وأمّا المقام الثاني : وهو مقام الاثبات ، فلا شبهة في أنّ الشرط المتأخر على خلاف ظواهر الأدلة التي تتكفل جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية ، فانّ الظاهر منها هو كون الشرط المأخوذ في موضوعاتها مقارناً للحكم كقوله تعالى: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ا لْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(1) حيث إنّ المتفاهم العرفي منه هو كون الاستطاعة خارجاً مقارناً لوجوب الحج، فارادة كون وجوبه سابقاً على وجودها في الخارج تحتاج إلى مؤونة زائدة . فالنتيجة : أنّ الالتزام بوقوع الشرط المتأخر في مقام الاثبات يحتاج إلى دليل وبدونه فلا يمكن الالتزام به . نعم ، شرطية الاجازة بوجودها المتأخر في العقد الفضـولي كالبيع والاجارة والنكاح وما شاكل ذلك ، وشرطية القدرة كذلك في الواجبات التدريجية كالصلاة والصوم ونحوهما لا تحتاجان إلى دليل خاص ، بل كانتا على طبق القاعدة . أمّا الاُولى : فلأجل أنّ العقد قبل تحقق الاجازة لم يكن منتسباً إلى المالك حتّى يكون مشمولاً لعمومات الصحة وإطلاقاتها ، فانّها تدل على صحة عقد المالك وإمضائه ولا معنى لدلالتها على نفوذه وصحته لغير المالك أصلاً ، فإذا تعلقت الاجازة به انتسب إلى المالك من حين وقوعه وحكم بصحته من هذا الحين ، والسبب في ذلك هو أنّ الاجازة من الاُمور التعلقية فكما يمكن تعلقها بأمر مقارن لها أو متأخر عنها ، فكذلك يمكن تعلقها بأمر متقدم عليها . هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : أنّ المالك بما أ نّه أجاز العقد السابق الصادر من الفضولي
ـــــــــــــــــــــ (1) آل عمران 3 : 97 .
ــ[139]ــ
فبطبيعة الحال قد أمضى الشارع ذلك العقد بمقتضى تلك العمومات والاطلاقات، ومن ناحية ثالثة : أنّ ظرف الاجازة وإن كان متأخراً إلاّ أنّ متعلقها ـ وهو العقد ـ أمر سابق . فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي صحة العقد من حينه وحصول الملكية من هذا الحين ، وهذا معنى كون الاجازة بوجودها المتأخر شرطاً للملكية السابقة . وبكلمة اُخرى : أنّ اعتبار الشارع وإمضاءه وإن كان من الآن ، أي من حين الاجازة ، إلاّ أنّ الممضى هو العقد السابق والمعتبر هو الملكية المتقدمة أعني الملكية من حين العقد ، والمفروض أنّ الاجازة شرط لها . ونظير ذلك ما إذا افترضنا قيام دليل على أنّ القبول المتأخر بزمن مؤثر في صحة العقد من حين الايجاب ، فانّه عندئذ لا مناص من الالتزام بحصول الملكية من هذا الحين ، وإن كان ظرف اعتبارها بمقتضى أدلة الامضاء من حين القبول ، إلاّ أنّ ذلك مجرد افتراض فلا واقع موضوعي له ، على أ نّه خلاف المرتكز في أذهان العرف والعقلاء ، وذلك بخلاف الاجازة اللاّحقة ، فان كونها شرطاً متأخراً كان على طبق القاعدة وموافقاً للارتكاز فلا نحتاج إلى دليل . ومن هنا قد التزمنا في مسألة الفضولي بالكشف الحقيقي بهذا المعنى ، وقلنا هناك إنّ هذا لا يحتاج إلى دليل خاص (1) ، كما أ نّا ذكرنا هناك أ نّه لا تنافي بين اعتبار الشارع ملكية مال لشخص في زمان وبين اعتباره ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه إذا كان زمان الاعتبار متعدداً ، فالعبرة في أمثال ذلك إنّما هي بتعدد زماني الاعتبار وإن كان زمان المعتبرين واحداً ، لعدم التنافي بينهما ذاتاً ، وذلك لما حققناه في موطنه (2) من أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها : التكليفية
ـــــــــــــــــــــ (1) مصباح الفقاهة 4 : 141 . (2) مصباح الاُصول 2 : 125 .
ــ[140]ــ
والوضعية، اُمور اعتبارية فلا تنافي ولا تضاد بينها في أنفسها أصلاً ، وإنّما التنافي والتضاد بينها من ناحية اُخرى على تفصيل ذكرناه في محلّه . وأمّا الثانية : وهي شرطية القدرة بوجودها المتأخر في الواجبات التدريجية، فلأنّ فعلية وجوب كل جزء سابق منها مشروطة ببقاء شرائط التكليف من الحياة والقدرة وما شاكلهما إلى زمان الاتيان بالجزء اللاّحق ، مثلاً فعلية وجوب التكبيرة في الصلاة مشروطة ببقاء المكلف على شرائط التكليف إلى زمان الاتيان بالتسليمة ، لفرض أنّ وجوبها ارتباطي فلا يعقل وجوب جزء بدون وجوب جزء آخر ، فلو جنّ في الأثناء أو عجز عن إتمامها كشف ذلك عن عدم وجوبها من الأوّل . وعلى الجملة : ففعلية وجوب الأجزاء السابقة كما تتوقف على وجود تلك الشرائط في ظرفها ، كذلك تتوقف على بقائها إلى زمان الأجزاء اللاّحقة ، فالالتزام بالشرط المتأخر في أمثال الموارد ممّا لا مناص عنه ولا يحتاج إلى دليل خاص ، فيكفي فيه نفس ما دلّ على اشتراط هذه الواجبات بتلك الشرائط . لحدّ الآن قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين : الاُولى : أ نّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر في مرحلة الثبوت ولا محذور فيه أبداً . الثانية : أنّ الالتزام بوقوعه في مرحلة الاثبات يحتاج إلى دليل خاص ، وإلاّ فمقتضى القاعدة عدمه . نعم ، وقوعه في الموردين السابقين كان على طبق القاعدة .
|