كلام المحقق النائيني في المقام - كلام صاحب الكفاية في المقام 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4252


أمّا المقدمة الاُولى : فقد أنكرها جماعة من المحققين منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) وقال باستحالة المقدمية ، وأفاد في وجهها أمرين :
الأوّل : أنّ المعلول وإن كان مترتباً على تمام أجزاء علته التامة ، إلاّ أنّ تأثير كل واحد منها فيه يغاير تأثير الآخر فيه ، فان تأثير المقتضي فيه بمعنى ترشحه منه ، ويكون منه الأثر والوجود ، كالنار بالإضافة إلى الاحراق ، فانّ الإحراق يترشح من النار، وأنّها فاعل ما منه الوجود والأثر، لا المحاذاة مثلاً أو بقية الشرائط . وأمّا تأثير الشرط فيه بمعنى أ نّه مصحح لفاعلية المقتضي وتأثيره أثره ، فانّ النار لا تؤثر في الاحراق بدون المماسة والمحاذاة وما شاكلهما ، فتلك الشرائط مصححة لفاعلية النار وتأثيرها فيه ، لا أنّ الشرط بنفسه مؤثر فيه . ومن هنا إذا انتفى الشرط لم يؤثر المقتضي .
أو فقل : إنّ الشرط في طرف القابل متمم قابليته ، وفي طرف الفاعل مصحح فاعليته ، فلا شأن له ما عدا ذلك . وأمّا عدم المانع فدخله باعتبار أنّ وجوده يزاحم المقتضي في تأثيره ، كالرطوبة الموجودة في الحطب ، فان دخل عدمها في

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2 : 11 .

ــ[292]ــ

الاحتراق باعتبار أنّ وجودها مانع عن تأثير النار في الاحراق ، وهذا معنى دخل عدم المانع في وجود المعلول ، وإلاّ فلا يعقل أن يكون العدم بما هو من أجزاء العلة التامة ، بداهة استحالة أن يكون العدم دخيلاً في الوجود ومؤثراً فيه .
ومن ذلك البيان يظهر طولية أجزاء العلة التامة ، فانّ مانعية المانع متأخرة رتبة عن وجود المقتضي ، وعن وجود جميع الشرائط ، كما أنّ شرطية الشرط متأخرة رتبة عن وجود المقتضي ، فان دخل الشرط في المعلول إنّما هو في مرتبة وجود مقتضيه ، ليكون مصححاً لفاعليته ، لما عرفت آنفاً من أنّ الشرط في نفسه لا يكون مؤثراً فيه . ودخل عدم المانع إنّما يكون في ظرف تحقق المقتضي مع بقية الشرائط ، ليكون وجوده مزاحماً له في تأثيره ويمنعه عن ذلك .
وعلى ضوء ذلك قد اتضح استحالة اتصاف المانع بالمانعـية إلاّ في ظرف وجود المقتضي مع سائر الشرائط ، كما أ نّه يستحيل اتصاف الشرط بالشرطية إلاّ فيما إذا كان المقتضي موجوداً ، مثلاً الرطوبة في الجسم القابل للاحتراق لا تتصف بالمانعية إلاّ في ظرف وجود النار ومماستها مع ذلك الجسم ، ليكون عدم الاحتراق مستنداً إلى وجود المانع ، وأمّا إذا لم تكن النار موجودة ، أو كانت ولم تكن مماسة مع ذلك الجسم فلا يمكن أن يستند عدم الاحتراق إلى وجود المانع .
ولنأخذ مثالاً لتوضيح ذلك : إذا فرضنا أنّ النار موجودة والجسم القابل للاحتراق مماس لها ، ومع ذلك لم يحترق ، إذن نفتش عن سبب ذلك وما هو ، وبعد الفحص يتبيّن لنا أنّ سببه الرطوبة الموجودة في ذلك الجسم وهي التي توجب عدم قابليته للاحتراق وتأثير النار فيه ، فيكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع . وكذا إذا فرض أنّ اليد الضاربة قويّة والسيف حاد ، ومع ذلك لا أثر للقطع في الخارج ، فلا محالة عدم قبول الجسم للانقطاع والتأثر بالسيف من

