إجزاء المأمور به الظاهري عن المأمور به الواقعي \ الأقوال في المسألة - التفصيل بين الأمارات والاُصول 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7554


ــ[66]ــ


[ إجزاء المأمور به الظاهري ]

وأمّا الكلام في المسألة الثالثة ـ وهي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي وعدمه فيما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني أو تعبّدي ـ فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيها على أقوال :
الأوّل : الإجزاء مطلقاً .
الثاني : عدمه مطلقاً .
الثالث : التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني وما إذا انكشف بعلم تعبدي ، فيجزي على الثاني دون الأوّل .
الرابع : التفصيل بين القول بالسببية والقول بالطريقية ، فعلى الأوّل لا مناص من الإجزاء دون الثاني .
الخامس : التفصيل بين أقسام السببية بالالتزام بالإجزاء في بعضها وبعدمه في بعضها الآخر .
السادس : التفصيل بين الأمارات والاُصول بالالتزام بعدم الإجزاء في موارد الأمارات والإجزاء في موارد الاُصول . وقد اختار هذا التفصيل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) .
ولكن ينبغي لنا عطف الكلام في هذا التفصيل قبل أن نحرر محل النزاع وبيان ما هو الحق في المسألة من الأقوال فنقول : قد أفاد (قدس سره) في وجه ذلك ما إليك لفظه :
والتحقيق : أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق

ــ[67]ــ

متعلقه ، وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية بل واستصحابهما في وجه قوي ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية ، يجزي ، فان دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط ومبيّناً لدائرة الشرط وأ نّه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل ، وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أ نّه ما هو الشرط واقعاً كما هو لسان الأمارات فلا يجزي ، فان دليل حجيته حيث كان بلسان أ نّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أ نّه لم يكن كذلك بل كان لشرطه فاقداً (1) .
توضيح ما أفاده (قدس سره): هو أنّ الحكم الظاهري على قسمين: أحدهما: حكم ظاهري مجعول في ظرف الشك والجهل بالواقع حقيقة من دون نظر إلى الواقع أصلاً . وثانيهما : حكم ظاهري مجعول أيضاً في ظرف الشك في الواقع والجهل به ، إلاّ أ نّه ناظر إلى الواقع وكاشف عنه . والأوّل مفاد الاُصول العملية كقاعدة الطهارة والحلية والاستصحاب ، والثاني مفاد الأمارات .
أمّا الأوّل : فلأنّ المجعول في موارد تلك الاُصول هو الحكم الظاهري في ظرف الشك والجهل بالواقع بما هو جهل ، ومن الطبيعي أنّ ذلك إنّما يكون من دون لحاظ نظرها إلى الواقع أصلاً ، ولذا اُخذ الشك في موضوعه في لسانها ، ومن هنا لا يتصف بالصدق تارة وبالكذب تارة اُخرى ، ضرورة أنّ الحكم الظاهري المجعول في مواردها كالطهارة أو الحلية موجود حقيقة قبل انكشاف الخلاف، وبعد الانكشاف يرتفع من حينه لا من الأوّل ، كارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ، حتّى الاستصحاب بناءً على نظريته (قدس سره) وفي مثله لا يعقل

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 86 .

