الثالثة : أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) نقل عن بعض الرسائل العملية لشيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) (2) أ نّه حكم فيه بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو فيما يبتلي به عامة المكلفين ، وقد تعجب (قدس سره) من ذلك ونسب الاشتباه إلى من جمع فتاواه في الرسالة ، وعلّله بأحد اُمور : الأوّل : أنّ هذا مبني على كون وجوب التعلم وجوباً نفسياً كما اختاره المحقق الأردبيلي (قدس سره) (3) وعليه فلا محالة يكون تاركه فاسقاً . وفيه : أ نّه خلاف مبناه (قدس سره) حيث إنّه لم يلتزم بالوجوب النفسي . الثاني : أ نّه مبني على حرمة التجري ، وعليه فبطبيعة الحال يكون فاعله فاسقاً ويستحقّ العقاب ، وفيه : أ نّه أيضاً خلاف ما بنى (قدس سره) عليه من عدم حرمة التجري وأنّ قبحه فاعلي لا فعلي ، ومعه لا موجب لكون فاعله فاسقاً ومستحقاً للعقاب . الثالث : أن يكون مستند ذلك الفرق بين مسائل الشك والسهو وبين غيرها من المسائل ، بدعوى أنّ العادة قد جرت على ابتلاء المكلفين بها لا محالة دون غيرها ، فلأجل ذلك يجب تعلمها ومعرفتها على كل أحد ، ومن الطبيعي أنّ
ـــــــــــــــــــــ (1) أجود التقريرات 1 : 231 . (2) صراط النجاة : 175 مسألة 682 . (3) مجمع الفائدة والبرهان 2 : 110 .
ــ[208]ــ
مخالفة الواجب توجب الفسق . وفيه : أ نّه أبعد هذه الفروض ، لما عرفت من أنّ وجوب التعلم وجوب طريقي فلا توجب مخالفته العقاب ما لم تؤد إلى مخالفة الواقع . والصحيح أن يقال : إنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ تارك التعلم محكوم بالفسق يقوم على أساس أنّ التجري كاشف عن عدم وجود العدالة فيه ، حيث إنّها على مسلكه (قدس سره) عبارة عن وجود ملكة نفسانية تبعث صاحبها على ملازمة التقوى ، يعني الاتيان بالواجبات وترك المحرمات ، ومن الطبيعي أ نّها لا تجتمع مع التجري ـ وهو الاتيان بما يعتقد كونه مبغوضاً وترك ما يعتقد كونه واجباً ـ وهذا لا ينافي عدم استحقاقه العقاب ، فان ملاك الاستحقاق عنده ارتكاب المبغوض الواقعي أو ترك الواجب كذلك وهو غير موجود في التجري. فالنتيجة : أنّ المتجري فاسق وإن لم يستحقّ العقاب فلا ملازمة بين الأمرين . فما جاء به شيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) في غاية المتانة والصحة . الرابعة : أنّ المقدمة التي يبحث عن وجوبها في المسألة لا يفرق فيها بين أن تكون مقدمة لواجب مشروط أو مطلق ، والسبب في ذلك : هو أ نّه بناءً على الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته لا يفرق الحال بين المطلق والمشروط ، غاية الأمر إذا كان الواجب مشروطاً فوجوب مقدمته كذلك ، فانّه في الاطلاق والاشتراط تابع لوجوب ذيها ، بداهة أنّ التفكيك بينهما في الاطلاق والاشتراط ينافي ما افترضناه من الملازمة بين وجوبيهما . ومن هنا يظهر أ نّه لا وجه لما أفاده صاحب المعالم (قدس سره) (1) من تخصيص محلّ النزاع بمقدمات الواجب المطلق ، وكذا غيره ، ولعلّ مرادهم من
ـــــــــــــــــــــ (1) معالم الدين : 60 .
ــ[209]ــ
الواجب المطلق هو الواجب بالوجوب الفعلي . وممّا يدلنا على ذلك : أ نّه لم يكن في الشريعة المقدسة واجب مطلق من جميع الجهات ، بل الواجبات بشتى أنواعها وأشكالها واجبات مشروطة ولا أقل بالشرائط العامّة ، غاية الأمر بعضها مشروط بالاضافة إلى شيء ومطلق بالاضافة إلى آخر ، وبعضها الآخر بالعكس ، مثلاً وجوب الحج مشروط بالاضافة إلى الاستطاعة ومطلق بالاضافة إلى الزوال ، ووجوب الصلاة مثلاً مطلق بالاضافة إلى الاستطاعة ، ومشروط بالاضافة إلى الزوال ، ووجوب الزكاة مشروط بالاضافة إلى بلوغ المال حدّ النصاب ، ومطلق بالاضافة إلى غيره من الجهات وهكذا . فالنتيجة : أنّ عدم وجود واجب مطلق في الشريعة المقدسة دليل على أنّ مرادهم من الواجب المطلق الواجب الفعلي .
|