ــ[293]ــ

جهة المانع وهو صلابة ذلك الجسم ، لوجود المقتضي المقارن مع شرطه .
وأمّا إذا فرض أنّ النار موجـودة ، ولكن الجسم القابل للاحتراق لم يكن مماساً لها ، أو أنّ اليد الضاربة كانت قوية ولكن السيف لم يكن حاداً ، فعدم المعلول عندئذ لا محالة يستند إلى عدم الشرط ، لا إلى وجود المانع ، فالمانع في هذه اللحظة يستحيل أن يتصف بالمانعية فعلاً ، فان أثره المنع عن فعلية تأثير المقتضي ، ولا أثر له في ظرف عدم تحقق الشرط .
وكذلك إذا لم تكن النار موجودة ، أو كانت اليد الضاربة ضعيفة جداً أو مشلولة ، فعدم المعلول عندئذ لا محالة يستند إلى عدم مقتضيه ، لا إلى عدم المماسـة أو الرطوبة ، أو إلى عدم حدّة السـيف ، أو صلابة الجسم كل ذلك لم يكن .
وهذا من الواضحات خصوصاً عند المراجعة إلى الوجدان ، فانّ الانسان إذا لم يشته أكل طعام فعدم تحققه يستند إلى عدم المقتضي ، وإذا اشتهاه ولكن لم يجد الطعام فعدم الأكل يستند إلى عدم الشرط ، وإذا كانت الشروط متوفرة ولكنّه منع عن الأكل مانع ، فعدمه يستند إلى وجود المانع وهكذا .
وبعد بيان ذلك نقول : إنّه يستحيل أن يكون وجود أحد الضدّين مانعاً عن وجود الضدّ الآخر ، لما سبق من أنّ المانع إنّما يتصف بالمانعية في لحظة تحقق المقتضي مع بقية الشرائط .
ومن الواضح البيّن أنّ عند وجود أحد الضدّين يستحيل ثبوت المقتضي للضدّ الآخر، ليكون عدمه مستنداً إلى وجود ضدّه، لا إلى عدم مقتضيه، والوجه في ذلك : هو أنّ المضادة والمنافرة بين الضدّين والمعلولين تستلزم المضادة والمنافرة بين مقتضييهما ، فكما يستحيل اجتماع الضدّين في الخارج ، فكذلك يستحيل اجتماع مقتضييهما فيه ، لأنّ اقتضاء المحال محال .

ــ[294]ــ

أو فقل : إنّ عدم الضد إنّما يستند إلى وجود الضدّ الآخر في فرض ثبوت المقتضي له ، وهذا غير معقول ، كيف فان لازم ذلك هو أن يمكن وجوده في عرض وجود ذلك الضد ، والمفروض أ نّه محال ، فالمقتضي له أيضاً محال ، بداهة أنّ استحالة اقتضاء المحال من الواضحات الأوّلية ، وإلاّ فما فرض أ نّه محال لم يكن محالاً ، وهذا خلف .
ولنأخذ مثالاً لذلك : إنّ وجود السواد مثلاً في موضوع لو كان مانعاً عن تحقق البياض فيه فلا بدّ أن يكون ذلك في ظرف ثبوت المقتضي له ، ليكون عدمه ـ البياض ـ مستنداً إلى وجود المانع ، وهو وجود السواد ، لا إلى عدم مقتضيه . وثبوت المقتضي له محال وإلاّ لكان وجوده ـ البياض ـ في عرض وجود الضدّ الآخر ـ السواد ـ ممكناً ، وحيث إنّه محال فيستحيل ثبوت المقتضي له ، لأنّ اقتضاء المحال محال .
وعليه فإذا كان المقتضي لأحدهما موجوداً فلا محالة يكون المقتضي للآخر معدوماً ، إذن يكون عدمه دائماً مستنداً إلى عدم مقتضيه ، لا إلى وجود المانع .
هذا بالاضافة إلى إرادة شخص واحد في غاية الوضوح ، بداهة استحالة تحقق إرادة كل من الضدين في آن واحد من شخص واحد ، فلا يمكن تحقق إرادة كل من الصلاة والإزالة في نفس المكلف ، فان أراد الإزالة لم يمكن تحقق إرادة الصلاة ، وإن أراد الصلاة لم يمكن تحقق إرادة الازالة ، فترك كل واحدة منهما عند الاشتغال بالاُخرى مستند إلى عدم المقتضي له ، لا إلى وجود المانع مع ثبوت المقتضي .
وأمّا بالإضافة إلى إرادة شخصين للضدين فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّ إحدى الارادتين لا محالة تكون مغلوبة للارادة الاُخرى ، لاستحالة تأثير كلتيهما معاً ، وعندئذ تسقط الإرادة المغلوبة عن صفة الاقتضاء ، لاستحالة اقتضاء المحال

ــ[295]ــ

وغير المقدور ، لفرض أنّ متعلقها خارج عن القدرة فلا تكون متصفة بهذه الصفة ، فيكون وجودها وعدمها سيّان .
وقد تحصّل من ذلك : أنّ المانع بالمعنى الذي ذكرناه ـ وهو ما يتوقف على عدمه وجود المعلول في الخارج ـ ما كان مزاحماً للمقتضي في تأثيره أثره ، ومانعاً عنه عند وجدانه الشرائط ، وهذا المعنى مفقود في الضدّين كما مرّ .
فالنتيجة إذن : أ نّه لا وجه لدعوى توقف أحد الضدّين على عدم الآخر، إلاّ تخيل أنّ المنافاة والمعاندة بينهما تقتضي التوقف المزبور ، ولكنّه خيال فاسد ، ضرورة أنّ ذلك لو تمّ لكان تحقق كل من النقيضين متوقفاً على عدم الآخر أيضاً ، لوجود الملاك فيه ، وهو المعاندة والمنافاة . مع أنّ بطلان ذلك من الواضحات فلا يحتاج إلى مؤونة بيان وإقامة برهان .
ونلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط :
الاُولى : أنّ مانعية المانع في مرتبة متأخرة عن مرتبة وجود المقتضي ووجود الشرط ، فيكون استناد عدم المعلول إلى وجود المانع في ظرف ثبوت المقتضي مع بقية الشرائط ، وإلاّ فالمانع لا يكون مانعاً كما سبق .
الثانية : أنّ وجـود كل من الضدّين بما أ نّه يستحيل في عرض الآخر ويمتنع تحققه في الخارج ، فثبوت المقتضي له في عرض ثبوت المقتضي للآخر أيضاً محال ، لأنّ اقتضاء المحال محال كما عرفت .
الثالثة : أنّ المعاندة والمنافاة بين الضدّين لو كانت مقتضية للتوقف المذكور لكانت مقتضية له بالإضافة إلى النقيضين أيضاً ، وبطلانه غني عن البيان .
ولنأخذ الآن بدرس هذه النقاط :
أمّا النقطة الاُولى : فهي في غاية الصحة والمتانة على البيان المتقدم .

