وأمّا شرائط الحكم : سواء أكان حكماً تكليفياً أم كان وضعياً ، فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما إليك نصّه : والتحقيق في رفع هذا الاشكال أن يقال : إنّ الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها لا يخلو إمّا أن يكون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتكليف أو الوضع أو المأمور به . أمّا الأوّل : فكون أحدهما شرطاً له ليس إلاّ أن للحاظه دخلاً في تكليف الآمر كالشرط المقارن بعينه ، فكما أنّ اشتراطه بما يقارنه ليس إلاّ أنّ لتصوره دخلاً في أمره ، بحيث لولاه لما كاد يحصل الداعي إلى الأمر ، كذلك المتقدم أو المتأخر . وبالجملة : حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية كان من مبادئه بما هو كذلك تصوّر الشيء بأطرافه ليرغب في طلبه والأمر به ، بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره ، فيُسمّى كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطاً ، لأجل دخل لحاظه في حصوله ، كان مقارناً له أو لم يكن كذلك ، متقدماً أو متأخراً ، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً ، كان فيهما كذلك فلا إشكال . وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً ولو كان مقارناً ، فان دخل شيء في الحكم به وصحة انتزاعه لدى الحاكم به ليس إلاّ ما كان بلحاظه يصح انتزاعه ، وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده ، فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصـوّره ولحاظه وهو مقارن ، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن ، فتأمّل تعرف (1) . ملخص ما أفاده (قدس سره) : هو أنّ الشرط في الحقيقة تصور الشيء
ـــــــــــــــــــــ (1) كفاية الاُصول : 93 .
ــ[132]ــ
ووجوده الذهني دون وجوده الخارجي، وإطلاق الشرط عليه مبني على ضرب من المسامحة باعتبار أ نّه طرف له ، وعلى ضوء هذا الأساس لا فرق بين كون وجود الشرط خارجاً متأخراً عن المشروط أو متقدماً عليه أو مقارناً له ، إذ على جميع هذه التقادير الشرط واقعاً والدخيل فيه حقيقة هو لحاظه ووجوده العلمي ، وهو معاصر له زماناً ومتقدم عليه رتبة . وعلى الجملة : فالحكم بما أ نّه فعل اختياري للحاكم ، فلا يتوقف صدوره منه إلاّ على تصوره بتمام أطرافه من المتقدمة والمقارنة واللاّحقة ، وهو الموجب لحدوث الارادة في نفسه نحو إيجاده ، كسائر الأفعال الاختيارية ، فالشرط له حقيقة إنّما هو وجود تلك الأطراف في عالم التصور واللحاظ ، دون وجودها في عالم الخارج . وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) إنّما يتم في موردين : أحدهما : في القضايا الشخصية . وثانيهما : في مرحلة الجعل والتشريع ، ولا يتم فيما نحن فيه ، فلنا دعاو ثلاث : أمّا الدعوى الاُولى : فلأن فعلية الأحكام المجعولة في القضايا الشخصية مساوقة لجعلها غالباً ، فهما في آن واحد ، والسبب في ذلك : أنّ الموضوع فيها هو الشخص الخارجي ، ومن الطبيعي أ نّه ليس لفعلية الحكم المجعول عليه حالة منتظرة ما عدا جعله ، فانّ فعلية الحكم إنّما هي بفعلية موضوعه ، فإذا كان موضوعه موجوداً في الخارج كما هو المفروض كان فعلياً لا محالة ، فلا تتوقف فعلية الحكم فيها على شيء آخر ، ومن المعلوم أنّ ما هو دخيل في ذلك ومؤثر فيه إنّما هو إرادة المولى بمبادئها من التصور واللحاظ ، فلا دخل لشيء من الوجودات الخارجية فيه ، فأمر المولى باتيان الماء مثلاً لا يتوقف على شيء سوى إرادته واختياره كسائر أفعاله الاختيارية ، والمفروض أنّ زمان الجعل
ــ[133]ــ