ــ[68]ــ

الاتصاف بالصدق مرّة وبالكذب اُخرى . نعم ، قد يكون الحكم مطابقاً للحكم الواقعي وقد يكون مخالفاً له ، ولكن هذا أمر آخر أجنبي عن اتصافه بهما بالكلية كما هو واضح .
فالنتيجة على أساس ذلك هي حكومة تلك الاُصول على الأدلة الواقعية في مرحلة الظاهر وتوجب توسعة دائرتها ، حيث إنّ ما دلّ على شرطية الطهارة أو الحلية للصلاة مثلاً ظاهر في الطهارة أو الحلية الواقعية ، ولكنها جعلت الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية ، فمقتضى هذه الحكومة هو أنّ الطهارة الظاهرية كالطهارة الواقعية فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، فكما أنّ المكلف إذا كان واجداً للطهارة الواقعية واجد للشرط حقيقة ، فكذلك إذا كان واجداً للطهارة الظاهرية ، فلو صلّى معها ثمّ انكشف الخلاف لم ينكشف أنّ العمل فاقد للشرط، بل هو واجد له حقيقة والشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه .
وبكلمة اُخرى : أنّ الطهارة الظاهرية الثابتة بقاعدة الطهارة أو استصحابها ، وكذا الحلية الظاهرية الثابتة بقاعدتها أو استصحابها ، لا واقع موضوعي لها ، ما عدا الثبوت في ظرف الشك لكي تطابق الواقع مرّة وتخالفه مرّة اُخرى ، ومن المعلوم أنّ ما لا واقع له لا يعقل اتصافه بالصدق والكذب ، فان معنى الصدق هو مطابقة الشيء لواقعه الموضوعي ، ومعنى الكذب عدم مطابقته له ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : أ نّها تحكم على الأدلة الواقعية وتجعل الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية .
فالنتيجة على ضوء ذلك : هي أنّ الشرط إذا كان الأعم فلا يعقل فيه انكشاف الخلاف وفقدان العمل له بعد ما كان واجداً له في ظرفه ، غاية الأمر يرتفع بارتفاع موضوعه وهو الشك ، فهي أحكام ثابتة واقعاً في مرحلة الظاهر ما دام الشك والجهل بالواقع ، فلو صلّى المكلف مع ثوب طاهر ظاهراً أو في

ــ[69]ــ

مكان مباح كذلك ثمّ بان عدمها واقعاً لم ينكشف أنّ الصلاة فاقدة للشرط في ظرفها، لفرض أنّ الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية ، والمفروض أ نّها واجدة لها في ظرفها حقيقة ، فلا يعقل انكشاف الخلاف بالاضافة إليها . نعم ، هي فاقدة للطهارة أو الحلية الواقعية ، ولكن قد عرفت أنّ الشرط ليس خصوصها ، ومن هنا يظهر أنّ التعبير بانكشاف الخلاف في أمثال هذه الموارد إنّما هو بلحاظ الطهارة أو الحلية الواقعية .
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ عدم الإجزاء في موارد هذه الاُصول غير معقول فلا مناص من القول بالإجزاء .
وأمّا الثاني ـ وهو مفاد الأمارات ـ فلأنّ المجعول في مواردها إنّما هو حجيتها بلحاظ نظرها إلى الواقع وإثباتها له على ما هو عليه من دون جعل شيء آخر فيها في مقابل الواقع ، بيان ذلك : أمّا بناءً على كون المجعول فيها هو الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي فواضح ، وذلك لأنّ الأمارة على ضوء هذه النظرية إن كانت مطابقة للواقع أثبتت الواقع فحسب ، وإن كانت خاطئة وغير مطابقة له لم تؤد إلى حكم شرعي أصلاً : لا واقعي ولا ظاهري ، أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلفرض عدم جعل حكم ظاهري في قبال الحكم الواقعي في موردها، وإنّما المجعول كما عرفت هو الطريقية والكاشفية فحسب ، فإذن حالها حال القطع المخالف للواقع . وأمّا بناءً على نظريته (قدس سره) من أنّ المجعول فيها إنّما هو المنجزية والمعذرية ، فأيضاً الأمر كذلك ، لأنها على تقدير المطابقة تثبت الواقع إثباتاً تنجزياً فحسب ، وعلى تقدير المخالفة فلا حكم في موردها ، لا واقعاً ولا ظاهراً ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّ المجعول في مواردها إنّما هو المنجزية والمعذرية دون شيء آخر .
وعلى الجملة : فحال الأمارات حال القطع من هذه الناحية فلا فرق بينهما

