ــ[21]ــ
الفور والتراخي
يقع الكلام فيهما تارة في مقام الثبوت واُخرى في مقام الاثبات . أمّا المقام الأوّل : فالواجب ينقسم إلى ثلاثة أصناف : الصنف الأوّل : ما لا يكون مقيداً بالتقديم ولا بالتأخير من ناحية الزمان ، بل هو مطلق من كلتا الناحيتين ، ومن هنا يكون المكلف مخيراً في امتثاله بين الزمن الأوّل والزمن الثاني وهكذا ، ويسمى هذا الصنف من الواجب بالواجب الموسّع ، وذلك كالصلاة وما شاكلها . نعم ، إذا لم يطمئن باتيانه في الزمن الثاني وجب عليه الاتيان في الزمن الأوّل، ولكن هذا أمر آخر أجنبي عمّا نحن بصدده. الصنف الثاني : ما يكون مقيداً بالتأخير فلو قدّمه في أوّل أزمنة الامكان لم يصح ، ويسمى هذا الصنف بالواجب المضيّق كالصوم وما شابهه . الصنف الثالث : ما يكون مقيداً بالتقـديم وهذا على قسمين : الأوّل : أن يكون ذلك بنحو وحدة المطلوب . الثاني : أن يكون بنحو تعدد المطلوب . أمّا الأوّل : فمردّه إلى وجوب الاتيان به في أوّل أزمنة الامكان فوراً من ناحية ، وإلى سـقوط الأمر عنه في الزمن الثاني من ناحية اُخرى ، وعليه فلو عصى المكلف ولم يأت به في الزمن الأوّل سقط الأمر عنه ولا أمر في الزمن الثاني ، وقد مثّل لذلك برد السلام حيث إنّه واجب على المسلّم عليه في أوّل أزمنة الامكان ، ولكن لو عصى ولم يأت به سقط الأمر عنه في الزمن الثاني . وأمّا الثاني : فهو أيضاً على شكلين : أحدهما : أن يكون المطلوب هو إتيانه
ــ[22]ــ
في أوّل أزمنة الامكان وإلاّ ففي الزمن الثاني وهكذا فوراً ففوراً ، فالتأخير فيه كما لا يوجب سقوط أصل الواجب كذلك لا يوجب سقوط فوريته . قيل ومن هذا القبيل قضاء الفوائت يعني يجب على المكلف الاتيان بها فوراً ففوراً . وثانيهما : أن يكون المطلوب من الواجب إتيانه في أوّل أزمنة الامكان فوراً إلاّ أنّ المكلف إذا عصى وأخّر عنه سقطت فوريته دون أصل الطبيعة ، فعندئذ لا يجب عليه الاتيان بها فوراً ففوراً ، بل له أن يمتثل الطبيعة في أيّ وقت وزمن شاء وأراد . وعلى الجملة : فالمكلف إذا لم يأت به في أوّل الوقت وعصى ، جاز له التأخـير إلى آخر أزمنة الامـكان . ومن هذا القبيل صلاة الزلزلة فانّها واجبة على المكلف في أوّل أزمنة الامكان فوراً ، ولكنه لو تركها فيه وعصى جاز له التأخير إلى ما دام العمر موسّعاً . وأمّا المقام الثاني : ـ وهو مقام الاثبات ـ فالصيغة لا تدل على الفور ولا على التراخي فضلاً عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده ، والسبب في ذلك : أنّ الصيغة لو دلت على ذلك فبطبيعة الحال إمّا أن تكون من ناحية المادة أو من ناحية الهيئة ، ومن الواضح أ نّها لا تدل عليه من كلتا الناحيتين . أمّا من ناحية المادة ، فواضح ، لما تقدّم في ضمن البحوث السابقة من أنّ المادة موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصـوصيات والعوارض فلا تدل إلاّ على إرادتها ، فكل من الفور والتراخي وما شاكلهما خارج عن مدلولها . وأمّا من ناحية الهـيئة ، فأيضاً كذلك ، لما عرفت بشكل موسّع من أ نّها وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني على ذمة المكلف في الخارج فلا تدل على شيء من الخصوصيات المزبورة بل ولا إشعار فيها فما ظنّك بالدلالة ، فثبوت كل واحدة من تلك الخصوصيات يحتاج إلى دليل خارجي ، فان قام فهو ، وإلاّ فاللازم هو الاتيان بالطبيعي المأمور به مخيراً عقلاً بين الفور
ــ[23]ــ
والتراخي . وعلى هذا فلو شككنا في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو التراخي أو نحو ذلك ، فمقتضى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق إذا كان ، هو عدم اعتبارها وأنّ الواجب هو الطبيعي المطلق ، ولازم ذلك جواز التراخي ، وقد عرفت أ نّه لا فرق في حجية الاُصول اللفظية بين المثبت منها وغيره . هذا إذا كان في البين أصل لفظي . وأمّا إذا لم يكن كما إذا كان الدليل مجملاً أو إجماعاً، فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة البراءة ، للشك في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو التراخي، وحيث لا دليل عليه فأصالة البراءة تقتضي عدم اعتبارها ، وبذلك يثبت الاطلاق في مقام الظاهر . فالنتيجة : أنّ الصيغة أو ما شاكلها لا تدل على الفور ولا على التراخي فضلاً عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده ، بل هي تدل على ثبوت الطبيعي الجامع على ذمة المكلف ، ولازم ذلك هو حكم العقل بالتخيير بين أفراده العرضية والطولية . نعم، لو احتمل أنّ تأخيره موجب لفواته وجب عليه الاتيان به فوراً بحكم العقل . قد يقال كما قيل : إنّ الصيغة وإن لم تدل على الفور وضعاً إلاّ أ نّها تدل عليه من جهة قرينة عامة خارجية وهو قوله تعالى : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِن رَبِّكُمْ ) (1) وقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) (2) ببيان أنّ الله (عزّ وجلّ) أمر عباده بالاستباق نحو الخير ، والمسارعة نحو المغفرة ، ومن مصاديقهما فعل المأمور به ، فاذن يجب على المكلف الاستباق والمسارعة نحوه في أوّل أزمنة الامكان وإلاّ ففي الزمن الثاني وهكذا ، لفرض أ نّهما يقتضيان الفورية إلى
ـــــــــــــــــــــ (1) آل عمران 3 : 133 . (2) البقرة 2 : 148 .