ــ[296]ــ

وأمّا النقطة الثانية : فللمناقشة فيها مجال واسع ، وذلك لأ نّه لا مانع من ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في نفسه ، مع قطع النظر عن الآخر ، ولا استحالة فيه أصلاً .
والوجه في ذلك هو : أنّ كلاً من المقتضيين إنّما يقتضي أثره في نفسه مع عدم ملاحظة الآخر ، فمقتضي البياض مثلاً إنّما يقتضيه في نفسه سواء أكان هناك مقتض للسواد أم لم يكن ، كما أنّ مقتضي السواد إنّما يقتضيه كذلك ، وإمكان هذا واضح ، ولا نرى فيه استحالة ، فانّ المستحيل إنّما هو ثبوت المقتضي لكل من الضدّين بقيد التقارن والاجتماع لا في نفسه ، أو اقتضاء شيء واحد بذاته لأمرين متنافيين في الوجود ، وهذا مصداق قولنا اقتضاء المحال محال ، لا فيما إذا كان هناك مقتضيان كان كل واحد منهما يقتضي في نفسه شيئاً مخصوصاً وأثراً خاصاً مع قطع النظر عن ملاحظة الآخر .
والبرهان على ذلك : أ نّه لولا ما ذكرناه من إمكان ثبوت المقتضي لكل منهما في نفسه ، لم يمكن استناد عدم المعلول إلى وجود مانعه أصلاً ، لأنّ أثر المانع كالرطوبة مثلاً لا يخلو من أن يكون مضاداً للمعلول ـ وهو الاحراق ـ وأن لا يكون مضاداً له ، فعلى الفرض الأوّل يستحيل ثبوت المقتضي للمعلول والممنوع ، ليكون عدمه مستنداً إلى وجود مانعه ، لفرض وجود ضدّه وهو أثر المانع ، وقد سبق أنّ عند وجود أحد الضدّين يستحيل ثبوت المقتضي للآخر ، فيكون عدمه من جهة عدم المقتضي، لا من جهة وجود المانع مع ثبوت المقتضي له . وعلى الفرض الثاني فلا مقتضي لكونه مانعاً منه ، بداهة أنّ مانعية المانع من جهة مضادة أثره للممنوع، فإذا فرض عدم مضادته له فلا موجب لكونه مانعاً أصلاً .
وقد تبيّن لحدّ الآن أ نّه لا مانع من أن يكون أحد الضدّين مانعاً عن الآخر

ــ[297]ــ

ليستند عدمه إليه ، لا إلى عدم مقتضيه ، لفرض إمكان ثبوته في نفسه ، بحيث لولا وجود الضدّ الآخر لكان يؤثّر أثره ، ولكن وجوده يزاحمه في تأثيره ويمنعه عن ذلك ، مثلاً إذا فرض وجود مقتض لحركة شيء إلى طرف المشرق ووجد مقتض لحركته إلى طرف المغرب ، فكل من المقتضيين إنّما يقتضي الحركة في نفسـه إلى كل من الجانبين ، مع عدم ملاحظة الآخر ، فعندئذ كان تأثير كل واحد منهما في الحركة إلى الجانب الخاص متوقفاً على عدم المانع منه ، فإذا وجدت إحدى الحركتين دون الاُخرى فلا محالة يكون عدم هذه مستنداً إلى وجود الحركة الاُولى ، لا إلى عدم مقتضيها ، فانّ المقتضي لها موجود على الفرض ، ولولا المانع لكان يؤثر أثره ، ولكنّ المانع ـ وجود تلك الحركة ـ يزاحمه في تأثيره .
وعلى الجملة : فلا ريب في إمكان ثبوت المقتضيين في حد ذاتهما ، حتّى إذا كانا في موضوع واحد أو محل واحد ، كارادتين من شخص واحد ، أو سببين في موضوع واحد، فضلاً عمّا إذا كانا في موضوعين أو محلّين، كارادتين من شخصين، أو سببين في موضوعين ، إذ لا مانع من أن يكون في شخص واحد مقتض للقيام من جهة ، ومقتض للجلوس من جهة اُخرى ، وكلا المقتضيين موجود في حد ذاتهما مع الغض عن الآخر ، فعندئذ إذا وجد أحد الفعلين دون الآخر فعدم هذا لا محالة يكون مستنداً إلى وجود ذاك ، لا إلى عدم مقتضيه ، لفرض أنّ المقتضي له موجود ، وهو يؤثر أثره لولا مزاحمة المانع له .
ونتيجة ما ذكرناه هي : أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أن أحد الضدّين إذا كان موجوداً يستحيل ثبوت المقتضي للآخر لا يتم ، ومنشأ ذلك غفلته (قدس سره) عن نقطة واحدة هي تخيل أنّ المقام من موارد الكبرى المتسالم عليها ، وهي أنّ اقتضاء المحال محال ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ،