ــ[70]ــ

أصلاً ، فكما أ نّه لا حكم في موارد القطع المخالف للواقع لا واقعاً ولا ظاهراً ، فكذلك لا حكم في موارد الأمارات المخالفة له . ومن هنا تتصف الأمارات بالصدق مرّة وبالكذب مرّة اُخرى .
فالنتيجة في نهاية المطاف هي أنّ في مقام الثبوت وإن كان لا فرق بين الأمارات والاُصول ، حيث إنّ كلتيهما وظائف مجعولة للجاهل بالواقع دون العالم به ، إلاّ أ نّهما تفترقان في مرحلة الاثبات في نقطة واحدة ، وهي أنّ الشك قد اُخذ في موضوع الاُصول في لسان أدلتها ، ومن هنا يكون الحكم المجعول في مواردها في قبال الواقع من دون نظره إليه . وهذا بخلاف الأمارات، فانّ الشك لم يؤخذ في موضوعها في لسان أدلتها ، وأنّ لسانها كما عرفت لسان إثبات الواقع والنظر إليه . وعلى ضوء ذلك لا مناص من القول بعدم الإجزاء في موارد الأمارات عند كشف الخلاف ، لما عرفت من عدم الحكم في موارد مخالفتها للواقع لا واقعاً ولا ظاهراً ، ومعه كيف يتصور الإجزاء فيها ، ومن هنا اتفقت كلماتهم على عدم الإجزاء في موارد القطع بالخلاف .
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) خاطئ نقضاً وحلاً .
أمّا الأوّل : فلأنّ الالتزام بما أفاده (قدس سره) ممّا لا يمكن في غير باب الصلاة من أبواب الواجبات كالعبادات والمعاملات ، ومن هنا لو توضأ بماء قد حكم بطهارته من جهة قاعدة الطهارة أو استصحابها ثمّ انكشف نجاسته لم يلتزم أحد من الفقهاء والمجتهدين حتّى هو (قدس سره) بالإجزاء فيه وعدم وجوب إعادته ، وكذا لو غسل ثوبه أو بدنه في هذا الماء ثمّ انكشف نجاسته لم يحكم أحد بطهارته ، وهكذا ، مع أنّ لازم ما أفاده (قدس سره) هو الحكم بصحة الوضوء في المثال الأوّل ، وبطهارة الثوب أو البدن في المثال الثاني ، لفرض أنّ الشرط أعم من الطهارة الظاهرية والواقعية ، والمفروض وجود

ــ[71]ــ

الطهارة الظاهرية هنا ، ومن الطبيعي أنّ العمل إذا كان واجداً للشرط في ظرفه حكم بصحته ، ولا يتصور فيه كشف الخلاف كما عرفت ، وارتفاعه إنّما هو بارتفاع موضوعه . ومن هذا القبيل ما إذا افترضنا أنّ زيداً كان يملك داراً مثلاً ثمّ حصل لنا الشك في بقاء ملكيته فأخذنا باستصحاب بقائها ثمّ اشتريناها منه وبعد ذلك انكشف الخلاف وبان أنّ زيداً لم يكن مالكاً لها ، فمقتضى ما أفاده (قدس سره) هو الحكم بصحة هذا الشراء ، لفرض أنّ الاستصحاب حاكم على الدليل الواقعي وأفاد التوسعة في الشرط وجعله أعم من الملكية الواقعية والظاهرية ، مع أ نّه لن يلتزم ولا يلتزم بذلك أحد حتّى هو (قدس سره) فالنتيجة : أنّ ما أفاده (قدس سره) منقوض في غير باب الصلاة من أبواب العبادات والمعاملات .
وأمّا الثاني : ـ وهو جوابه حلاً ـ فلأنّ قاعدتي الطهارة والحلية وإن كانتا تفيدان جعل الحكم الظاهري في مورد الشك بالواقع والجهل به من دون نظر إليه ، إلاّ أنّ ذلك مع المحافظة على الواقع بدون أن يوجب جعله في موردهما انقلابه وتبديله أصلاً ، والسبب في ذلك ما حققناه في مورده(1) من أ نّه لا تنافي ولا تضاد بين الأحكام في أنفسها ، ضرورة أنّ المضادة إنّما تكون بين الأمور التكوينية الموجودة في الخارج ، وأمّا الاُمور الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار المعتبر فلا تعقل المضادة والمنافاة بينها أصلاً ، وبما أنّ الأحكام الشرعية اُمور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها في الخارج ما عدا اعتبار الشارع إيّاها في عالم الاعتبار ، فلا تعقل المنافاة والمضادة بينها في أنفسها أصلاً ، بداهة أ نّه لا تنافي بين اعتبار الوجوب في نفسه لفعل واعتبار الحرمة كذلك له، وإنّما المضادّة والمنافاة بينها من إحدى ناحيتين : الاُولى : بحسب المبدأ يعني المصلحة