فيه مساوق لزمان فعلية المجعول ، فلا تتوقف على شيء آخر ما عداه . فالنتيجة : أنّ في أمثال هذه الموارد لا يعقل أن يكون الشيء شرطاً لفعلية الحكم ومؤثراً فيها من دون دخله في جعله ، بل الأمر بالعكس تماماً ، يعني أنّ الشرائط في أمثال تلك الموارد بأجمعها راجعة إلى شرائط الجعل ، فليس شيء منها راجعاً إلى شرط المجعول ، وقد عرفت أنّ شرائط الجعل عبارة عن علم الآمر وتصوّره الشيء بتمام أطرافه المتقدمة والمقارنة والمتأخرة ، سواء أكان علمه مطابقاً للواقع أم لا . إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنّ تمامية ما أفاده (قدس سره) في تلك الموارد إنّما هي من ناحية أن شرائط الحكم فيها ترجع إلى شرائط الجعل فحسب ، فلا معنى لكون شيء شرطاً فيها للحكم . وأمّا الدعوى الثانية : فقد ظهر حالها من ضوء ما بينّاه في الدعوى الاُولى ، وأنّ الجعل كسائر الأفعال الاختيارية فلا يتوقف على شيء ما عدا الاختيار بمبادئه . وأمّا الدعوى الثالثة : فلأنّ محل الكـلام إنّما هو في شرائط الحكم من التكليفي أو الوضعي لا في شرائط الجعل ، فلا صلة لما أفاده (قدس سره) بما هو محل الكلام ، بيان ذلك : هو أنّ للأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية مرتبتين : الاُولى : مرتبة الجعل والانشاء ، فالحكم في هذه المرتبة لا يتوقف على وجود شيء في الخارج ، بل هو موجود بوجود إنشائي فحسب ، وله بقاء واستمرار كذلك ما لم ينسخ . الثانية : مرتبة الفعلية ، فالحكم في هذه المرتبة يتوقف على وجود موضوعه بتمام قيوده خارجاً ، وذلك لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه ، ومحل الكلام في المقام إنّما هو في شرائط المجعول وهو الحكم الفعلي ، لا في شرائط
ــ[134]ــ
الجعل حيث قد عرفت الكلام فيها ، وأنّ الجعل بما أ نّه فعل اختياري للجاعل فلا وعاء لشرائطه إلاّ النفس ولا دخل للوجود الخارجي فيه أصلاً . وهذا بخلاف شرائط المجعول ، فانّها حيث كانت عبارة عن القيود المأخوذة في موضوعه في مقام الجعل فيستحيل تحققه وفعليته بدون تحققها وفعليتها ، وذلك كالاسـتطاعة مثلاً التي أخذت في موضوع وجوب الحج ، فانّها ما لم تتحقق في الخارج لا يكون وجوب الحج فعلياً ، وكالعقد الذي اُخذ في موضوع الملكية أو الزوجية ، فانّه ما لم يوجد خارجاً لا تتحقق الملكية أو الزوجية . وعلى الجملة : ففعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه المأخوذ مفروض الوجود في مرحلة الجعل ، ومن هنا وقع الاشكال فيما إذا كان الشرط متأخراً زماناً عن الحكم . فالنتيجة لحدّ الآن أمـران : الأوّل : أنّ فعلية الحكم تتوقف على فعلـية موضوعه المأخوذ مفروض الوجود في ظرف التشريع . الثاني : أنّ كلامه (قدس سره) مبني على الخلط بين شرائط الجعل وشرائط المجعول ، وقد مرّ أ نّه لا صلة لاحداهما بالاُخرى أصلاً . وعلى ضوء هذه النتيجة قد التزم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) باستحالة الشرط المتأخر بدعـوى أنّ الموضوع في القضـايا الحقيقية قد اُخذ مفروض الوجود بتمام شرائطه وقيوده ، ومن الطبيعي أنّ الموضوع ما لم يتحقق في الخارج كذلك يستحيل تحقق الحكم ، حيث إنّ نسبة الموضوع إلى الحكم كنسبة العلّة التامة إلى معلولها ، ففرض فعلية الحكم قبل وجود موضوعه ولو من ناحية عدم وجود قيد من قيوده كفرض وجود المعلول قبل وجود علته ، والسر فيه
ـــــــــــــــــــــ (1) أجود التقريرات 1 : 328 .
ــ[135]ــ
هو أنّ القضايا الحقيقية بأجمعها ترجع في الحقيقة إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، ومن الطبيعي أ نّه لا يمكن وجود التالي قبل وجود المقدّم .
|