وأمّا فيما إذا احتمل ذلك فهل يجب التعلم ؟ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو وجوبه بعين الملاك المتقدم . ولكن قد يقال بعدم وجوبه ، بدعوى التمسك باستصحاب عدم الابتلاء بالاضافة إلى الزمن المستقبل ، حيث إنّ عدم الابتلاء فعلاً متيقن ويشك فيه فيما بعد فيستصحب عدمه على عكس الاستصحاب المتعارف . واُورد على هذا بايرادين : الأوّل : أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن شمول هذا النحو من الاستصحاب
ـــــــــــــــــــــ (1) البحار 2 : 29 ، 180 (نقل بالمضمون) .
ــ[201]ــ
المسمّى بالاستصحاب الاستقبالي ، فيختص بما إذا كان المتيقن سابقاً والمشكوك لاحقاً . الثاني : أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان المستصحب بنفسه أثراً شرعياً أو ذا أثر شرعي ، وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك لم يجر الاستصحاب ، والمقام كذلك ، فانّ الأثر ـ وهو استقلال العقل بوجوب التعلم ـ إنّما هو مترتب على مجرّد احتمال الابتلاء من جهة دفع الضرر المحتمل ، لا على واقعه حتّى يدفعه باستصحاب عدمه . وإن شئت قلت : إنّ الأثر في كل مورد إذا كان مترتباً على نفس الشك والاحتمال دون الواقع ، فمتى شكّ فيه فالموضوع محرز بالوجدان ، ومعه لا معنى لورود التعبد بالواقع أصلاً ، لأ نّه لغو صرف ، وما نحن فيه كذلك ، فانّ الأثر فيه كما عرفت مترتب على نفس احتمال الابتلاء ، والمفروض أ نّه محرز بالوجدان ، فلا بدّ من ترتيب أثره عليه ، وأمّا الابتلاء الواقعي فبما أ نّه لا أثر له فلا يجري استصحاب عدمه . ولنأخذ بالنقد عليهما : أمّا على الأوّل : فلأ نّه لا قصور في دليل الاستصحاب عن شمول هذا القسم ، وذلك لأنّ مفاد أدلة الاستصحاب هو عدم جواز رفع اليد عن اليقين بالشك، ولا فرق في ذلك بين كون المتيقن بهذا اليقين سابقاً والمشكوك فيه لاحقاً كما هو الغالب أو بالعكس (1) كما فيما نحن فيه . فالنتيجة : أنّ مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب عدم الفرق في جريانه بين الاُمور المتقدمة والمتأخرة ، فكما يجري في الاُولى كذلك في الثانية ، فما عن صاحب الجواهر (قدس سره) (2) من الفرق
ـــــــــــــــــــــ (1) [ لايخفى أنّ العكس هو الاستصحاب القهقرائي لا الاستقبالي الذي هو مورد الكلام ]. (2) [ لم نعثر عليه في الجواهر ] .