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 2 : 126 .

ــ[72]ــ

والمفسدة، بناءً على مسلك العدلية من تبعية الأحكام لهما . الثانية: بحسب المنتهى يعني مرحلة الامتثال، حيث لايقدر المكلف على امتثال الوجوب والحرمة المجعولين لفعل واحد في زمن واحد ، كما أ نّه لا يمكن اجتماعهما فيه بحسب المبدأ ، فانّ المصلحة الملزمة مضادة للمفسدة كذلك فلا يعقل اجتماعهما في فعل واحد .
وعلى ضوء ذلك قد قلنا إنّه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي أصلاً لا في نفسه ولا من ناحية المبدأ ، ولا من ناحية المنتهى ، أمّا الأوّل : فلما عرفت من عدم التنـافي بين الأحكام في أنفسها . وأمّا الثاني : فلأنّ الحكم الظاهري لم ينشأ عن المصلحة في متعلقه ، وإنّما نشأ عن المصلحة في نفسه . وأمّا الثالث : فلأنّ الحكم الظاهري إنّما هو وظيفة من لم يصل إليه الحكم الواقعي لا بعلم وجداني ولا بعلم تعبدي ، وأمّا من وصل إليه الحكم الواقعي فلا موضوع عندئذ للحكم الظاهري في مادته ، فلا يجتمعان في مرحلة الامتثال لكي تقع المنافاة بينهما في هذه المرحلة .
وعلى الجملة : ففي موارد وجود الحكم الظاهري لا يجب على المكلف امتثال الحكم الواقعي ، وفي موارد وجوب امتثاله لا حكم ظاهري في البين . فالنتيجة : هي أ نّه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي أصلاً ، وعليه فالالتزام بوجود الحكم الظاهري في موارد قاعدة الطهارة والحلية لا ينافي الالتزام بثبوت الحكم الواقعي في مواردهما أيضاً ، بل لا مناص من الالتزام بذلك بعد بطلان التصويب والانقلاب بكافة أشكاله وألوانه كما حققناه في محلّه (1) .
وعلى ضوء هذا الأساس فلو صلّى المكلف مع طهارة البدن أو الثياب ظاهراً بمقتضى قاعدة الطهارة أو استصحابها وكان في الواقع نجساً فصلاته وإن

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 2 : 109 ، وسيأتي في ص 82 .

