ــ[321]ــ
الوجه الثاني
قد استدلّ بعضهم على أنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضدّه : بأنّ وجود الضد ملازم لترك الضدّ الآخر ، والمتلازمان لا يمكن اختلافهما في الحكم بأن يكون أحدهما واجباً والآخر محرّماً ، وعليه فإذا كان أحد الضدّين واجباً فلا محالة يكون ترك الآخر أيضاً واجباً ، وإلاّ لكان المتلازمان مختلفين في الحكم وهو غير جائز . أقول : هذا الدليل أيضاً مركب من مقدمتين : الاُولى : صغرى القياس ، وهي ثبوت الملازمة بين وجود شيء وعدم ضدّه . الثانية : كبراه وهي عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم . أمّا المقدمة الاُولى : فلا إشكال فيها . وأمّا المقدمة الثانية : فقد ذكروا أنّ المتلازمين لا بدّ أن يكونا متوافقين في الحكم ، فإذا كانت الازالة مثلاً واجبة فترك الصلاة الذي هو ملازم لفعل الازالة لا محالة يكون واجباً ، لأ نّه يمتنع أن يكون محرّماً لاستلزامه التكليف بالمحال ، ولا فرق في ذلك بين الضدّين اللّذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شاكلهما، والضدّين اللّذين لهما ثالث كالسواد والبياض والقيام والجلوس ونحوهما ، غاية الأمر أ نّه على الفرض الأوّل كان الاستلزام من الطرفين ، فكما أنّ وجود كل منهما يستلزم عدم الآخر، كذلك عدم كل منهما يستلزم وجود الآخر . وأمّا على الفرض الثاني فوجود كل واحد منهما يستلزم عدم الآخر دون العكس ، إذ يمكن انتفاؤهما معاً ، وذلك لأنّ ملاك دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده
ــ[322]ــ
هو استلزام وجود ذلك الشيء لعدم ضدّه ، وهو أمر يشترك فيه جميع الأضداد . وأمّا استلزام عدم الشيء لوجود ضدّه فهو وإن كان مختصاً بالضدّين اللذين لا ثالث لهما ، إلاّ أ نّه أجنبي عن ملاك الدلالة تماماً . وعلى ذلك يظهر أ نّه لا وجه لما يراه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من التفرقة بين ما إذا لم يكن للضدين ثالث ، وما إذا كان لهما ثالث ، فسلّم الدلالة في الفرض الأوّل دون الثاني ، فان ملاك الدلالة كما عرفت واحد ، إذن فالتفصيل في غير موضعه كما سنتعرض إلى ذلك إن شاء الله تعالى . والجواب عن ذلك : أنّ الذي لايمكن الالتزام به هو كون المتلازمين مختلفين في الحكم ، بأن يكون أحدهما متعلقاً للأمر ، والآخر متعلقاً للنهي ، لاستلزام ذلك التكليف بما لا يطاق ، فلا يمكن أن يأمر الشارع باستقبال القبلة مثلاً في بلدنا هذا أو ما يقربه من البلاد في الطول والعرض ، وينهى عن استدبار الجدي ، لأنّ هذا تكليف بغير المقدور ، بل لا يمكن النهي التنزيهي عنه لكونه لغواً ، فلا يترتب عليه أيّ أثر بعد فرض وجوب الاستقبال . وأمّا لزوم كونهما محكومين بحكم واحد ومتوافقين فيه فلا موجب له أصلاً ، فانّ المحذور المتقدم ـ وهو لزوم التكليف بما لا يطاق ـ كما يندفع بالالتزام بكونهما متوافقين في الحكم ، كذلك يندفع بكون أحدهما غير محكوم بحكم من الأحكام . وعليه فلا مقتضي لدفع المحذور بالفرض الأوّل دون الفرض الثاني ، فانّ الالتزام بالتوافق في الحكم يحتاج إلى دليل يدل عليه ، ولا دليل في المقـام ، بل قام الدليل على خلافه ، وذلك لأنّ الشارع إذا أمر بأحد المتلازمين فالأمر بالملازم الآخر لغو ، فإذا أمر باستقبال القبلة مثلاً ، فالأمر باستدبار الجدي ، أو كون اليمين على طرف المغرب واليسار على طرف المشرق بلا فائدة ، فان تلك الاُمور من ملازمات وجود
ـــــــــــــــــــــ (1) أجود التقريرات 2 : 8 .