ــ[202]ــ
بينهما في غير محلّه . وأمّا على الثاني : فلأ نّا قد ذكرنا في أوّل بحث البراءة ، وكذا في مبحث الاستصحاب ضمن التعرض لقاعدة الفراغ أنّ الحكم العقلي وإن كان غير قابل للتخصيص إلاّ أ نّه قابل للتخصّص والخروج الموضوعي ، فان لزوم دفع الضرر المحتمل وقبح العقاب بلا بيان من القواعد التي قد استقلّ بها العقل ، ومع ذلك يتسبب المولى إلى رفعهما برفع موضوعهما بجعل الترخيص في مورد الاُولى ، والبيان في مورد الثانية ، وليس هذا من التخصيص في شيء ، بل رفعهما برفع موضوعهما وجداناً ، فان موضوع الاُولى احتمال العقاب على فعل شيء أو ترك آخر ، ومن الطبيعي أنّ هذا الاحتمال يرتفع وجداناً بجعل الشارع الترخيص في موردها . وموضوع الثانية عدم البيان ، ومن المعلوم أ نّه يرتفع كذلك بجعل الشارع البيان في موردها ، مثلاً العقل يسـتقل بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ في موارد الشك في حصول الامتثال بعد العلم بالتكليف ، ومع ذلك قد جعل الشارع قاعدة الفراغ في تلك الموارد ، وهي رافعة وجداناً لموضوع ذلك الحكم العقلي ، حيث إنّ موضوعه هو احتمال العقاب من ناحية احتمال أنّ العمل المأتي به خارجاً لم يكن مطابقاً للمأمور به ، ومن المعلوم أ نّه لا احتمال له معها ، وإن فرضنا أنّ العمل مخالف للواقع . وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان احتمال الابتلاء الذي هو موضوع للأثر ، وإن كان محرزاً بالوجدان ، إلاّ أنّ استصحاب عدم الابتلاء واقعاً إذا جرى كان رافعاً للابتلاء الواقعي تعبّداً ، وبه يرتفع الموضوع ـ وهو احتمال الابتلاء ـ فيكون المكلف ببركة الاستصحاب عالماً بعدمه ، وهذا ليس من التخصيص في الحكم العقلي بشيء بل ارتفاعه بارتفاع موضوعه .
ــ[203]ــ
وإن شئت قلت : إنّ موضوع حكم العقل هنا هو احتمال العقاب على مخالفة الواقع ، ومن الطبيعي أ نّه لا احتمال للعقاب بعد فرض التعبد الاستصحابي . فالنتيجة: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) من عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام خاطئ جداً . الصحيح في المقام أن يقال : إنّ المانع عن جريان الاسـتصحاب هنا أحد أمرين : الأوّل : العلم الاجمالي بالابتلاء بقسم من الأحكام الشرعية في ظرفها ، ومن الواضح أنّ مثل هذا العلم الاجمالي مانع عن جريان الاُصول النافية في أطرافه ، حيث إنّ جريانها في الجميع مستلزم للمخالفة القطعية العملية ، وجريانها في البعض دون الآخر مستلزم للترجيح من دون مرجّح ، فلا محالة تسقط فيستقلّ العقل بوجوب التعلم والفحص . الثاني : أنّ ما دلّ على وجوب التعلم والمعرفة من الآيات والروايات كقوله تعالى (فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (2) وقوله (عليه السلام) «هلاّ تعلّمت» (3) وما شاكل ذلك ، وارد في مورد هذا الاستصحاب ، حيث إنّ في غالب الموارد لايقطع الانسان بل ولا يطمئن بالابتلاء ، فلو جرى الاستصحاب في هذه الموارد لم يبق تحت هذه العمومات والمطلقات إلاّ موارد نادرة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، فانّه تقييد المطلق بالفرد النادر ، ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث الاستصحاب في وجه تقديم قاعدة الفراغ عليه(4) .
ـــــــــــــــــــــ (1) أجود التقريرات 1 : 231 . (2) النحل 16 : 43 . (3) البحار 2 : 29 ، 180 . وفيه : «أفلا تعلّمت» . (4) مصباح الاُصول 3 : 318 .
ــ[204]ــ
ثمّ إنّ الظاهر اختصاص وجوب التعلم بالموارد التي يقع ابتلاء المكلف بها عادة ، وأمّا الموارد التي يقل الابتـلاء بها كبعض مسائل الشكوك والخلل وما شاكله ممّا يكون الابتلاء به نادراً جداً فلا يجب التعلم فيها لا بحكم العقل ولا بحكم الشرع . إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنّ تعلم الأحكام الشرعية واجب مطلقاً ، أي من دون فرق بين ما إذا علم المكلف الابتلاء بها أو اطمأنّ ، وبين ما إذا احتمل ذلك عادة . نعم ، فيما لا يحتمل الابتلاء كذلك لا يجب . ينبغي التنبيه على عدّة نقاط :
|