ــ[298]ــ

فانّ المقام أجنبي عنه ، فان اقتضاء المحال إنّما يتحقق في أحد موردين :
الأوّل : ما إذا كان هناك شيء واحد يقتضي بذاته أمرين متنافيين في الوجود .
الثاني : ما إذا فرض هناك ثبوت المقتضي لكل من الضدّين بقيد الاجتماع والتقارن، ومن الواضح أ نّه لا صلة لكلا الموردين بالمقام ، وهو ما إذا كان هناك مقتضيان كان كل واحد منهما يقتضي شيئاً مخصوصاً ، وأثراً خاصاً في نفسه ، بلا ربط له بالآخر ، وهذا هو مراد القائلين بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، فانّهم بعد ما تسالموا على الكبرى ـ وهي وجوب مقدمة الواجب ـ قد نقحوا الصغرى ـ وهي كون عدم أحد الضدّين مقدمة للضدّ الآخر ـ بالشكل الذي بيّناه ، ثمّ أخذوا النتيجة بضمّ الصغرى إلى الكبرى وهي حرمة الضد .
وأمّا النقطة الثالثة : فيرد عليها أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين لو سلّم اقتضاؤها للتوقف المزبور ، فلا يسلم اقتضاؤها له بين النقيضين ، إذ لا يعقل التوقف بين النقيض وعدم نقيضه ، بداهة أنّ عدم الوجود عين العدم البديل له فكيف يعقل توقف ذلك العدم على عدم الوجود ، لأ نّه من توقف الشيء على نفسه وهو محال ، مثلاً عدم الانسان عين العدم البديل له فلا يكاد يمكن توقف العدم البديل له على عدمه ، بداهة أنّ توقف شيء على شيء يقتضي المغايرة والاثنينية بينهما في الوجود ، فضلاً عن المغايرة في المفهوم . ومن الظاهر أ نّه لا مغايرة بين عدم الانسان مثلاً والعدم البديل له لا خارجاً ولا مفهوماً .
نعم ، المغايرة المفهومية بين عدم العدم والوجود ثابتة، لكنّه لا تغاير بينهما في الخارج، مثلاً الانسان مغاير مفهوماً مع عدم نقيضه وهو العدم البديل له ، ولكنهما متحدان عيناً وخارجاً ، فان عدم عدم الانسان عين الانسان في الخارج ، إذن لا معنى لتوقف تحقق أحد النقيضين على عدم الآخر .
وهذا بخلاف الضدّين ، فانّه لمكان المغايرة بينهما مفهوماً وخارجاً لا يكون

ــ[299]ــ

توقف أحدهما على عدم الآخر من توقف الشيء على نفسه .
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين لو اقتضت توقف أحدهما على عدم الآخر لثبت ذلك في النقيضين أيضاً ، لا يرجع إلى معنى محصّل أصلاً .
الوجه الثاني : أنّ عدم أحد الضدّين لو فرض ثبوت المقتضي له أيضاً يستند إلى وجود مقتضي الآخر ، لا إلى وجود نفسـه ، بيان ذلك : أنّ الصور المتصورة في المقام ثلاثة لا رابع لها .
الاُولى : أن يكون المقتضي لكل من الضدّين موجوداً .
الثانية : أن لا يكون المقتضي لشيء منهما موجوداً ، عكس الاُولى .
الثالثة : أن يكون المقتضي لأحدهما موجوداً دون المقتضي للآخر .
أمّا الصورتان الأخيرتان فالأمر فيهما واضح، فان عدم ما لا مقتضي له مستند إلى عدم مقتضيه ، لا إلى وجود الضدّ الآخر .
وإنّما الكلام في الصورة الاُولى فنقول : إنّ المقتضيين الموجودين في عرض واحد لا يخلوان من أن يكونا متساويين في القوة ، وأن يكون أحدهما أقوى من الآخر .
أمّا على الأوّل : فلا يوجد شيء من الضدّين ، لاستحالة تأثير كل منهما أثره معاً ، وتأثير أحدهما المعيّن فيه دون الآخر ترجيح من دون مرجح ، أو خلف إن فرض له مرجح . ومن ذلك يعلم أنّ المانع من وجود الضد مع فرض ثبوت مقتضيه إنّما هو وجود المقتضي للضدّ الآخر ، لا نفس وجود الضد . وفي هذا الفرض بما أنّ كلاً من المقتضيين يزاحم الآخر في تأثيره ويمنعه عن ذلك ، فان تأثير كل منهما منوط بعدم المانع عنه ، ووجود مقتضي الضدّ الآخر مانع ،

