ــ[8]ــ
[ دوران الواجب بين العيني والكفائي ]
وأمّا المسألة الثالثة : وهي ما إذا دار الأمر بين الواجب الكفائي والعيني ، فيقع الكلام فيها أيضاً تارة في مقتضى الأصل اللفظي ، وتارة اُخرى في مقتضى الأصل العملي . أمّا الكلام في المورد الأوّل : فبيانه يحتاج إلى توضيح حول حقيقة الوجوب الكفائي فنقول : إنّ ما قيل أو يمكن أن يقال في تصويره وجوه : الأوّل : أن يقال : إنّ التكليف متوجه إلى واحد معيّن عند الله ولكنه يسقط عنه بفعل غـيره ، لفرض أنّ الغرض واحـد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر . الثاني : أن يقال : إنّ التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع ، بدعوى أ نّه كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي بالمركب من الاُمور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي كالصلاة مثلاً إذا كان الغرض المترتب عليه واحداً شـخصياً ، كذلك يمكن تعلقه بمجمـوع الأشخاص على نحو العموم المجموعي . الثالث : أن يقال : إنّ التكليف به متوجه إلى عموم المكلفين على نحو العموم الاستغراقي فيكون واجباً على كل واحد منهم على نحو السريان ، غاية الأمر أنّ وجوبه على كل مشروط بترك الآخر . الرابع : أن يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه ، المعبّر عنه
ــ[9]ــ
بصرف الوجود ، وهذا الوجه هو الصحيح . بيان ذلك ملخّصاً : هو أن غرض المولى كما يتعلق تارة بصرف وجود الطبيعة، واُخرى بمطلق وجودها ، كذلك يتعلق تارة بصدوره عن جميع المكلفين واُخرى بصدوره عن صرف وجودهم . فعلى الأوّل ، الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر . وعلى الثاني ، فالواجب كـفائي بمعنى أ نّه واجب على أحد المكلفين لا بعينه المنطبق على كل واحد منهم ويسقط بفعل بعض عن الباقي ، وهذا واقع في العرف والشرع . أمّا في العرف : فكما إذا أمر المولى أحد عبيده أو خدّامه بفعل في الخارج من دون أن يتعلق غرضه بصدوره من شخص خاص منهم ، ولذا أيّ واحد منهم قام به وأوجده في الخارج حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة . وأمّا في الشرع : فأيضاً كذلك ، كما في أمره بدفن الميت أو كفنه أو نحو ذلك ، حيث إنّ غرضه لم يتعلق بصدوره عن خصوص واحد منهم، بل المطلوب وجوده في الخارج من أيّ واحد منهم كان ، وذلك لأنّ نسبة ذلك الغرض الوحداني إلى كل واحد من أفراد المكلفين على السوية ، فعندئذ تخصيص واحد معيّن منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجاً بلا مخصص ومرجح ، وتخصيص المجموع منهم على نحو العموم المجموعي بتحصيل ذلك الغرض ، مع أ نّه بلا مقتض وموجب باطل بالضرورة كما برهن في محله ، وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي أيضاً بلا مقتض وسبب بعد افتراض أنّ الغرض واحد يحصل بفعل بعض منهم ، فاذن يتعيّن وجوبه على واحد منهم على نحو صرف الوجود . وبعد ذلك نقول : إنّ مقتضى إطلاق الدليل هو الوجوب العيني على جميع هذه الوجوه والاحتمالات .
ــ[10]ــ
أمّا على الوجه الأوّل : فواضح، لأنّ سقوط التكليف عن شخص بفعل غيره يحتاج إلى دليل ، وإلاّ فمقتضى إطلاقه عدم سقوطه به . أو فقل : إنّ مردّ هذا إلى اشتراط التكليف بعدم قيام غيره بامتثاله وهو خلاف الاطلاق . وأمّا على الوجه الثاني : فمضافاً إلى أ نّه في نفسه غير معقول فأيضاً الأمر كذلك ، لأنّ مقتضى إطلاق الدليل هو أنّ كل واحد من أفراد المكلف موضوع للتكليف . وجعل الموضوع له مجموع أفراده على نحو العموم المجموعي بحيث يكون كل فرد من أفراده جزءه لاتمامه خلاف الاطلاق ، وعند احتماله يدفع به . وأمّا على الوجه الثالث : فالأمر ظاهر ، ضرورة أنّ قضيّة الاطلاق عدم الاشتراط ، فالاشتراط يحتاج إلى دليل خاص . وأمّا على الوجه الرابع : فأيضاً الأمر كذلك ، حيث إنّ حاله بعينه هو حال الوجه الثالث في الوجوب التخييري فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، غاية الأمر أنّ الأوّل متعلق بالمأمور به والثاني بالمكلفين . وعلى الجملة ففيما إذا ورد الأمر متوجهاً إلى شخص خاص أو صنف مخصوص وشككنا في أ نّه كفائي أو عيني ، يعني أنّ موضوعه هو الجامع بينه وبين غيره أو خصوص هذا الفرد أو ذاك الصنف ، فلا مانع من التمسك بالاطلاق لاثبات كونه عينياً . ويمكن أن يقرّب هذا بوجه آخر : وهو أنّ ظاهر الأمر المتوجه إلى شخص خاص أو صنف مخصوص هو أنّ لخصوص عنوانه دخلاً في الموضوع ، ومتى لم تكن قرينة على عدم دخله وأنّ الموضوع هو طبيعي المكلف فاطلاق الدليل يقتضي دخله ، ولازم ذلك هو كون الوجوب عينياً لا كفائياً . وأمّا الكلام في المورد الثاني : وهو مقتضى الأصل العملي فيقع في مبحث
ــ[11]ــ
البراءة والاشتغال وسيجيء(1) إن شاء الله تعالى أنّ مقتضى الأصل هناك البراءة دون الاشتغال . إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ مقتضى الأصل اللفظي في المسائل الثلاث هو كون الواجب نفسياً تعيينياً عينياً .
ـــــــــــــــــــــ (1) مصباح الاُصول 2 : 530 [ لكنّه لم يصرّح هناك بالدوران بين العيني والكفائي ] .
|