وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا ارتفع العذر بعد خروج الوقت ، فهل يجزي الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن القضاء في خارج الوقت أم لا ؟ فقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) الإجزاء بدعوى أنّ عدم الإجزاء في هذه الصورة غير معقول ، والوجه في ذلك : أنّ القيد المتعذر على المكلف في تمام الوقت لا يخلو من أن يكون له دخل في ملاك الواجب مطلقاً حتّى حين التعذر وعدم تمكن المكلف من إتيانه كالطهور مثلاً ، وإمّا أن لا يكون له دخل كذلك ، بل يختص دخله في ملاكه بحالة التمكن منه دون التعذر كالطهارة المائية مثلاً ، فعلى الأوّل لا يمكن الأمر بفاقده في الوقت لعدم الملاك له ، وعلى الثاني فالأمر بالفاقد له باق لفرض اشتماله على المصلحة التامة وعدم دخل القيد المتعذر فيها حال التعذر . وعلى الجملة : فبناءً على دخل القيد مطلقاً في ملاك الواجب ومصلحته فلا يمكن الأمر بالأداء في الوقت ، لا بالاضافة إلى المأمور به من جهة انتفاء القدرة
ـــــــــــــــــــــ (1) أجود التقريرات 1 : 283 .
ــ[52]ــ
على امتثاله ، ولا بالاضافة إلى الباقي من جهة عدم اشتماله على الملاك والمصلحة التامة ، إذن لا بدّ من الأمر بالقضاء في خارج الوقت ، وبناءً على عدم دخل القيد مطلقاً في ملاكه فبطبيعة الحال يتعين الأمر بالفاقد في الوقت ، لاشتماله على الفرض على تمام الملاك والمصلحة ، وعدم دخل القيد المزبور فيه في هذا الحال . وعليه فلا أمر بالقضاء لعدم ملاك له ، فالجمع بين الأمر بالأداء في الوقت والأمر بالقضاء في خارج الوقت جمع بين المتناقضين ، ضرورة أنّ الأمر بالقضاء تابع لصدق فوت الفريضة وإلاّ فلا مقتضي له أصلاً ، ومن الطبيعي أنّ صدق فوت الفريضة يستلزم عدم الأمر بالفاقد في الوقت ودخل القيد مطلقاً في الملاك حتّى حال التعذر ، كما أنّ الأمر بالفاقد في الوقت يستلزم عدم دخل القيد المذكور في الملاك مطلقاً وهو يستلزم عدم وجوب القضاء في خارج الوقت ، لفرض عدم صدق فوت الفريضـة ، إذن لا يمكن الجمع بين الأمر بالفاقد في الوقت وإيجاب القضاء في خارج الوقت . وعلى ضوء هذا البيان يظهر أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري في الوقت مجز عن المأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي في خارج الوقت ، ولا يمكن القول بعدم الإجزاء عنه ، لما عرفت من أ نّه لا يمكن الجمع بين الأمر باتيان الفاقد في الوقت وإيجاب القضاء في خارج الوقت ، وأنّ الجمع بينهما جمع بين المتناقضين ، وعليه فلا مناص من القول بالإجزاء هنا . وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) قابل للنقد والمؤاخذة بحسب مقام الثبوت ، وإن كان تاماً بحسب مقام الاثبات . فلنا دعويان : الاُولى : عدم تمامية ما أفاده (قدس سره) بحسب مرحلة الثبوت . الثانية : تمامية ما أفاده (قدس سره) بحسب مرحلة الاثبات .
