وجهٌ آخر لوجوب المقدمة الموصلة - كلام المحقق النائيني في المقام 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4213


قد يستدل على إيجاب خصوص المقدمة الموصلة بوجه آخر وحاصله : هو أ نّه يجوز للمولى أن ينهى عن المقدمات التي لا توصل إلى الواجب ، ولا يستنكر ذلك العقل ، مع أ نّه يستحيل أن ينهى عن مطلق المقدمة أو عن خصوص الموصلة منها ، ومن الطبيعي أنّ هذه التفرقة آية عدم وجوب مطلق المقدمة ، ووجوب خصوص الموصلة ، مثلاً لو أمر المولى عبده بشراء اللحم من السوق فليس له المنع عن مطلق مقدمته أو عن خصوص الموصلة منها ، ولكن له أن يمنع عن المقدمة التي لا توصل إليه ، وهذا الاستدلال منسوب (1) إلى السيِّد الطباطبائي صاحب العروة (قدس سره) .
وأجاب صاحب الكفاية (قدس سره) (2) عن ذلك بوجهين :
الأوّل : أنّ هذا الدليل خارج عن مورد الكلام في المسألة ، فان محل الكلام إنّما هو في المقدمات المباحة في أنفسها، وأمّا إذا كان بعضها محرّماً ، فعدم اتصاف المحرّم بالوجوب الغيري إنّما هو لوجود مانع ، لا لأجل عدم المقتضي له ، وعلى هذا فنهي المولى عن المقدمات غير الموصلة لايدل على أ نّه لا مقتضي لاتصافها بالوجوب الغيري ، إذ من المحتمل أن يكون عدم اتصافها في هذه الحالة لأجل

ـــــــــــــــــــــ
(1) نسبه في أجود التقريرات 1 : 346 إلى صاحب الفصول .
(2) كفاية الاُصول : 120 .

 
 

ــ[261]ــ

وجود المانع وهو نهي المولى ، لا لعدم ثبوت المقتضي له .
وهذا الجواب متين جداً ، حيث إنّ المقدمة إذا كانت محرّمة فعدم اتصافها بالوجوب الغيري لا يكشف عن عدم ثبوت المقتضي له .
الثاني : أ نّه لا يصح منع المولى عن المقدمة غير الموصلة ، بل إنّه غير معقول، والسبب في ذلك هو أ نّه مستلزم إما لطلب الحاصل أو جواز تفويت الواجب مع الاختيار ، وكلاهما محال ، بيان ذلك :
أمّا الأوّل : فلأنّ وجوب ذي المقدمة مشروط بالقدرة عليه ، وهي تتوقف على جواز مقدمته شرعاً ، وهو يتوقف على الاتيان بالواجب ، لفرض أنّ المقدمة غير الموصلة محرمة ، ونتيجة ذلك هي أنّ وجوب ذي المقدمة يتوقف على الاتيان به .
وأمّا الثاني : فلما عرفت من أنّ جواز المقدمة مشروط بالاتيان بذيها وإلاّ لكانت المقدمة محرّمة ، ومع حرمتها لا يكون الواجب مقدوراً ، ولازم ذلك جواز ترك الواجب اختياراً وبلا عصيان ومخالفة ، لفرض أنّ تحصيل القدرة غير لازم . وعلى الجملة : أنّ وجوب الواجب النفسي مشروط بالقدرة عليه ، وهي تتوقف على التمكّن من المقدمة عقلاً وشرعاً، وبما أنّ التمكن منها شرعاً في المقام منوط باتيان الواجب النفسي ، فمع عدمه لا يكون متمكناً منها ، ومع عدم التمكن لا بأس بترك الواجب اختياراً وعمداً .
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) مبني على الخلط بين كون الايصال قيداً لجواز المقدمة ووجوب ذيها وبين كونه قيداً للواجب ، فلو كان الايصال من قبيل الأوّل لتمّ ما أفاده (قدس سره) إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّه قيد للواجب ، وعلى هذا فلا يكون جواز المقدمة مشروطاً بالايصال الخارجي

ــ[262]ــ

ووجود الواجب النفسي ، بل الجواز تعلّق بالمقدمة الموصلة ، والمفروض تمكن المكلف منها ، ومع هذا بطبيعة الحال لا يجوز له ترك الواجب فلو ترك استحقّ العقاب عليه ، لفرض قدرته عليه فعلاً من ناحية قدرته على مقدمته الموصلة كذلك . فالنتيجة : أنّ ما أفاده (قدس سره) خاطئ جداً .
ولشيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) في المقام كلام هو : أ نّه (قدس سره) حيث رأى أنّ الوجدان لا يساعد على وجوب المقدمة مطلقاً ـ سواء أكانت موصلة أم لم تكن ـ من ناحية ، ورأى أ نّه لا يمكن الالتزام بوجوب خصوص الموصلة للمحاذير المتقدمة من ناحية اُخرى ، فقد اختار نظرية ثانية تبعاً لنظرية المحقق صاحب الحاشية (قدس سره) (2) وإن كان مخالفاً له في بعض النقاط ، وملخص ما أفاده (قدس سره) في المقام هو : أنّ الواجب وإن كان هو خصوص المقدمة في حال الايصال ، لمساعدة الوجدان على ذلك بناءً على ثبوت الملازمة ، إلاّ أ نّه مع ذلك لم يؤخذ الايصال قيداً لاتصاف المقدمة بالوجوب ، لا بنحو يكون قيداً للواجب ولا للوجوب . أمّا الأوّل : فلما عرفت من استلزامه الدور أو التسلسل . وأمّا الثاني : فلاستلزامه التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط ، لأنّ معنى ذلك هو أنّ وجوب المقدمة مقيد بالايصال دون وجوب ذيها ، وهو مستحيل على ضوء القول بالملازمة بينهما ، هذا من ناحية .
ومن ناحية اُخرى : أنّ امتناع تقييد الواجب أو وجوبه بالايصال إلى الواجب النفسي ، لا يستلزم أن يكون الواجب والوجوب مطلقين من هذه

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 348 .
(2) هداية المسترشدين : 219 .