ــ[73]ــ

كانت في الظاهر محكومة بالصحة ويترتب عليها آثارها ، إلاّ أ نّها باطلة في الواقع ، لوقوعها في النجس ، وعليه فإذا انكشف الخلاف انكشف أ نّها فاقدة للشرط من الأوّل ، وأ نّه لم يأت بالصلاة المأمور بها واقعاً ، وأنّ ما أتى به ليس مطابقاً لها ، فإذن بطبيعة الحال تجب الاعادة أو القضاء ، والاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري إنّما يكون عذراً له في تركها ما دام بقاء الجهل والشك ، وأمّا إذا ارتفع وانكشف الحال لم يكن معذوراً في تركها ، فالأحكام الظاهرية في الحقيقة أحكام عذرية فحسب ، وليست أحكاماً حقيقية في قبال الأحكام الواقعية ، والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام الجهل وإذا ارتفع ارتفع عذره ، وبعده لا يكون معذوراً في ترك الواقع وترتيب آثاره عليه من الأوّل .
وأمّا حديث حكـومة تلك القواعد على الأدلة الواقعية كما تقدّم ذكره فلا يجدي ، والسبب في ذلك هو أنّ هذه الحكومة حكومة ظاهرية موقّتة بزمن الجهل بالواقع والشك فيه ، وليست بحكومة واقعية لكي توجب توسعة الواقع أو تضييقه . ونتيجة هذه الحكومة بطبيعة الحال ترتيب آثار الواقـع ما لم ينكشف الخلاف ، فإذا انكشف فلا بدّ من العمل على طبق الواقع .
وبكلمة اُخرى : أنّ الشرط هو الطهارة أو الحلية الواقعية فحسب بمقتضى الأدلة الواقعية ، وهذه القواعد والاُصول إنّما تثبت الطهارة أو الحلية في مواردها عند الشك والجهل بها ، والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام هذا الشك والجهل ، فإذا ارتفع انكشف أنّ العمل فاقد له من الأوّل ، وعليه فما أتى به غير مأمور به واقعاً . ومن الطبيعي أنّ إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل خاص ، وإلاّ فمقتضى القاعدة عدم إجزائه عنه .
أو فقل : إنّ في صورة مطابقة تلك القواعد للواقع فالشرط الواقعي موجود وصحة العمل مستندة إلى وجدانه ، ولا اثر عندئذ لوجود الطهارة أو الحلية

ــ[74]ــ

الظاهرية ، وأمّا في صورة مخالفتها للواقع فأثرها ليس إلاّ ترتيب آثار الواقع عليها تعبداً في مرحلة الظاهر لا البناء على أ نّها شرط حقيقة ، كما أنّ الطهارة أو الحلية الواقعية شرط كذلك، بداهة أنّ لسانها ليس إثبات أنّ الشرط أعم منها، بل لسانها إثبات آثار الشرط ظاهراً في ظرف الشك والجهل ، وعند ارتفاعه وانكشاف الخلاف ظهر أنّ الشرط غير موجود . ومن هنا يظهر أنّ هذه الحكومة إنّما هي حكومة في طول الواقع وفي ظرف الشك به بالاضافة إلى ترتيب آثار الشرط الواقعي عليها في مرحلة الظاهر فحسب ، وليست بحكومة واقعية بالاضافة إلى توسعة دائرة الشرط وجعله الأعم من الواقع والظاهر حقيقة .
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : هي أنّ مقتضى القاعدة عند ارتفاع الجهل وكشف الخلاف عدم الإجزاء ، فالإجزاء يحتاج إلى دليل خاص ، وقد ثبت ذلك في خصوص باب الصلاة دون غيره من أبواب العبادات والمعاملات . وقد تحصّل من ذلك : أ نّه لا فرق بين هذه القواعد والاُصول وبين الأمارات فانّهما من واد واحد ، فما أفاده (قدس سره) من التفصيل بينهما ساقط ولا أصل له كما عرفت ، هذا من ناحية .
ومن ناحية اُخرى : لا إشكال في أنّ الأمارات القائمة على الشبهات الموضوعية كالبينة واليد وما شاكلهما ممّا يجري في تنقيح الموضوع وإثباته خارجة عن محل البحث ، والسبب في ذلك : هو أنّ قيام تلك الأمارات على شيء لا يوجب قلب الواقع عما هو عليه ، والقائلون بالتصويب في الأحكام الشرعية لا يقولون به في الموضوعات الخارجية ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في ضمن البحوث الآتية أنّ الإجزاء في موارد الاُصول والأمارات غير معقول إلاّ بالالتزام بالتصويب فيها ، والتصويب في الأمارات الجارية في الشبهات الموضوعية غير معقول ، بداهة أنّ

