التكليف واشتراطه قد يكون مع عدم إحراز فعلية التكليف، وذلك كما إذا لم يكن ما يحتمل شرطيته متحققاً من الأوّل ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يرجع الشك فيه إلى الشك في أصل توجه التكليف ، كما إذا احتمل اختصاص وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مثلاً بالرجل دون المرأة أو بالحرّ دون العبد ، فلا محالة يتردد العبد ويشك في أصل توجه التكليف إليه ، وكذلك المرأة وهو مورد لأصالة البراءة .
وقد يكون مع إحراز فعلية التكليف ، وذلك كما إذا كان ما يحتمل شرطيته متحققاً من الابتداء ثمّ ارتفع وزال ، ولأجله شكّ المكلف في بقاء التكليف الفعلي وارتفاعه ، ومن الواضح أ نّه مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة ، ولا يختص هذا بمورد دون مورد آخر ، بل يعمّ كافّة الموارد التي شكّ فيها ببقاء التكليف بعد اليقين بثبوته واشتغال ذمّة المكلف به .
ومقامنا من هذا القبيل ، فانّ الولي مثلاً يعلم باشتغال ذمّته بتكليف الميت
ـــــــــــــــــــــ (1) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 134 .
ــ[499]ــ
ابتداءً ، ولكنّه شاك في سقوطه عن ذمّته بفعل غيره ، وقد عرفت أنّ المرجع في ذلك هو الاشتغال وعدم السقوط .
وبكلمة اُخرى : أنّ التكليف إذا توجّه إلى شخص وصار فعلياً في حقّه ، فسقوطه عنه يحتاج إلى العلم بما يكون مسقطاً له ، فكلّما شكّ في كون شيء مسقطاً له ، سواء أكان ذلك فعل الغير أو شيئاً آخر ، فمقتضى القاعدة عدم السقوط وبقاؤه في ذمّته .
ومن هذا القبيل ما إذا سلّم شخص على أحد فردّ السلام شخص ثالث ، فبطبيعة الحال يشكّ المسلَّم عليه في بقاء التكليف عليه وهو وجوب ردّ السلام بعد أن علم باشتغال ذمّته به ، ومنشأ هذا الشك هو الشك في اشتراط هذا التكليف بعدم قيام الغير به وعدم اشتراطه ، فعلى الأوّل يسقط بفعله دون الثاني ، ومن الطبيعي أنّ مردّ هذا الشك إلى الشك في السقوط وهو مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة، والسرّ في ذلك : ما ذكرناه في مبحث البراءة والاشتغال من أنّ أدلّة البراءة لا تشمل أمثال المقام ، فتختص بما إذا كان الشك في أصل ثبوت التكليف . وأمّا إذا كان أصل ثبوته معلوماً والشك إنّما كان في سقوطه كما فيما نحن فيه فهو خارج عن موردها .
ومن هنا ذكرنا (1) أنّ المكلف لو شكّ في سقوط التكليف عن ذمّته من جهة الشك في القدرة واحتمال العجز عن القيام به بعد فرض وصوله إليه وتنجّزه ، كما إذا شكّ في وجوب أداء الدين عليه بعد اشتغال ذمّته به من جهة عدم إحراز تمكنه مع فرض مطالبة الدائن ، فالمرجع في مثل ذلك بطبيعة الحال هو أصالة الاشتغال ووجوب الفحص عليه عن قدرته وتمكنه ، ولا يمكنه التمسك بأصالة
ـــــــــــــــــــــ (1) في مصباح الاُصول 2 : 465 .
ــ[500]ــ
البراءة، هذا بناءً على نظريتنا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية .
وأمّا بناءً على جريانه فيها فلا تصل النوبة إلى أصالة الاشتغال ، بل المرجع هو استصحاب بقاء التكليف وعدم سقوطه في أمثال المقام ، وإن كانت النتيجة تلك النتيجة فلا فرق بينهما بحسبها . نعم ، بناءً على جريان الاستصحاب فعدم جريان البراءة في المقام أوضح كما لا يخفى .
|