ــ[300]ــ

فلا محالة يكون عدم كل من الضدّين مستنداً إلى وجود المقتضي للآخر لا إلى نفسه .
وأمّا على الثاني : فيؤثر القوي في مقتضاه ، ويكون مانعاً عن تأثير المقتضي الضعيف ، والضعيف لا يمكن أن يكون مانعاً من القوي .
بيان ذلك : أنّ القوي لمكان قوته يزاحم الضعيف ويمنعه من التأثير في مقتضاه ، فنفس وجوده موجب لفقد شرط من شرائطه وهو عدم المزاحم ، فانّه شرط تأثيره ومصحح فاعليته ، فيكون عدم القوي شرطاً لتأثير الضعيف ، ووجوده مانعاً منه .
وعلى هدى ذلك يعلم أنّ عدم تمامية علية الضعيف مستند إلى تمامية علية القوي ووجوده ، وبما أنّ الضعيف لا يمكن أن يزاحم القوي في تأثيره يكون تامّ الاقتضاء والفاعلية ، فهو بصـفته كذلك يزاحم الضعيف ويمنعه عن تأثيره في معلوله ، فعدم مزاحمة الضعيف بالتالي منته إلى ضعف في نفسه بالاضافة إلى المقتضي الآخر ، إذ لو كان قوياً مثله لزاحمه في تأثيره لا محالة ، فعدم قابليته لأن يزاحم الآخر وقابلية الآخر لأن يزاحمه لأجل عدم قوته بالإضافة إليه ، وإن كان قوياً في نفسـه وتامّ الفاعلية والاقتضاء مع قطع النظر عن مزاحمة الآخر له ، ولذا لو لم يكن القوي في البين لأثّر الضعيف في مقتضاه ، ففي هذا الفرض يستند عدم الضد إلى وجود المقتضي القوي للضدّ الآخر ، لا إلى نفس وجوده ، ولا إلى عدم مقتضي نفسه ، فانّه موجود على الفرض ، ولكنّ المانع منعه عن تأثيره وهو وجود المقتضي القوي .
وعلى الجملة : ففيما إذا كان المقتضيان متفاوتين بالقوة والضعف ، فيستحيل أن يؤثر الضعيف في مقتضاه ، لأنّ تأثير كل مقتض مشروط بعدم المانع المزاحم له ، والقوي لمكان قوته مزاحم له ومع ذلك لو أثّر الضعيف دون القوي للزم

 
 

ــ[301]ــ

انفكاك المعلول عن علته التامة ، وصدوره عن علته الناقصة ، فان علية القوي كما عرفت تامة فلا حالة منتظرة فيه أصلاً ، إذ الضعيف لمكان ضعفه لا يمكن أن يزاحمه ، وعلية الضعيف ناقصة لوجود المانع المزاحم له ، إذن يستند عدم الضدّ الذي يقتضيه السبب الضعيف إلى وجود السبب القوي ، فانّه مانع عن تأثير الضعيف ومزاحم له ، وإلاّ فالمقتضي له موجود . وقد سبق أنّ عدم المعلول إنّما يستند إلى وجود المانع في ظرف تحقق المقتضي وبقية الشرائط .
ولنأخذ لذلك مثالين :
الأوّل : ما إذا فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في محل واحد ، كارادة الضدّين من شخص واحد وكانت إرادته بالاضافة إلى أحدهما أقوى من إرادته بالاضافة إلى الآخر ، كما لو كان هناك غريقان وقد تعلقت إرادته بانقاذ كل واحد منهما في نفسـه ، ولكن إرادته بالاضافة إلى إنقاذ أحدهما أقوى من إرادته بالاضافة إلى إنقاذ الآخر ، من جهة أنّ أحدهما عالم والآخر جاهل ، أو كان أحدهما صديقه والآخر أجنبياً عنه، وغير ذلك من الخصوصيات والعناوين الموجبة لكثرة الشفقة والمحبة بالاضافة إلى إنقاذ أحدهما دون الآخر ، ففي مثل ذلك لا محالة يكون المؤثر هو الارادة القويّة دون الارادة الضعيفة ، فانّها لمكان ضعفها تزاحمها الارادة القـوية ، وتمنعها عن تأثيرها في مقتضاها ، وتلك لمكان قوتها لا تزاحم بها . إذن عدم تحقق مقتضي الارادة الضعيفة غير مستند إلى وجود الضدّ الآخر ، ولا إلى عدم مقتضيه ، فان مقتضيه وهو الارادة الضعيفة موجود على الفرض ، بل هو مستند إلى وجود المانع والمزاحم له ، وهو الارادة القوية .
الثاني : ما إذا فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في محلّين وموضوعين ، كما إذا كان كل منهما متعلقاً لارادة شخص ، ولكن كانت إرادة أحدهما أقوى

