وأمّا القول الثالث : وهو القول بأنّ الأمر بشيء يستلزم النهي عن ضدّه العام ، فقد ذهب إليه جماعة ، ولكنهم اختلفوا في أنّ الاقتضاء هل هو على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، بأن يكون نفس تصور الوجوب كافياً في تصور المنع من الترك ، من دون حاجة إلى أمر زائد ، أو أ نّه على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعم على قولين . فقد قرب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) القول الأوّل ، وقال : إنّه لا يبعد أن تكون دلالته على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، وعلى تقدير التنزل عن ذلك فالدلالة الالتزامية بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعم ممّا لا إشكال فيه ولا كلام . والتحقيق : هو عدم الاقتضاء، والوجه في ذلك: هو أنّ دعوى استلزام الأمر بشيء النهي عن تركه باللـزوم البـيّن بالمعنى الأخص واضـحة الفساد ، ضرورة أنّ الآمر ربّما يأمر بشيء ويغفل عن تركه ولا يلتفت إليه أصلاً ليكون كارهاً له ، فلو كانت الدلالة على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص لم يتصور غفلة الآمر عن الترك وعدم التفـاته إليه في مورد من المـوارد ، ومن هنا قد اعترف هو (قدس سره) أيضاً ببداهة إمكان غفلة الآمر بشيء عن ترك تركه
ـــــــــــــــــــــ (1) أجود التقريرات 2 : 7 .
ــ[336]ــ
فضلاً عن أن يتعلق به طلبه ، وهذا منه يناقض ما أفاده من نفي البعد عن اللزوم البيّن بالمعنى الأخص . وأمّا دعوى الدلالة الالتزامية باللزوم البيّن بالمعنى الأعم ، فهي أيضاً لايمكن تصديقها ، وذلك لعدم الدليل عليها لا من العقل ولا من الشرع . أمّا من ناحية العقل : فلأ نّه لا يحكم بالملازمة بين اعتبار الشارع وجوب شيء واعتباره حرمة تركه ، فانّ كلاً من الوجوب والحرمة يحتاج إلى اعتبار مستقل ، والتفكيك بينهما في مقام الاعتبار بمكان من الامكان ، وكذا لا يحكم العقل بالملازمة بين إرادة شيء وكراهة نقيضه ، إذ قد يريد الانسان شيئاً غافلاً عن تركه وغير ملتفت إليه ، فكيف يكون كارهاً له . وإن شئت فقل : إنّ القائل باستلزام وجوب شيء لحرمة تركه ، إمّا أن يدعي الحرمة النفسية ، أو يدعي الحرمة الغيرية . وكلتا الدعويين فاسدة : أمّا الدعوى الأولى : فلأنّ الحرمة النفسية إنّما تنشأ من مفسدة إلزامية في متعلقها، ومن الواضح أ نّه لا مفسدة في ترك الواجب، فتركه ترك ما فيه المصلحة لا فعل ما فيه المفسدة . فلو سلّمنا وجود المفسدة في ترك الواجب أحياناً فلا كلية لذلك بالبداهة . إذن لا مجال لدعوى الملازمة بين وجوب شيء وحرمة تركه ، بل الوجدان حاكم بعدم ثبوتها . وأمّا الدعوى الثانية : فلعدم ملاك الحرمة الغيرية فيه أوّلاً ، لانتفاء المقدمية ، وكونها لغواً ثانياً ، لعدم ترتب أثر عليها من العقاب أو نحوه . وعليه فلا موضوع لدعوى الملازمة أصلاً . وأمّا من ناحية الشرع : فلأنّ ما دلّ على وجوب شيء لا يدل على حرمة تركه ، بداهة أنّ الحكم الواحد وهو الوجوب في المقام لا ينحل إلى حكمين أحدهما يتعلق بالفعل والآخر بالترك ، ليكون تاركه مستحقاً لعقابين من جهة
ــ[337]ــ
تركه الواجب وارتكابه الحرام ، ومن هنا قلنا إنّه لا مفسدة في ترك الواجب ليكون تركه محرّماً ، كما أ نّه لا مصلحة في ترك الحرام ليكون واجباً . وعلى الجملة : فمن الواضح جداً أنّ الأمر بشيء لا يدل إلاّ على اعتباره في ذمة المكلف بلا دلالة له على اعتبار حرمة تركه ، فالأمر بالصلاة مثلاً لا يدل إلاّ على اعتبار فعلها في ذمة المكلف ، دون حرمة تركها وهكذا . وأمّا إطلاق المبغوض على ترك الواجب فهو بضرب من العناية والمسامحة ، كما أنّ إطلاق المحبوب على ترك الحرام كذلك . وقد تحصّل من ذلك بشكل واضح : أ نّه لا ملازمة بين اعتبار شيء في ذمة المكلف واعتبار حرمة نقيضه ، لا عقلاً ولا شرعاً . ونتيجة مجموع ما ذكرناه نقطتان : الاُولى : أنّ الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العام لا بنحو العينية أو الجزئية ولا بنحو اللزوم . الثانية : أنّ القولين الأوّلين لا يرجـعان إلى معنى معقول ، دون القول الأخير . هذا تمام كلامنا في الضدّ العام .
|