مقتضى الأصل العملي في المقام 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4571

 

[ مقتضى الأصل العملي ]

أمّا المقام الثاني : فالكلام فيه يقع في مقتضى الأصل العملي عند الشك في التعبدية والتوصلية إذا لم يكن أصل لفظي ، وهو يختلف باختلاف الآراء والنظريات في المسألة .

أمّا على نظريتنا من إمكان أخذ قصد الأمر في متعلقه ، فحال هذا القيد حال سـائر الأجزاء والشرائط ، وقد ذكرنا في مسألة دوران الأمر بين الأقل

ــ[553]ــ

والأكثر الارتباطيين (1) أنّ المرجع عند الشك في اعتبار شيء في المأمور به جزءاً أو شرطاً هو أصالة البراءة ، وما نحن فيه كذلك حيث إنّه من صغريات تلك الكبرى ، وعليه فإذا شكّ في تقييد واجب بقصد القربة لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه ، فالأصل العملي على ضوء نظريتنا كالأصل اللفظي عند الشك في التعبدية والتوصلية فلا فرق بينهما من هذه الناحية .

وكذلك الحال على نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لوضوح أ نّه لا فرق في جريان البراءة بين أن يكون مأخوذاً في العبادات بالأمر الأوّل أو بالأمر الثاني ، إذ على كلا التقديرين فالشك في اعتباره يرجع إلى الشك في تقييد زائد ، وبذلك يدخل في كبرى تلك المسألة ، ومختاره (قدس سره) فيها هو أصالة البراءة .

وأمّا على ضوء نظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (2) فالمرجع هو قاعدة الاشتغال دون البراءة، والسبب في ذلك : هو أنّ أخذ قصد القربة في متعلق الأمر شرعاً حيث إنّه لا يمكن لا بالأمر الأوّل ولا بالأمر الثاني ، فبطبيعة الحال يكون اعتباره بحكم العقل من جهة دخله في غرض المولى ، وعليه فمتى شكّ في تحققه فالمرجع هو الاشتغال دون البراءة النقلية والعقلية .

ولا يخفى أنّ ما ذكره (قدس سره) هنا يشترك مع ما ذكره (قدس سره) في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطـيين (3) في نقطة ويفترق عنه في نقطة اُخرى .

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الأصول 2 : 494 وما بعدها .
(2) كفاية الاُصول : 75 .
(3) كفاية الاُصول : 363 .

ــ[544]ــ

أمّا نقطة الاشتراك ، وهي أنّ العقل كما يستقل بوجوب تحصيل الغرض هناك عند الشك في حصوله كذلك يستقل بوجوب تحصيله هنا ، ومن ثمة قد التزم (قدس سره) هناك بعدم جريان البراءة العقلية كما في المقام . فالنتيجة : أنّ حكمه (قدس سره) بلزوم تحصيل الغرض هنا يقوم على أساس ما بنى عليه في تلك المسألة من استقلال العقل بذلك عند الشك في حصوله .

وأمّا نقطة الافتراق، وهي أ نّه (قدس سره) قد التزم بجريان البراءة الشرعية هناك ولم يلتزم بجريانها في المقام ، والوجه في ذلك : هو أنّ المكلف عند الشك في اعتبار شيء في العبادة كالصلاة مثلاً كما يعلم إجمالاً بوجود تكليف مردد بين تعلّقه بالأقل أو بالأكثر ، كذلك يعلم إجمالاً بوجود غرض مردد بين تعلّقه بهذا أو ذاك، وحيث إنّ هذا العلم الاجمالي لاينحلّ إلى علم تفصيلي وشك بدوي، فبطبيعة الحال مقتضاه وجوب الاحتياط ـ وهو الاتيان بالأكثر ـ ومعه لاتجري أصالة البراءة العقلية .

وأمّا البراءة الشرعية فلا مانع من جريانها ، وذلك لأنّ مقتضى أدلة البراءة الشرعية هو رفع الشك عن التقييد الزائد المشكوك فيه ، فلو شككنا في جزئية السورة مثلاً للصلاة فلا مانع من الرجوع إليها لرفع جزئيتها ، وإذا ضممنا ذلك إلى ما علمناه إجمالاً من الأجزاء والشرائط ثبت الاطلاق ظاهراً ـ وهو وجوب الأقل ـ والسرّ في جريان البراءة الشرعية هناك وعدم جريانها هنا واضح ، وهو أنّ البراءة الشرعية إنّما تجري فيما يكون قابلاً للوضع والرفع شرعاً ، وأمّا ما لا يكون كذلك فلا تجري فيه ، وحيث إنّ الأجزاء والشرائط قابلتان للجعل فلا مانع من جريان البراءة الشرعية فيهما عند الشك في اعتبارهما ، وهذا بخلاف قصد القربة حيث إنّ جعله شرعاً غير ممكن لا جزءاً ولا شرطاً، لا بالأمر الأوّل ولا بالأمر الثاني، فبطبيعة الحال لاتجري البراءة فيه عند الشك في اعتباره ودخله

ــ[555]ــ

في الغرض .