ــ[53]ــ
أمّا الدعوى الاُولى : فلإمكان أن يقول قائل بأنّ الصلاة مع الطهارة المائية مثلاً مشتملة على مصلحتين ملزمتين ، أو على مصلحة واحدة ذات مرتبتين شديدة وضعيفة ، ومع تعذر القيد وهو الطهارة المائية في المثال يكون الفاقد ـ وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ـ مشتملاً على إحدى المصلحتين الملزمتين أو على المصلحة الضعيفة، وحيث إنّها ملزمة في نفسها فلذلك توجب الأمر بالفاقد في الوقت لاستيفائها ، ولئلاّ تفوت عن المكلف ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : أنّ المصلحة الثانية أو المرتبة الشديدة حيث إنّها كانت أيضاً ملزمة وقابلة للاستيفاء والتدارك ، والمفروض أ نّه لا يمكن تداركها في الوقت ، فلا مناص من إيجاب القضاء في خارج الوقت لاستيفائها وتداركها . فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ الجمع بين الأمر بالفاقد في الوقت والقضاء في خارج الوقت ليس جمعاً بين المتناقضين . فما أفاده (قدس سره) من أنّ الجمع بينهما جمع بين المتناقضين خاطئ جدّاً ولا واقع موضوعي له أصلاً . نعم ، لو كانت للصلاة مع الطهارة المائية مثلاً مصلحة واحدة شخصية ليست ذات مراتب تمّ ما أفاده (قدس سره) من عدم إمكان الجمع بين الأمر بالأداء في الوقت والأمر بالقضـاء في خارج الوقت ، وذلك لما عرفت من أنّ القيد المتعذر إذا كان دخيلاً في ملاك الواجب مطلقاً حتّى حال التعذّر فلا موجب للأمر بالفاقد في الوقت ، وإلاّ فلا مقتضي للأمر بالقضاء في خارج الوقت ، ولكن حيث أمكن اشتمال الواجب في حال الاختيار والتمكن على مصلحة واحدة ذات مراتب ، أو على مصلحتين ملزمتين في مقام الثبوت فلا يتم ما أفاده (قدس سره) . وأمّا الدعوى الثانية : فلأ نّه لا مانع من التمسك باطلاق أدلة الأمر
ــ[54]ــ
الاضطراري لاثبات عدم وجوب القضاء في خارج الوقت ، وذلك لأنّ المولى إذا كان في مقام بيان تمام الوظيفة الفعلية للمكلف بهذه الأدلة ، ومع ذلك سكت عن بيان وجوب القضاء عليه في خارج الوقت ، فبطبيعة الحال كان مقتضى إطلاقها المقامي عدم وجوبه وإلاّ كان عليه البيان . وعلى الجملة : فلا قصور في أدلة الأوامر الاضطرارية كقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) إلخ(1)، وقوله (عليه السلام) «التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين»(2) وما شاكلهما غير قاصرة عن إثبات وجوب الفعل الناقص على المكلف في الوقت ، وعدم وجوب القضاء عليه في خارج الوقت . هذا إذا كان لها إطلاق ، وأمّا مع عدمه فالمرجع هو الأصل العملي ، وهو في المقام أصالة البراءة عن وجوب القضاء ، للشك فيه وعدم الدليل عليه . وإن شئت قلت : إنّ وجوب القضاء حيث كان بأمر جديد ، سواء أكان موضوعه فوت الفريضة أم كان فوت الواقع بملاكه ، فلا علم لنا به في المقام . أمّا على الأوّل فواضح ، لفرض عدم فوات الفريضة من المكلف في الوقت . وأمّا على الثاني فلاحتمال أن يكون المأمور به بالأمر الاضطراري مشتملاً على تمام ملاك الواقع فلا يفوت منه الواقع بملاكه ، ومن الواضح أنّ وجوب القضاء مع الشك فيه وعدم قيام دليل عليه مورد لأصالة البراءة ، ولا خصوصية له من هذه الناحية، فنتيجة هذه المسألة هي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الواقعي وعدم وجوب قضائه في خارج الوقت . ثمّ إنّ الاضطرار قد يكون بغير اختيار المكلف ، وقد يكون باختياره ، أمّا
ـــــــــــــــــــــ (1) النِّساء 4 : 43 . (2) الوسائل 3 : 369 / أبواب التيمم ب 14 ح 12 (نقل بالمضمون) .
