الاُولى : أنّ ما ذكرناه من وجوب التعلم قبل الوقت فيما إذا كان تركه موجباً إما لتفويت الملاك الملزم في ظرفه أو لفقد إحراز امتثال التكليف ولو إجمالاً ، مختص بالبالغين ، وأمّا الصبيان فلا يجب عليهم التعلم وإن علموا بفوات الواجب في وقته أو إحرازه ، والسبب في ذلك هو أنّ البالغ إذا ترك التعلم وفات الواجب منه في زمنه لم يستحقّ العقاب على فوت الواجب ، لفرض عدم قدرته عليه ، وإنّما استحقّ العقاب على تفويت الملاك الملزم فيه من ناحية تفويت مقدمته اختياراً ، وقد تقدّم أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ومن الطبيعي أنّ هذا المعنى لا يتأتى في حقّ الصبي ، وذلك لأنّ الشارع قد رفع القلم عنه ، ومقتضاه هو أنّ تركه التعلم قبل البلوغ كلا ترك ، فلا يترتب عليه أيّ أثر ، وبعد البلوغ لا يقدر على الواجب ، فإذن لا يفوت منه شيء لا الواجب الفعلي ولا الملاك الملزم حتّى يستحقّ العقاب . وعلى الجملة : فالصبي لا يكون مشمولاً لقاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وذلك لأنّ اختيار الصبي كلا اختيار بمقتضى رفع القلم عنه ، وعليه فلا يكون للواجب في ظرفه ملاك ملزم بالاضافة إليه . نعم ، يؤدب
ــ[205]ــ
الصبي على ارتكاب بعض المعاصي ويمرّن على الصلاة والصيام لسبع أو تسع وهو أمر آخر ، فلا صلة له بما نحن فيه . ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من لزوم التعلم على الصبي بدعوى أنّ التمسك بحديث رفع القلم لرفع وجوب التعلم غير ممكن ، وذلك لأنّ وجوبه عقلي ، وحديث الرفع لا يرفع الوجوب العقلي . خاطئ جداً ، والوجه في ذلك : هو أنّ حكم العقل في المقام وإن كان يعمّ الصبي وغيره ، إلاّ أ نّه معلّق على عدم ورود التعبد من الشارع على خلافه، ومعه لا محالة يرتفع بارتفاع موضوعه، والمفروض أنّ التعبد الشرعي قد ورد على خلافه في خصوص الصبي ـ وهو حديث رفع القلم ـ فان مفاده أنّ فعل الصبي كلا فعل ، فلا يترتب عليه أيّ أثر من استحقاق عقاب أو نحوه ، وعلى هذا فلا يعقل استحقاق الصبي العقاب على تفويت الملاك بعد البلوغ استناداً إلى تركه التعلم قبله . وإن شئت قلت : إنّ مقتضى حديث رفع القلم أو ما شاكله هو أنّ ملاك الواجب في ظرفه غير تام في حقه من ناحية التعلم والمعرفة لكي يكون تركه موجباً لتفويته واستحقاق العقاب عليه ، كما هو الحال أيضاً بالاضافة إلى سائر مقدمات الواجب . الثانية : أنّ وجوب التعلم لا يخلو من أن يكون نفسياً أو غيرياً أو إرشادياً أو طريقياً ، فلا خامس في البين ، أمّا النفسي فهو وإن كان محتملاً وقد اختاره المحقق الأردبيلي (قدس سره) (2) إلاّ أ نّه خلاف ظواهر الآيات والروايات الدالة
ـــــــــــــــــــــ (1) أجود التقريرات 1 : 222 . (2) مجمع الفائدة والبرهان 2 : 110 .
ــ[206]ــ
على ذلك كما عرفت . وأمّا الوجوب الغيري فهو مبتن على أن يكون التعلم مقدمة لوجود الواجب خارجاً وترك الحرام كذلك كبقية المقدمات الوجودية ، ولكنّه ليس كذلك ، ضرورة أنّ الاتيان بذات الواجب وترك نفس الحرام لا يتوقفان عليه . نعم ، يتوقف الاتيان بالواجب إذا كان مركباً على تعلم أجزائه وشرائطه ، وذلك كالصلاة وما شاكلها ، إلاّ أنّ وجوبه لا يدور مدار القول بوجوب المقدمة ، بل هو ثابت بالآيات والروايات . وأمّا الوجوب الارشادي بأن يكون ما دلّ عليه من الكتاب والسنّة إرشاداً إلى ما استقلّ به العقل من وجوب تعلم الأحكام ، نظير ما ذكرناه في الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، من أنّ مفادها إرشاد إلى ما استقلّ به العقل ، وهو عدم جواز العمل بالظن ، فيرد عليه : أ نّه لو كان وجوبه ارشادياً لم يكن مانع من جريان البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية قبل الفحص ، وذلك لأنّ المقتضي له ـ وهو إطلاق أدلتها ـ موجود على الفرض ، وعمدة المانع عنه إنّما هي وجود تلك الأدلة ، والمفروض أ نّها على هذا التفسير حالها حال حكم العقل فغير صالحة للمانعية ، فان موضوعها يرتفع عند جريانها كحكم العقل ، ومثلها كيف يصلح أن يكون مانعاً . وعلى الجملة : فعلى ضوء هذا التفسير كما أنّ البراءة الشرعية تجري في الشبهات الموضوعية قبل الفحص كذلك تجري في الشبهات الحكمية قبله فلا فرق بينهما عندئذ أصلاً ، فان عمدة الدليل على تقييد إطلاق أدلتها في الشبهات الحكمية بما بعد الفحص إنّما هو تلك الأدلة ، وإذا افترضنا أنّ مدلولها حكم إرشادي فهي لا تصلح لذلك . نعم ، لا تجرى البراءة العقلية ، لعدم إحراز موضوعها قبل الفحص . فالنتيجة : أ نّه يتعين الاحتمال الأخير ـ وهو كون وجوب التعلم وجوباً
ــ[207]ــ
طريقياً ـ ويترتب عليه تنجيز الواقع عند الاصابة ، لأ نّه أثر الوجوب الطريقي كما هو شأن وجوب الاحتياط ووجوب العمل بالأمارات وما شـاكل ذلك ، وعليه فتكون هذه الأدلة مانعة عن جريان البراءة فيها قبل الفحص وتوجب تقييد إطلاق أدلتها بما بعده .
|