فما ذكره (قدس سره) من التفرقة بين مسألتنا هذه ومسألة الأقل والأكثر الارتباطيين متين على ضوء نظريته (قدس سره) فيهما ، وأمّا إذا منعنا عنها في كلتا المسألتين أو في إحداهما لم يتم ما أفاده (قدس سره) وحيث إنّها ممنوعة وخاطئة في كلتا المسألتين فلا مناص من الالتزام بعدم التفرقة بينهما .

أمّا في هذه المسألة فلما عرفت من أ نّه لا مانع من أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، فحاله حال بقية الأجزاء والشرائط من هذه الناحية .

وأمّا في تلك المسألة فلما حققناه هناك (1) من أ نّه على فرض تسليم حكم العقل بالاشتغال فيها والاتيان بالأكثر فلا مجال لجريان البراءة الشرعية أيضاً ، والسبب في ذلك : هو أ نّها لا تثبت ترتب الغرض على الأقل إلاّ على القول بالأصل المثبت ، حيث إنّ لازم نفي الوجوب عن الأكثر هو وجوب الأقل ووفاؤه بالغرض ، ومن المعلوم أنّ أصالة البراءة لا تثبت هذا اللازم .

نعم ، لو كان الدليل على نفي وجوب الأكثر هو الأمارة ثبت وجوب الأقل ووفاؤه بالغرض باعتبار أنّ لوازمها حجّة .

وإن شئت فقل : إنّ هناك علمين إجماليين : أحدهما متعلق بالتكليف ، والآخر متعلق بالغرض ، وجريان البراءة عن التكليف الزائد المشكوك لا يثبت ترتب الغرض على الأقل بناءً على ما هو الصحيح من عدم حجية الأصل المثبت ، وبدونه لا أثر لها . ومن هنا قلنا في تلك المسألة بالملازمة بين البراءة الشرعية والعقلية في الجريان وعدمه فلا وجه للتفكيك بينهما أصلاً .

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 2 : 509 .

ــ[556]ــ

وحيث قد اخترنا هناك جريان البراءة شرعاً وعقلاً فلا مانع من الالتزام بجريان البراءة العقلية هنا دون الشرعية بناءً على ضوء نظريته (قدس سره) من استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه ، وذلك لأنّ الواجب بحكم العقل إنّما هو تحصيل الغرض الواصل إلى المكلف لا مطلقاً ، ومن الطبيعي أنّ المقدار الواصل منه هو ترتبه على الأقل دون الزائد على هذا المقدار ، فاذن بطبيعة الحال كان العقاب على تركه عقاباً بلا بيان وهو قبيح بحكم العقل . فالنتيجة أ نّه لا وجه للتفرقة بين المسألتين في البراءة والاحتياط أصلاً .

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه لا مانع من جريان أصالة البراءة العقلية والشرعية في كلتا المسألتين ، وذلك لما فصّلناه هناك(1) بشكل موسّع وملخصه : هو أنّ الغرض لا يزيد على أصل التـكليف ، فكما أنّ التكليف ما لم يصل إلى المكلف لا يحكم العقل بتنجّزه ووجوب موافقته وقبح مخالفته وغير ذلك ، فكذلك الغرض فانّه ما لم يصل إليه لا يحكم العقل بوجوب تحصيله واستحقاق العقاب على مخالفته ، بداهة أنّ العقل إنّما يستقل بلزوم تحصيله بالمقدار الواصل إلى المكلف الثابت بالدليل . وأمّا الزائد عليه فلا يحكم بوجوب تحصيله، لأنّ تركه غير مستند إلى العبد ليصح عقابه عليه ، بل هو مستند إلى المولى ، فإذن العقاب على تركه عقاب من دون بيان وهو قبيح عقلاً .

وإن شئت قلت : إنّ منشأ حكم العقل بوجوب تحصيل الغرض إنّما هو إدراكه استحقاق العقاب على ترك تحصيله ، ومن الطبيعي أنّ إدراكه هذا إنّما هو في مورد قيام البيان عليه . وأمّا فيما لم يقم لم يدركه ، بل يدرك قبحه ، لأ نّه من العقاب بلا بيان ، وعليه فلا مانع من جريان البراءة العقلية في موارد الشك في

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الأصول 2 : 507 .