ــ[24]ــ
الاتيان بما يصدق عليه الخير والغفران في كل وقت وزمن ، وعليه فلو عصى المكلف وأخّر عن أوّل أزمنة الامكان وجب عليه ذلك في الزمن الثاني أو الثالث وهكذا فوراً ففـوراً ، إذ من الواضح عدم سقوط وجوب المسارعة والاستباق بالعصيان في الزمن الأوّل ، لفرض بقاء الموضوع والملاك ، ونتيجة ذلك هي لزوم الاتيان بكافة الواجبات الشرعية فوراً ففوراً على نحو تعدد المطلوب . ولنأخذ بالنقد عليه من عدّة وجوه : الأوّل : أنّ الآيتين الكريمتين أجنبيتان عن محل الكلام رأساً ولا صلة لهما بما نحن بصدده . أمّا آية الاستباق ، فلأنّ كلمة (فَاسْتَبِقُوا) فيها من الاستباق بمعنى المسابقة لغـة ، وعلى هذا فظاهر الآية المباركة هو وجوب المسـابقة على العباد نحو الخيرات، يعني أنّ الواجب على كل واحد منهم أن يسابق الآخر فيها . وان شئت قلت : إنّ مدلول الآية الكريمة هو ما إذا كان العمل خيراً للجميع ، وأمكن قيام كل واحد منهم به ، ففي مثل ذلك أمر (سبحانه وتعالى) عباده بالمسابقة نحوه ، ومن الواضح أ نّه لا صلة لهذا المعنى بما نحن فيه أصلاً ، وذلك لأنّ الكلام فيه إنّما هو في وجوب المبادرة على المكلف نحو امتثال الأمر المتوجه إليه خاصة على نحو الاستقلال مع قطع النظر عن الأمر المتوجه إلى غيره ، وهذا بخلاف ما في الآية، فان وجوب الاستباق فيها إنّما هو بالاضافة إلى الآخر لا بالاضافة إلى الفعل ، فاذن لا تدل الآية على وجوب الاستباق والمبادرة إلى الفعل أصلاً ، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى ، وأمّا آية المسارعة ، فالظاهر من المغفرة فيها هو نفس الغفران الإلهي ، فالآية
ــ[25]ــ
عندئذ تدل على وجوب المسارعة نحوه بالتوبة والندامة التي هي واجبة بحكم العقل ، وليس المراد منها الأفعال الخارجية من الواجبات والمستحبات ، فاذن الآية ترشد إلى ما استقل به العقل وهو وجوب التوبة وأجنبية عما نحن بصدده . الثاني : على تقدير التنزّل عن ذلك ، وتسليم أنّ الآيتين ليستا أجنبيتين عن محل الكلام ، إلاّ أنّ دلالتهما على ما نحن بصدده تقوم على أساس أن يكون الأمر فيهما مولوياً . وأمّا إذا كان إرشادياً كما هو الظاهر منه بحسب المتفاهم العرفي ، فلا دلالـة لهما عليه أصلاً ، وذلك لأنّ مفـادهما على هذا الضوء هو الارشاد إلى ما استقل به العقل من حسن المسارعة والاستباق نحو الاتيان بالمأمور به وتفريغ الذمة منه ، وتابع له في الالزام وعدمه فلا موضوعية له ، ومن الواضح أنّ حكم العقل بذلك يختلف في اللزوم وعدمه باختلاف موارده . الثالث : على تقدير التنزل عن ذلك أيضاً ، وتسليم أنّ الأمر فيهما مولوي ، إلاّ أ نّه لا بدّ من حمله على الاستحباب ، ولو حمل على ظاهره وهو الوجوب لزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، والسبب في ذلك : هو أنّ المستحبات بشتّى أنواعها وأشكالها مصداق للخير وسبب للمغفرة ، فلو حملنا الأمر فيهما على الوجوب لزم خروجها بأجمعها عن إطلاقهما، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : أنّ الواجـبات على أصناف عديدة : أحـدها : واجبات موسعة كالصـلاة وما شاكلها، والمفروض عدم وجوب الاستباق والمسارعة نحوها . وثانيها : واجبات مضيّقة كصوم شهر رمضان ونحوه ، والمفروض عدم وجوب الاتيان بها إلاّ في وقت خاص لا في أوّل وقت الامكان . وثالثها : واجبات فورية على نحو تعدّد المطلوب ، فعلى ما ذكرنا من الحمل لزم خروج الصنفين الأوّلين من الواجبات أيضاً عن إطلاقهما فيختص الاطلاق بخصوص الصنف الثالث ، ومن الطبيعي أنّ هذا من أظهر مصاديق تخصيص الأكثر .
|