ــ[263]ــ

الجهة كما ذهب إليه العلاّمة الأنصاري (قدس سره) ، وذلك لما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ثبوتاً وإثباتاً ، فاستحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق وبالعكس ، وقد طبّق (قدس سره) هذه الكبرى في عدّة موارد :
منها : أنّ تقييد الأحكام الشرعية بخصوص العالمين بها مستحيل فاطلاقها كذلك، وبما أنّ الاهمال في الواقع غير معقول ، فيثبت الاطلاق بمتمم الجعل ، ويعبّر عن ذلك بنتيجة الاطلاق . ومنها : أنّ تقييد متعلق الأمر الأوّل بقصد القربة مستحيل فاطلاقه كذلك ، وبما أنّ إهمال الواقع الأوّل من الحاكم الملتفت غير معقول فيثبت التقييد بمتمم الجعل ، ويسمى ذلك بنتيجة التقييد . ومنها : ما نحن فيه ، حيث إنّ تقييد الواجب الغيري أو وجوبه بقيد الايصال مستحيل ، فاطلاقه كذلك ، وعليه فلا بدّ من الالتزام بشق ثالث وهو الالتزام بوجوب المقدمة في حال الايصال .
ومن ناحية ثالثة : أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد خالف المحقق صاحب الحاشية (قدس سره) في نقطة وهي : أنّ المقدمة إذا كانت محرّمة كسلوك الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق مثلاً ، فقد ادّعى صاحب الحاشية (قدس سره) أنّ المقدمة المزبورة إنّما تتصف بالوجوب من ناحية إيصالها إلى الغريق، وتتصف بالحرمة على تقدير عدم الايصال إليه وعصيان الأمر الوارد عليها ، وهو وجوب السلوك من حيث الانقاذ ، فالنتيجة هي تعلّق خطابين بموضوع واحد على نحو الترتب .
ولكن أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بأنّ اتصاف المقدمة المذكورة بالحرمة من ناحية عصيان الأمر بالواجب النفسي لا الأمر المتوجه إليها ، فانّ

ــ[264]ــ

المزاحمة إنّما هي بين حرمتها ووجوب ذيها فلا يعقل الترتب بين خطابين متعلقين بموضوع واحد ، ومن هنا اعتبر (قدس سره) الترتب بين خطابين متعلقين كل منهما بموضوع ، وتمام الكلام في محلّه .
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) من عدّة جهات :
الاُولى : ما تقدّم من أنّ الالتزام بوجوب خصوص المقدمة لا يستلزم كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري ليلزم محذور الدور أو التسلسل .
الثانية : أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، فقد ذكرنا بصورة موسعة في بحث التعبدي والتوصلي أنّ هذه الكبرى خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، وذكرنا هناك أنّ استحالة التقييد بقيد في مقام الثبوت تستلزم إمّا ضرورة الاطلاق أو ضرورة التقييد بخلافه . وعلى ضوء هذا الأساس فحيث إنّ فيما نحن فيه تقييد الواجب الغيري بالايصال مستحيل وكذلك تقييده بعدم الايصال ، فالاطلاق عندئذ ضروري ، وعليه فالنتيجة ثبوت ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من وجوب المقدمة مطلقاً .
الثالثة : أنّ الترتب كما ذكرناه في محلّه(1) وإن كان أمراً معقولاً بل ولا مناص من الالتزام به ، إلاّ أ نّه في المقام غير معقول ، والسبب في ذلك هو أنّ حرمة المقدمة إذا كانت مشروطة بعصيان الأمر بذي المقدمة فبطبيعة الحال يكون وجوبها مشروطاً بعدم عصيانه وإطاعته ، لاستحالة كون شيء واحد في زمان واحد واجباً وحراماً معاً .

ـــــــــــــــــــــ
(1) يأتي في ص 385 .

ــ[265]ــ

وإن شئت قلت : إنّه لا يعقل أن يكون وجوبها مطلقاً وثابتاً على كل تقدير مع كونها محرمة على تقدير عصيان الأمر بذي المقدمة ، كيف فانّه من اجتماع الوجوب والحرمة الفعليين في شيء في زمن واحد ، فإذا كان وجوب المقدمة مشروطاً بعدم عصيان وجوب الواجب النفسي فعندئذ لا بدّ من النظر إلى أنّ وجوب الواجب النفسي أيضاً مشروط بعدم عصـيانه وإطاعته أم لا ، فعلى الأوّل يلزم طلب الحاصل، لأنّ مردّ ذلك إلى أنّ وجوب الواجب النفسي مشروط باتيانه وإطاعته وهو مستحيل ، وعلى الثاني يلزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها من حيث الاطلاق والاشتراط وهو غير ممكن على القول بالملازمة بينهما كما هو المفروض .
فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ ما أفاده لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، فالصحيح على القول بوجوب المقدمة هو ما ذهب إليه صاحب الفصول (قدس سره) ولا يرد عليه شيء ممّا اُورد كما عرفت .


 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net