ــ[557]ــ

الغرض وعدم وصوله إلى المكلف ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : قد ذكرنا هناك أنّ التفكيك بين أجزاء مركب واحد كالصلاة مثلاً بحسب الحكم لايمكن لا في مرحلة الثبوت ولا في مرحلة السقوط ، بداهة أ نّه لا معنى لأن يكون بعض أجزائه واجباً دون الباقي ، كما أ نّه لا معنى لسقوط التكليف عن بعضها دون بعضها الآخر، والسر في ذلك : هو أنّ التكليف المتعلق بالمجموع المركب حيث إنّه تكليف واحد فلا يعقل التفكيك فيه بحسب أجزائه ، وهذا معنى ارتباطية أجزاء الواجب الواحد .

ولكن مع ذلك قد ذكرنا في محلّه (1) أ نّه لا مانع من التفكيك بينها في مرحلة التنجيز، والوجه فيه هو أنّ التنجيز متفرع على وصول التكليف ، وعليه فبطبيعة الحال فقد تنجّز التكليف بالمقدار الواصل إلى المكلف دون الزائد عليه ، وبما أنّ فيما نحن فيه التكليف المتعلق بالمركب كالصلاة مثلاً قد وصل بالاضافة إلى عدّة من أجزائه كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليمة ، فلا محالة تنجّز بالاضافة إليها فلا يجوز له تركها . وأمّا بالاضافة إلى جزئية السورة مثلاً حيث إنّه لم يصل فلا يكون منجّزاً ولو كانت جزئيتها ثابتةً في الواقع ، فإذن لا عقاب على تركها ، لأ نّه من العقاب بلا بيان ، وهذا هو معنى التفكيك بينها بحسب مرتبة التنجز .

وعلى الجملة : فلا واقع لتنجز التكليف ما عدا إدراك العقل استحقاق العقوبة على مخالفته واستحقاق المثوبة على موافقته، وحيث إنّه فرع وصوله إلى المكلف فلا مانع من التفكيك فيه بحسبه وإن لم يمكن بحسب الواقع . مثلاً التكليف المتعلق بالصلاة المشتملة على الأجزاء المزبورة قد وصل إلى المكلف وعلم به

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 2 : 501 .

ــ[558]ــ

فلا يجوز له بحكم العقل مخالفته . وأمّا التكليف المتعلق بها المشتملة على السورة زائداً عليها حيث إنّه لم يصل فلا يحكم العقل بعدم جواز مخالفته .

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه : هي أ نّه لا مانع من جريان البراءة العقلية والشرعية في كلتا المسألتين على أساس نظريتنا في هذه المسألة وهي إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر وأنّ حاله من هذه الناحية حال بقية الأجزاء والشرائط فلا تفرقة بينهما أصلاً ، بل على هذا تكون مسألتنا هذه من صغريات تلك المسألة .

ومن ذلك يظهر أ نّه لا مانع من جريان البراءة العقلية هنا على مسلكه (قدس سره) أيضاً ، وذلك للملازمة بين وصول التكليف ووصول الغرض وبالعكس ، وحيث إنّ التكليف لم يصل إلاّ بالمقدار المتعلق بالأقل دون الزائد عليه فكذلك الغرض . فإذن لا مانع من الرجوع إلى حكم العقل بقبح العقاب على تركه ، أي ترك قصد القربة .

ودعوى أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تجري في المقام لعدم إمكان البيان من قبل الشارع خاطئة جداً ، وذلك لأنّ البيان بمعنى أخذ قصد القربة في متعلق الأمر وإن كان لا يمكن على مذهبه ، وأمّا البيان بمعنى أ نّه دخيل في غرضه ولو بجملة خـبرية من دون أخذه في متعلق أمره فهو بمكان من الامكان ، وعليه فنقول : لو كان قصد القربة دخيلاً في غرض المولى فعليه بيانه ، وحيث إنّه لم يبيّن مع أ نّه كان في مقام بيان تمام ما له دخل في غرضه ، علم من ذلك عدم دخله فيه ، فإذن بطبيعة الحال كان العقاب على تركه من العقاب بلا بيان .

نعم ، تفترق هذه المسألة عن تلك المسألة على مسلكه (قدس سره) في نقطة واحدة ، وهي جريان البراءة الشرعية هناك وعدم جريانها هنا باعتبار أنّ قصد القربة غير مجعول شرعاً فليس حاله من هذه الناحية حال بقية الأجزاء

ــ[559]ــ

والشرائط ، ومن المعلوم أنّ البراءة الشرعية لا تجري إلاّ فيما هو مجعول من قبل الشارع .

وقد استطعنا أن نخرج في نهاية المطاف بهذه النتيجة : وهي أنّ مقتضى الأصل اللفظي والعملي في المسألة هو التوصلية ، فالتعبدية تحتاج إلى دليل .

هذا آخر ما أردنا بيانه في التعبدي والتوصلي .

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net