ــ[302]ــ

من إرادة الآخر ، كما إذا أراد أحد الشخصين مثلاً حركة جسم إلى جانب وأراد الآخر حركة ذلك الجسم إلى جانب آخر وهكذا ، ففي مثل ذلك أيضاً يكون المؤثر هو الارادة الغالبة دون الارادة المغلوبة ، فعدم أثرها أيضاً غير مستند إلى وجود أثر تلك الارادة ، بل هو مستند إلى مزاحمتها بها ، لمكان ضعفها وعدم مزاحمة تلك بها لمكان قوتها .
فالنتيجة إذن : لايمكن فرض وجود صورة يستند عدم الضد في تلك الصورة إلى وجود الضدّ الآخر ، لا إلى وجود سببه ، أو عدم مقتضي نفسه .
أقول : هذا الوجه في غاية المتانة والاستقامة ، ولا مناص من الالتزام به ولا سيّما بذلك الشكل الذي بيّناه .
وذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وجهاً ثالثاً لاستحالة مقدمية عدم الضدّ للضدّ الآخر ، وإليك نصّه :
وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلاّ عدم اجتماعهما في التحقق ، وحيث لا منافاة أصلاً بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة ، من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر كما لا يخفى ، فكما أنّ قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ، كذلك في المتضادين (1) .
أقول : توضيح ما أفاده (قدس سره) : أنّ المنافرة والمعاندة بين الضدين كما تقتضي استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في زمن واحد ، كذلك تقتضي استحالة اجتماعهما في مرتبة واحدة ، فإذا استحال اجتماعهما في مرتبة واحدة كان

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 130 .

ــ[303]ــ

عدم أحدهما في تلك المرتبة ضرورياً وإلاّ فلا بدّ أن يكون وجوده فيها كذلك ، لاستحالة ارتفاع النقيضين عن الرتبة ، مثلاً البياض والسواد متضادان ، وقضية مضادة أحدهما مع الآخر ومعاندتهما استحالة اجتماعهما في الوجود في موضوع وفي آن واحد أو رتبة واحدة ، فكما أنّ استحالة اجتماعهما في زمان واحد تستلزم ضرورة عدم أحدهما في ذلك الزمان ، كذلك استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة تستلزم ضرورة عدم واحد منهما في تلك الرتبة ، لاستحالة ارتفاع النقيضين عن المرتبة أيضاً ، بأن لا يكون وجوده في تلك المرتبة ولا عدمه .
ومن ذلك يعلم أنّ مراده (قدس سره) من أ نّه لا منافاة بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر ، بل بينهما كمال الملاءمة ، ما ذكرناه من أنّ المضادة بين شيئين لا تقتضي إلاّ استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في آن واحد أو رتبة واحدة ، وإذا استحال تحققهما في مرتبة فلا محالة يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة واجباً ، مثلاً عدم البياض في مرتبة وجود السواد وكذلك عدم السواد في مرتبة وجود البياض ضروري ، كيف ولو لم يكن عدم البياض في تلك المرتبة يلزم أحد محذورين : إمّا ارتفاع النقيضين عن تلك المرتبة لو لم يكن وجود البياض أيضاً في تلك المرتبة ، أو اجتماع الضدّين فيها إذا كان البياض موجوداً فيها ، وليس غرضه من ذلك نفي المقدمية والتوقف بمجرّد كمال الملاءمة بينهما ليرد عليه ما أورده شيخنا المحقق (قدس سره) (1) من أنّ كمال الملاءمة بينهما لا يدل عليه ، فان بين العلة والمعلول كمال الملاءمة ومع ذلك لا يكونان متحدين في الرتبة .
كما أنّ غرضه (قدس سره) من قوله : فكما أنّ قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ، كذلك في المتضادين ، هو ما

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 2 : 180 .

ــ[304]ــ

ذكرناه ، وليس غرضه من ذلك الاستدلال على نفي التوقف والمقدمية بقياس المساواة ، بدعوى أنّ عدم أحد الضدّين في مرتبة وجوده ، لأ نّهما نقيضان والنقيضان في رتبة واحدة ، وبما أنّ وجود أحد الضدّين في مرتبة وجود الآخر لأنّ ذلك مقتضى التضاد بينهما ، كان عدم أحد الضدّين في مرتبة وجود الآخر .
وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ التقدم والتأخر والتقارن بين شيئين تارة تلاحظ بالاضافة إلى الزمان ، ومعنى ذلك أنّ الملاك في تقدّم شيء على شيء آخر أو تأخره عنه أو تقارنه معه هو نفس الزمان لا غيره ، وتارة اُخرى تلاحظ بالاضافة إلى الرتبة مع تقارنهما بحسب الزمان ، وحينئذ فالملاك فيه شيء آخر غير الزمان .
أمّا إذا كان التقدم والتأخر بين شيئين أو التقارن بينهما بالزمان ، فكل ما هو متحد مع المتقدم في الزمان متقدم على المتأخر بعين الملاك الموجود في المتقدم ، وهو كونه في الزمان المتقدم ، وكل ما هو متحد مع المتأخر في الزمان متأخر عن المتقدم بعين الملاك الموجود في المتأخر ، وهو كونه في الزمان المتأخر . وكل ما هو متحد مع المقارن في الزمان مقارن لتحقق ملاك التقارن فيه ، وهذا من الواضحات فلا يحتاج إلى مؤونة بيان .
وأمّا إذا كان التقدم والتأخر بينهما بلحاظ الرتبة دون الزمان فالأمر ليس كذلك ، فانّ ما هو متحد مع المتقدم في الرتبة لا يلزم أن يكون متقدماً على المتأخر ، وكذا ما هو متحد مع المتأخر فيها أو المقارن لا يلزم أن يكون متأخراً أو مقارناً ، مثلاً العلة متقدمة على المعلول رتبة ، وما هو متحد معها في الرتبة ـ وهو العدم البديل لها ـ لا يكون متقدماً عليه ، والمعلول متأخر عن العلة رتبة وما هو متحد معه ـ وهو عدمه البديل له ـ لا يكون متأخراً عنها .
والوجه في ذلك هو : أنّ التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع لا يكون جزافاً ، بل