ــ[323]ــ
المأمور به في الخارج ، سواء أكانت متعلقة للأمر أم لم تكن ، وما كان كذلك فلا يمكن تعلّق الأمر به . نعم ، لو توقف ترك الحرام خارجاً على الاتيان بفعل ما ، للملازمة بين ترك هذا الفعل والوقوع في الحرام وجب الاتيان به عقلاً ، وأمّا شرعاً فلا ، لعدم الدليل على سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الخارجيـة . ونظير ذلك ما تقدّم في بحث مقدمة الواجب (1) من أنّ الاتيـان بالمقدمة إذا كان علة تامة للوقوع في الحرام من دون أن يتوسط بين المقدمة وذيها إرادة واختيار للفاعل ، وجب تركها عقلاً لا شرعاً ، لعدم الدليل على حرمة تلك المقدمة لا حرمة نفسية ولا حرمة غيرية . أمّا الحرمة النفسية، فلأنّ المتصف بها إنّما هو المسبب ، لأ نّه مقدور للمكلف بواسطة القدرة على مقدمته، ومن الظاهر أ نّه لا فرق في المقدور بين كونه بلا واسطة أو معها . ووجوب وجوده وضرورته من قبل الاتيان بمقدمته لا يضر بتعلق التكليف به، لأ نّه وجوب بالاختيار فلا ينافي الاختيار. إذن لا وجه لصرف النهي المتعلق بالمعلول إلى علته كما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(2) بدعوى أنّ العلة مقدورة دون المعلول ، ضرورة أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، والمعلول وإن لم يكن مقدوراً ابتداءً ، إلاّ أ نّه مقدور بواسطة القدرة على علته وهذا يكفي في صحة تعلّق النهي به . وأمّا الحرمة الغيرية ، فقد تقدّم (3) أ نّه لا دليل عليها ، لأنّ ثبوتها يبتني على ثبوت الملازمة ، وقد سبق أنّ الملازمة لم تثبت .
ـــــــــــــــــــــ (1) في ص 284 . (2) أجود التقريرات 1 : 362 . (3) في ص 284 .
ــ[324]ــ
وبتعبير آخر : لا شبهة في أنّ مراد القائل بأنّ المتلازمين لا بدّ أن يكونا متوافقين في الحكم ، ليس توافقهما في الارادة بمعنى الشوق المؤكد ، ولا بمعنى إعمال القدرة، فانّ الارادة بالمعنى الأوّل من الصفات النفسانية ، وليست من سنخ الأحكام في شيء ، وبالمعنى الثاني وهو إعمال القدرة في شيء يستحيل أن يتعلق بفعل الغير ، لأ نّه ليس واقعاً تحت اختيار المولى وإرادته ، بل مراده من ذلك أنّ اعتبار المولى أحد المتلازمين في ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز يستلزم اعتبار الآخر في ذمته أيضاً . ولكن من الواضح جداً أ نّه لا ملازمة بين الاعتبارين أصلاً . مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الاعتبار الثاني لغو . وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر : أنّ الأمر كذلك في النقيضين ، والمتقابلين بتقابل العدم والملكة كالتكلم والسكوت ، فان اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف لا يستلزم النهي عن نقيضه واعتبار عدمه ، كما أنّ اعتبار الملكة في ذمة المكلف لا يستلزم النهي عن عدمها ، فالأمر بالازالة مثلاً كما لا يستلزم النهي عن الصلاة المضادة لها ، كذلك لا يستلزم النهي عن نقيضها وهو العدم البديل لها ، ضرورة أنّ المتفاهم منه عرفاً ليس إلاّ وجوب الازالة في الخارج ، لا حرمة تركها ، ولذلك قلنا إنّ كل حكم شرعي متعلق بشيء لا ينحل إلى حكمـين : أحدهما متعلق به ، والآخر بنقيضه . أو فقل : إنّ النهي عن أحد النقيضين مع الأمر بالنقيض الآخر لغو فلا يترتب عليه أثر . وبذلك يظهر فساد ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الالتزام بأنّ الأمر بأحد النقيضين يستلزم النهي عن الآخر باللزوم البيّن بالمعنى الأخص . والأمر بأحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة كالتكلم والسكوت مثلاً يستلزم
ــ[325]ــ
النهي عن الآخر باللزوم البيّن بالمعنى الأخص أيضاً ، بل الأمر بأحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون يستلزم النهي عن الضدّ الآخر ولكن باللزوم البيّن بالمعنى الأعم . ووجه الظهور هو : ما قد سبق من أ نّه لا دلالة على الملازمة في شيء من تلك الموارد حتّى باللزوم البيّن بالمعنى الأعم ، فضلاً عن البيّن بالمعنى الأخص ، وأنّ الأمر لا يدل إلاّ على اعتبار متعلقه في ذمة المكلف ، ولا يدل على النهي عن تركه ، بل قد عرفت أنّ النهي عنه لغو . أضف إلى ذلك : ما ذكرناه سابقاً من أنّ ملاك الدلالة في المقام هو استلزام فعل الضد لترك الضدّ الآخر ، وهو أمر مشترك فيه بين الجميع ، فلا يختص بالنقيضين ولا بالمتقابلين بتقابل العدم والملكة ولا بالضدين اللذين لا ثالث لهما، بل يعمّ الضدّين اللّذين لهما ثالث أيضاً ، لأنّ فعل أحدهما يستلزم ترك الآخر لا محالة . وأمّا استلزام ترك الشيء لفعل ضدّه فهو أجنبي عن ملاك الدلالة تماماً . فالنتيجة : أنّ ما هو ملاك الدلالة على تقدير تسليمه يشترك فيه الجميع ، ولا يختص بغير الضدّين اللّذين لهما ثالث. فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفرقة لا يرجع إلى معنى محصّل .
|