ــ[75]ــ

البيّنة الشرعية إذا قامت على انّ المائع الفلاني خمر مثلاً ، لا توجب انقلاب الواقع عما هو عليه من هذه الناحية ، فلو كان في الواقع ماء لم تجعله خمراً وبالعكس ، كما إذا قامت على أ نّه ماء وكان في الواقع خمراً لم تجعله ماءً ، أو إذا قامت على أنّ المال الذي هو لزيد قد نقل منه بناقل شرعي إلى غيره ثمّ بعد ذلك انكشف الخلاف وبان أ نّه لم ينتقل إلى غيره لم توجب انقلاب الواقع عما هو عليه وتغيّره ، يعني قلب ملكية زيد إلى غيره ، أو إذا افترضنا أ نّها قامت على أنّ المائع الفلاني ماء فتوضأ به ثمّ انكشف خلافه لم يكن مجزئاً ، لما عرفت من أ نّها لا توجب انقلاب الواقع ولا تجعل غير الماء ماء، ليكون الوضوء المذكور مجزئاً عن الواقع .
ومن ناحية ثالثة : قد تسالمنا على خروج موارد انكشف عدم الحكم الظاهري فيها رأساً عن محل الكلام ، وذلك كما لو استظهر المجتهد معنى من لفظ وأفتى على طبقه استناداً إلى حجية الظهور ، ثمّ بعد ذلك انكشف أ نّه لا ظهور له في هذا المعنى المعيّن أصلاً ، بل هو مجرد وهم وخيال فلا واقع موضوعي له ، فعندئذ لا ريب في عدم حجية هذا المعنى ، لعدم اندراجه تحت أدلة حجية الظهورات . وكذا لو أفتى المجتهد على طبق رواية وقع في سلسلة سنده ابن سنان ، بتخيّل أ نّه عبدالله بن سنان الثقة ، ثمّ بان أ نّه محمّد بن سنان الضعيف ، فانّ الاعتقاد الأوّل باطل ، حيث إنّه صرف وهم وخيال ولا واقع له .
فالنتيجة : أنّ كلّما كان الاشتباه في التطبيق بتخيل أنّ اللفظ الفلاني ظاهر في معنى ثمّ بان أ نّه غير ظاهر فيه من الأوّل وكان اعتقاد الظهور مجرد وهم بلا واقعية له ، أو اعتقد أنّ الرواية الفلانية رواية ثقة بتخيل أنّ الواقع في سندها زرارة بن أعين مثلاً ثمّ انكشف أ نّها رواية ضعيفة ، وأنّ الواقع في سندها ليس هو زرارة بن أعين ، بل شخص آخر لم يوثق ، أو اعتقد أنّ الرواية الفلانية

ــ[76]ــ

مسندة ثمّ بان أ نّها مرسلة وهكذا ، فهذه الموارد بكافة أشكالها خارجة عن محل النزاع وقد تسالموا على عدم الإجزاء فيها .
ومن ناحية رابعة : لا إشكال ولا خلاف أيضاً بين الأصحاب في عدم الإجزاء في موارد انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية بالعلم الوجداني بأن يعلم المجتهد مثلاً بمخالفة فتواه السابقة للواقع .
فالنتيجة على ضوء ما قدّمناه في نهاية المطاف هي ما يلي :
إنّ محل النزاع في مسألتنا هذه بين الأعلام والمحققين هو ما إذا انكشف الخلاف في موارد الحجج والأمارات والاُصول العملية في الشبهات الحكمية بقيام حجة معتبرة على الخلاف ، وذلك كما إذا أفتى المجتهد بعدم جزئية شيء أو شرطيته مثلاً من جهة أصل عملي كالاستصحاب أو البراءة ثمّ بعد ذلك انكشف الخلاف واطلع على دليل اجتهادي يدل على أ نّه جزء أو شرط ، أو أفتى بذلك من جهة أصل لفظي كالعموم أو الاطلاق أو نحو ذلك ثمّ بعده انكشف الخلاف واطلع على وجود مخصص أو مقيد أو قرينة مجاز ، ففي هذه الموارد يقع الكلام في أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يجزي عن المأمور به بالأمر الواقعي إعادة أو قضاءً ، أو لا يجزي ؟ فيه وجوه وأقوال .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net