ــ[305]ــ

لا بدّ أن يكون ناشئاً من ملاك مقتض له ، فكل ما كان فيه الملاك الموجب لتقدمه أو تأخره فهو ، وإلاّ فلا يعقل فيه التقدم أو التأخر أصلاً ، فهذا الملاك تارة يختص بوجود الشيء فلا يمكن الالتزام بالتقدم أو التأخر في عدمه ، وتارة اُخرى يختص بعدمه ، فلا يعقل الالتزام به في وجوده ، فانّه تابع لوجود الملاك ، ففي كل مورد لا يوجد فيه الملاك لا يمكن فيه التقدم أو التأخر ، بل لا بدّ فيه من الالتزام بالاتحاد والمعية في الرتبة ، فان ملاك المعية انتفاء ملاك التقدم والتأخر ، لا أ نّها ناشئة من ملاك وجودي .
وعلى ضوء ذلك نقول : إنّ تقدّم العلة على المعلول بملاك ترشح وجود المعلول من وجود العلة ، كما أنّ تقدّم الشرط على المشروط بملاك توقف وجوده على وجوده ، وتقدّم عدم المانع على الممنوع بملاك توقف وجوده عليه ، وأمّا عدم العلة فلا يكون متقدماً على وجود المعلول ، لعدم ملاك التقدم فيه ، كما أنّ عدم المعلول لا يكون متأخراً عن وجود العلة مع أ نّه في مرتبة وجود المعلول ، لعدم تحقق ملاك التأخر فيه ، وكذا لا يكون عدم الشرط متقدماً على المشروط ، ولا عدم المشروط متأخراً عن وجود الشرط ، لاختصاص ملاك التقدم والتأخر بوجود الشرط ووجود المشروط دون وجود أحدهما وعدم الآخر .
وعلى الجملة : فما كان مع المتقدم في الرتبة كالعلة والشرط ليس له تقدّم على المعلول والمشروط ، إذ التقدم بالعلية شأن العلة دون غيرها ، والتقدم بالشرطية شأن الشرط دون غيره ، فانّ التقدم بالعلية أو الشرطية أو نحوها الثابت لشيء لا يسري إلى نقيضه المتحد معه في الرتبة ، ولذا قلنا إنّه لا تقدّم لعدم العلة على المعلول ولا للعلة على عدم المعلول ، مع أ نّه لا شبهة في تقدّم العلة على المعلول ، والسر فيه ما عرفت من أنّ التقدم والتأخر الرتبيين تابعان

ــ[306]ــ

للملاك ، فكل ما لا يكون فيه الملاك لا يعقل فيه التقدم والتأخر أصلاً ، بل لا مناص فيه من الحكم بالمعية والاتحاد في الرتبة .
ومن ذلك يظهر الحال في الضدّين ، إذ يمكن أن يكون عدم أحدهما متقدماً على وجود الآخر بملاك موجب له ، ولا يكون ما هو متحد معه في الرتبة متقدماً عليه ، فمجرد اتحاد الضدّين والنقيضين في الرتبة لا يأبى أن يكون عدم الضد متقدماً على الضدّ الآخر ، مع عدم تقدّم ما هو في مرتبته عليه ، لاختصاص ملاك التقدم بعدم كل منهما بالاضافة إلى وجود الآخر ، دون عدم كل منهما بالاضافة إلى وجوده ، ودون وجود كل منهما بالاضافة إلى وجود الآخر . ولأجل ذلك كان ما هو متحد مع العلة في الرتبة ـ وهو عدمها ـ متحداً مع المعلول في الرتبة ، وكان ما هو متحد مع المعلول في الرتبة ـ وهو عدمه ـ متحداً مع العلة في الرتبة ، مع أنّ العلة متقدمة على المعلول رتبة .
ثمّ إنّ ما ذكره في النقيضين ـ من أن قضية المنافاة بينهما لا تقتضي تقدّم [ ارتفاع ] أحدهما في ثبوت الآخر ـ لا بدّ من فرضه في طرف واحد منهما ، وهو طرف الوجود دون كلا الطرفين ، وذلك لأنّ وجود الشيء يغاير عدم نقيضه ـ أعني به عدم العدم ـ مفهوماً ، وأمّا عدم الشيء فهو بنفسه نقيض الشيء ، ولا يغايره بوجه كي يقال إنّ ارتفاع الوجود يلائم نقيضه من دون أن يكون بينهما تأخر وتقدّم . مثلاً وجود الانسان يغاير عدم نقيضه ـ عدم الانسان ـ مفهوماً ، فان مفهوم عدم العدم غير مفهوم الوجود ، وإن كان في الخارج عينه . فإذن يمكن أن يقال : إنّ الشيء كالانسان متحد في الرتبة مع عدم نقيضه ، وأمّا عدم الانسان فلا يغاير عدم نقيضه ـ وجود الانسان ـ حتّى مفهوماً ، فانّ نقيضه هو الانسان ، وعدم نقيضه هو عدم الانسان . إذن فلا معنى لأن يقال : إنّ عدم الانسان متحد في الرتبة مع عدم الانسان .