ــ[55]ــ
الأوّل فقد تقدّم حكمـه بشكل موسع فلا نعيد. وأمّا الثاني وهو ما إذا كان الاضطرار باختياره، كما إذا كان عنده ماء يكفي لوضوئه أو غسله فأراقه فأصبح فاقداً للماء ، أو كان عنده ثوب طاهر فنجّسه وبذلك اضطر إلى الصلاة في ثوب نجس، أو كان متمكناً من الصلاة قائماً فأعجز نفسه عن القيام وهكذا ، فهل تشمل إطلاقات الأوامر الاضطرارية لهذه الموارد أم لا ؟ وجهان والظاهر هو الثاني . والسبب في ذلك : هو أنّ تلك الاطلاقات بمقتضى الظهور العرفي وارتكازهم منصرفة عن الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف وإرادته ، لوضوح أنّ مثل قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) إلخ (1) ظاهر بمقتضى المتفاهم العرفي فيما إذا كان عدم وجدان الماء والاضطرار إلى التيمم بطبعه وبغير اختيار المكلف ، ومنصرفة عما إذا كان باختياره . وكذا قوله (عليه السلام) «إذا قوي فليقم» (2) وما شاكل ذلك . وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ الظاهر من تلك الأدلة بمقتضى الفهم العرفي هو اختصـاصها بخصوص الاضطرار الطارئ على المكلف بغير اختياره ، فلا تشمل ما كان طارئاً بسوء اختياره . وعلى هذا الضوء لا يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره وإرادته ، فلو كان عنده ماء مثلاً لم يجز إهراقه وتفـويته إذا علم بعدم وجدان الماء في مجموع الوقت ، ولو فعل ذلك استحقّ العقوبة على ترك الواجب الاختياري التام أو على تفويت الملاك الملزم في محله ، ومن الواضح أنّ العقل لا يفرّق في الحكم باستحقاق العقاب بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه إذا
ـــــــــــــــــــــ (1) النِّساء 4 : 43 . (2) الوسائل 5 : 495 / أبواب القيام ب 6 ح 3 .
ــ[56]ــ
كان كذلك ، فكما يحكم بقبح الأوّل واستحقاق العقوبة عليه ، فكذلك في الثاني هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : قد اتضح مما ذكرناه أ نّه لا أمر في موارد الاضطرار الاختياري لنبحث عن أنّ امتثاله مجز عن الواقع أم لا ؟ هذا حسب ما تقتضيه القاعدة . ولكن في باب الصلاة خاصة قد علمنا من الخارج عدم سقوطها من المكلف بحال ، فلو عجّز نفسه باختياره عن الصلاة قائماً أو مع الطهارة المائية أو في ثوب طاهر ، وجبت الصلاة عليه قاعداً أو مع الطهارة الترابية أو في ثوب متنجس ، وإن استحقّ العقاب على ترك ما هو وظيفة المخـتار ، لأنّ الاضطرار إذا كان بسوء الاختيار لم يمنع من العقاب . فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر الأوّل عن المركب بسقوط جزئه أو قيده ، وإثبات الأمر للفاقد يحتاج إلى دليل ، والأدلة الاضطرارية تختص بصورة الاضطرار غير الاختياري ، ولا تشمل الاضطرار الاختياري ، وعندئذ ففي كل مورد من موارد الاضطرار الاختياري قام دليل خاص على وجوب الاتيان بالفاقد كما في باب الصلاة فهو ، وإلاّ فلا يجب . هذا كلّه في غير موارد التقية . وأمّا فيها فالظاهر عدم الفرق بين صورتي الاختيار وغيره ، وذلك لاطلاق أدلة التقية ، ومقتضاه جواز الاتيان بالعمل تقية مع التمكن من الاتيان بدونها ، ومن هنا أفتى المشهور بأنّ من تمكن من الصلاة في موضع خال عن التقية لا يجب عليه ذلك ، بل يجوز له الاتيان بها مع العامة تقية ، وكذلك الحال في الوضوء . فالنتيجة : أنّ في موارد التقية يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره عن
ــ[57]ــ
الاتيان بالعمل بدونها ، كما يجوز له البدار إليها ، ولا تجب الاعادة إذا ارتفعت في الأثناء ولا القضاء إذا ارتفعت في خارج الوقت . ولكن قد أشرنا في ضمن البحوث السالفة أنّ موارد التقية خارجة عن محل الكلام في المقام . إلى هنا قد انتهينا إلى عدّة نتائج : الاُولى : أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري لا يجزي عن الواقع إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت . الثانية : أنّ الاتيان به مجز عنه إذا كان العذر مستوعباً لتمام الوقت . الثالثة : أنّ إطلاقات الأوامر الاضطرارية لا تشمل الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف وإرادته إلاّ في موارد التقية .
|