اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري - ثمرة القول بوجوب الأجزاء غيرياً 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4802


أمّا الجهة الاُولى : فقد يطلق المقدمة ويراد بها ما يكون وجوده في الخارج غير وجود ذيها بأن يكون فيه وجودان ، أحدهما : للمقدمة ، والآخر : لذي المقدمة ، غاية الأمر أنّ وجـود الثاني يتوقف على وجود الاُولى . وقد يطلق ويراد بها مطلق ما يتوقف عليه وجود الشيء وإن لم يكن وجوده في الخارج غير وجود ذيه .
أمّا المقدمة بالاطـلاق الأوّل فلا تصدق على الأجزاء ، بداهة أنّ وجود الأجزاء في الخارج ليس مغايراً لوجود الكل ، بل وجوده فيه عين وجود أجزائه بالأسر ، فانّها إنّما تغايره إذا لوحظت لا بشرط، وأمّا إذا لوحظت بشرط شيء فهي عينه ، حيث إنّه هو الأجزاء الملحوظة كذلك ، والسر فيه واضح ، وهو أنّ التركيب بينها اعتباري فلا وجود له خارجاً ما عدا وجود أجزائه فيه. وإن شئت قلت : إنّ في الخارج وجوداً واحداً وذلك الوجود الواحد كما يضاف إلى الكل فيكون وجوداً له ، كذلك يضاف إلى الأجزاء ، وليس فيه وجودان أحدهما مقدمة للآخر .
وأمّا المقدمة بالاطلاق الثاني فتشمل الأجزاء أيضاً ، لوضوح أنّ وجود الكل يتوقف على وجود أجزائه ، وأمّا وجودها فلا يتوقف على وجوده ، وذلك كالواحد بالاضافة إلى الاثنين حيث إنّ وجود الاثنين يتوقف على وجود الواحد دون العكس . وعلى الجملة : فبما أنّ وجود الجزء يتقدم على وجود الكل

ــ[118]ــ

طبعاً فبطبيعة الحال لا يعقل وجوده بدون وجوده ، دون العكس ، وهذا معنى كونه مقدمة له . فالنتيجة أ نّه لا إشكال في صدق المقدمة بالاطلاق الثاني على الأجزاء .
وأمّا الجهة الثانية : فقد أفاد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في هامش الكفاية (1) ما حاصله : هو أ نّه لا مقتضي لاتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري أصلاً ، والسبب في ذلك : هو أنّ ملاك الوجوب الغيري إنّما هو فيما إذا كان وجود المقدمة غير وجود ذيها في الخارج ليقع البحـث عن أنّ إيجاب الشارع ذي المقدمة هل يستلزم إيجابه مقدمته تبعاً أم لا ، وأمّا إذا كان وجودها عين وجود ذيها في الخارج كالجزء بالاضافة إلى الكل فلا ملاك لاتصافها به ، لوضوح أ نّها واجبة بعين الوجوب المتعلق بالكل وهو الوجوب النفسي ومعه لا مقتضي لاتصافها به ، بل هو لغو محض .
وهذا الذي أفاده (قدس سره) في غاية الصحة والمتانة ، بداهة أ نّه لا موضـوع لحكم العقل بالملازمة هنا بعد فرض أنّ الأجزاء نفس المركب في الخارج وأحدهما عين الآخر وجوداً ووجوباً ، ومعه كيف يعقل وجود الملاك للوجوب الغيري فيها .
وأمّا الجهة الثالثة : فقد ادّعى صاحب الكفاية (قدس سره) (2) وجود المانع عن اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري على فرض ثبوت المقتضى له ـ وهو لزوم اجتماع المثـلين ـ وذلك لأنّ الأجزاء بشرط الاجتماع واجبة بوجوب نفسي ، ومع ذلك لو وجبت بوجوب غيري لزم اجتماع حكمين متماثلين في شيء واحد ، وهو محال حتّى لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في مورد التصادق

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 91 .
(2) كفاية الاُصول : 90 .

ــ[119]ــ

والاجتماع ، والسبب فيه هو أنّ القول بالجواز هناك يرتكز على كون الجهتين تقييديتين ، وأمّا إذا كانتا تعليليتين فلا يمكن القول به ، وبما أنّ الجهة فيما نحن فيه تعليلية وهي عنوان المقدمة ولم تكن تقييدية فلا يمكن القول بالاجتماع فيه .
ولنأخذ بالنقد عليه ، بيانه : أنّ ما أفاده (قدس سره) من المانع في فرض ثبوت المقتضي لايصلح أن يكون مانعاً، والسبب في ذلك هو أن اجتماع الحكمين المذكورين في شيء واحد لا يؤدي إلى اجتماع المثلين ، بل يؤدي إلى اندكاك أحدهما في الآخر فيصيران حكماً واحداً مؤكداً كما هو الحال في كل واجب نفسي يتوقف عليه واجب نفسي آخر ، كصلاة الظهر بالاضافة إلى صلاة العصر حيث إنّها واجبة بحد ذاتها نفساً ، أي سواء أكان هناك واجب آخر أم لا ، وواجبة بالاضافة إلى صلاة العصر غيراً باعتبار توقّفها عليها ، فهي ذات ملاكين ، فإذن بطبيعة الحال يندك أحدهما في الآخر ويتحصل من مجموعهما وجوب واحد أكيد متعلق بها .
وعلى الجملة : ففي كل مورد اجتمع فيه حكمان متماثلان ـ سواء أكانا من نوع واحد أم من نوعين ، وسواء أكان كلاهما معاً إلزاميين أم كان أحدهما إلزامياً دون الآخر ـ يندك أحدهما في الآخر ، ولا يعقل بقاء كل واحد منهما بحدّه ، هذا .
وقد اعترض على ذلك بعض الأعاظم (قدس سره) (1) ، وحاصله : هو أنّ الاندكاك بين الحكمين المتماثلين إنّما يتصور فيما إذا كانا في رتبة واحدة ، وأمّا إذا كان أحدهما في طول الآخر فلم يتصور الاندكاك بينهما ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وذلك لأن ملاك الوجوب الغيري في طول ملاك الوجوب النفسي . وإن شئت قلت : إنّ الوجوب الغيري متأخر رتبة عن الوجوب النفسي حيث إنّه

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الأفكار 1 : 268 .