ــ[307]ــ

فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت : أنّ التمسك بقياس المساواة إنّما يصح في التقدم الزماني ، فانّ ما هو مع المتقدم بالزمان متقدم لا محالة ، دون ما إذا كان التقدم في الرتبة .
وقد عرفت أنّ غرض المحقق صاحب الكفـاية (قدس سره) ليس التمسك بقياس المساواة لاثبات نفي المقدمية والتقدم لعدم أحد الضدّين للضدّ الآخر ، ليرد عليه ما بيّناه ، بل غرضه ما ذكرناه سابقاً . هذا غاية توجيه لما أفاده (قدس سره) في المقام .
وقد ظهر من ضوء بياننا هذا أمران :
الأوّل : بطلان ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التمسك لاثبات كون عدم أحد الضدّين في مرتبة الضدّ الآخر ، بقياس المساواة . وقد تقدّم (1) بيانه مع جوابه مفصلاً فلا حاجة إلى الاعادة .
الثاني : بطلان ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) من أنّ المعية في الرتبة كالتقدم أو التأخر الرتبي لا بدّ أن تكون ناشئة من ملاك وجودي ، فلا يكفي فيها انتفاء ملاك التقدم أو التأخر ، والوجه في ذلك : ما عرفت من أنّ التقدم أو التأخر لا بدّ أن يكون ناشئاً من ملاك وجودي موجب له ، وأمّا المعية في الرتبة فلا .
والسر في ذلك : أنّ كل شيء إذا قيس على غيره ولم يكن بينهما ملاك التقدم والتأخر فهو في رتبته لا محالة ، إذ لا نعني بالمعية في الرتبة إلاّ عدم تحقق موجب التقدم والتأخر بينهما ، ضرورة أ نّها لا تحتاج إلى ملاك آخر غير عدم وجود ملاك التقدم والتأخر ، فكل ما لم يكن متقدماً على شيء ولا متأخراً عنه في

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 300 .

ــ[308]ــ

الرتبة ، كان متحداً معه في الرتبة لا محالة .
وبعد بيان هذا نقول : إنّه يمكن المناقشة فيما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أيضاً والوجه في ذلك : هو أنّ ما أفـاده (قدس سره) مبتن على أصل فاسد ، وهو أنّ استحالة اجتماع الضدّين أو النقيضين إنّما تكون مع وحدة الرتبة ، وأمّا مع تعددها فلا استحالة أبداً ، أو فقل : إنّه كما يعتبر في التناقض أو التضاد وحدة الزمان ، كذلك يعتبر فيه وحدة الرتبة ، ومع اختلافها فلا تناقض ولا تضاد .
ولكن هذا الأصل بمكان من الفساد ، وذلك لأنّ التضاد من صفات الوجود الخارجي ، فالمضادة والمعاندة بين السواد والبياض أو بين الحركة والسكون مثلاً إنّما هي في ظرف الخارج ، بداهة أ نّه مع قطع النظر عن وجودهما في الخارج لا مضادة ولا معاندة بينهما أبداً .
وعلى الجملة : فالمضادة والمماثلة والمناقضة جميعاً من الصفات التي تعرض الموجودات الخارجية، لا الرتب العقلية، ضرورة أنّ الوجود والعدم إنّما يستحيل اجتماعهما في الخارج ، وكذا السواد والبياض ، والحركة والسكون ، وكل ما يكون من هذا القبيل ، ولذا لو فرضـنا أنّ الضدّين كانا مختلفين في الرتبة عقلاً كان اجتماعهما خارجاً في موضوع واحد محالاً ، فالاستحالة تدور مدار اجتماعهما في الوجود الخارجي في آن واحد وفي موضوع فارد ، سواء أكانا مختلفين بحسب الرتبة أم كانا متحدين فيها ، إذ العبرة إنّما هي بالمقارنة الزمانية ، ومن المعلوم أنّ المختلفين بحسب الرتبة قد يقترنان بحسب الزمان كالعلة والمعلول .
وعليه فلا يتم ما في الكفاية من أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين تقتضي استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة أيضاً ، فإذا استحال اجتماعهما فيها فلا محالة يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة ضرورياً ، وإلاّ لزم إمّا ارتفاع الضدّين أو

ــ[309]ــ

اجتماعهما ، وكلاهما محال .
والوجه فيه : ما عرفت من أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين إنّما هي بلحاظ وجوديهما في الخارج وإلاّ فلا معاندة ولا مضادة بينهما أبداً ، فإذن لا مانع من أن يكون عدم أحدهما متقدماً على الآخر بالرتبـة ، ولا يلزم عليه المحـذور المذكور أصلاً، وأمّا عدم تقدّم أحد الضدّين على الآخر فليس من ناحية المضادة بينهما ، ليقال إنّ قضيتها اتحادهما في الرتبة ، بل من ناحية انتفاء ملاك التقدم والتأخر .
ومن هنا لم يعدّوا من الوحدات المعتبرة في التناقض أو التضاد وحدة الرتبة ، وهذا منهم شاهد على عدم اعتبارها فيه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net