ــ[120]ــ

مترشح عنه ، وعليه فبطبيعة الحال اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري في رتبة متأخرة عن اتصافها بالوجوب النفسي ، ومعه كيف يعقل حصول الاندكاك بينهما .
ولنأخذ بالنقد عليه : وهو أنّ ما أفاده (قدس سره) مبتن على الخلط بين تقدّم حكم على حكم آخر زماناً ، وبين تقدمه عليه رتبة مع مقارنته له كذلك ، بيانه : أنّ الاندكاك بين الحكمين إنّما لا يتصور فيما إذا كانا مختلفين زماناً ، بأن يكون أحدهما في زمان والآخر في زمان آخر بحيث لا يجتمعان في زمان واحد ، ففي مثل ذلك لا يعقل الاندكاك والتأكد .
وأمّا إذا كانا مقارنين زماناً ومجتمعين فيه ـ وإن كانا مختلفين رتبة ـ فلا مناص من الالتزام بالتأكد والاندكاك، بداهة أ نّه لا أثر لاختلاف الرتب العقلية في الأحكام الشرعية ، لعدم ثبوتها لها ، وإنّما هي ثابتة للموجودات الزمانية . ومثال الاندكاك في التكوين والتشريع موجود .
أمّا في الأوّل : فكما إذا افترضنا وجود ملاكين لاتصاف جسم بالبياض مثلاً وكان أحدهما في طول الآخر رتبة ، كما إذا فرضنا أنّ اتصاف جسم ببياض سبب لايجاد بياض آخر فيه ، فالبياضان عندئذ وإن كانا مختلفين رتبة إلاّ أنّ اتحادهما زمناً يوجب اندكاك أحدهما في الآخر ، ولا يعقل بقاء كل منهما فيه بحده واستقلاله .
وأمّا في الثاني : كما لو نذر الصلاة في المسجد أو الجماعة أو نحو ذلك ، فانّه لا شبهة في أنّ الوجوب الآتي من قبل النذر يندك في الوجوب أو الاستحباب النفسي الثابت لها ، مع أ نّه في رتبة متأخرة عنه ، لتأخر ملاكه ـ وهو رجحان متعلقه ـ عن ملاك ذلك ، والسبب فيه ليس إلاّ اجتماعهما في شيء واحد وزمن واحد . ومن هنا ذكرنا في محلّه أنّ الأمر النذري في عرض الأمر النفسي زمناً

 
 

ــ[121]ــ

وإن كان في طوله رتبة بملاك اعتبار الرجحان في متعلقه في مرتبة سابقة عليه .
فالنتيجة : أنّ الملاك المقتضي للاندكاك والتأكد هو تقارن الحكمين زمناً وإن كانا مختلفين رتبة . أضف إلى ذلك : أنّ الوجوب الغيري ليس معلولاً للوجوب النفسي ومترشحاً منه ، كما سيأتي تحقيقه في ضمن البحوث الآتية .
وقد ادّعى بعض الأعاظم (قدس سره) (1) ظهور الثمرة بين القول باتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري والقول بعدم اتصافها به في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، بدعوى أ نّه على القول الأوّل لا ينحل العلم الاجمالي بوجوب أحدهما بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، وذلك لأنّ مناط الانحلال هو انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل على كل تقدير ، وبما أنّ في المقام لا ينطبق كذلك باعتبار أنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم بالتفصيل هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسي ، فلا انحلال في البين . وعلى القول الثاني ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب نفسي متعلق بذات الأقل ـ وهي المركب من تسعة أجزاء مثلاً ـ والشك البدوي في اعتبار أمر زائد ، وعندئذ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الزائد .
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) خاطئ جداً ، والسبب في ذلك هو أن انحلال العلم الاجمالي وعدمه في تلك المسألة يرتكزان على نقطة اُخرى وهي جريان أصالة البراءة عن وجوب الزائد وعدم جريانها ، ولا صلة لها باتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري وعدم اتصافها به . وإن شئت قلت : إنّ الأمر بالمركب إذا لم يكن أمر بالأجزاء فلا موجب للانحلال ، وإن كان الأمر به عين الأمر

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الأفكار 1 : 269 .

ــ[122]ــ

بالأجزاء كما هو كذلك تعيّن القول بالانحلال ، بناءً على ما حققناه في مورده (1) من عـدم المـانع من جريان أصـالة البراءة عن وجوب الزائد ، وعلى كلا التقديرين لا فرق بين القول بوجوب الأجزاء غيرياً والقول بعدمه .
نتيجة ما ذكرناه إلى هنا : هي أنّ المقدمة الداخلية خارجة عن مورد البحث، فالذي هو مورد للبحث والنزاع هو المقدمة الخارجية بكلا صنفيها .

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 2 : 494 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net