المرجح الثالث : تقدّم الأهم على المهم \ ترجيح محتمل الأهمّية 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7454


وأمّا القسم الثالث: وهو ما إذا كان كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة عقلاً، فيقع الكلام فيه في مقامين:
الأوّل: فيما إذا كان أحد التكليفين أهم من الآخر، أو محتمل الأهمّية.
الثاني: فيما إذا كانا متساويين.
أمّا المقام الأوّل: فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم، سواء أكان الأهم

ــ[77]ــ

مقارناً مع المهم زماناً أو سابقاً عليه أو متأخراً عنه. أمّا في الاُوليين فواضح، وذلك لأنّ التكليف بالأهم يصلح أن يكون معجّزاً مولوياً للمكلف بالاضافة إلى الطرف الآخر وهو المهم، وأمّا التكليف بالمهم فلا يصلح أن يكون كذلك، فتكون نسبته إلى الأهم كنسبة المستحب إلى الواجب، فكما أنّ المستحب لا يصلح أن يزاحم الواجب في مقام الامتثال، فكذلك المهم لا يصلح أن يزاحم الأهم.
أو فقل: إنّ التزاحم سواء أكان بين التكليفين أم بين الاطلاقين فلا محالة يوجب سقوط أحدهما دون الآخر، إذ سقوط كليهما غير محتمل، ضرورة أ نّه بلا موجب، وعليه فيدور الأمر بين سقوط المهم دون الأهم وبالعكس، ومن الواضح جداً أنّ الثاني غير معقول، لأ نّه ترجيح المرجوح على الراجح، فإذن يتعيّن الأوّل، وهذا معنى تقديم الأهم على المهم، وأمثلة ذلك في الشرع والعرف كثيرة:
منها: ما إذا دار الأمر بين حفظ بيضة الاسـلام مثلاً وواجب آخر، فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني في مقام الامتثال.
ومنها: ما إذا دار الأمر بين حفظ نفس مؤمن مثلاً وحفظ ماله أو نحوه، فلا ينبغي الشك في تقديم الأوّل على الثاني، لكونه أهم منه وهكذا.
وأمّا في الصورة الأخيرة فالأمر أيضاً كذلك، والوجه فيه هو أنّ الأهم وإن كان متأخراً عن المهم زماناً، إلاّ أنّ ملاكه بما أ نّه تام في ظرفه وأهم من غيره، فلا محالة وجب حفظ القدرة عليه في وقته لئلاّ يفوت، ضرورة أنّ العقل كما يستقل بقبح تفويت الواجب الفعلي، كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه، وعلى هذا حيث إنّ الاتيان بالمهم فعلاً يوجب تفويت ملاك الأهم في ظرفه فلا يجوز، فيكون حكم العقل بوجوب حفظ القدرة عليه في زمانه

ــ[78]ــ

معجّزاً للمكلف بالاضافة إلى امتثال المهم بالفعل.
وبتعبير ثان أنّ الحاكم بالترجيح في باب المزاحمة حيث إنّه كان هو العقل لا غيره، فمن الواضح جداً أ نّه مستقل بتقديم الأهم على المهم في مقام الامتثال مطلقاً، ولو كان الأهم متأخراً عنه زماناً كما في مفروض المقام، فانّه يحكم بلزوم حفظ القدرة على امتثاله في ظرفه، لئلاّ يلزم منه تفويت الملاك الملزم فيه، ولا يحكم بلزوم الاتيان بالمهم فعلاً، بل يحكم بعدم جواز الاتيان به، لاستلزامه تفويت ما هو الأهم منه.
ومثاله ما إذا دار الأمر بين حفظ مال الانسان مثلاً فعلاً، وحفظ نفسه في زمان متأخر، بأن لا يقدر على حفظ كليهما معاً، فلو صرف قدرته في حفظ ماله فعلاً فلا يقدر على حفظ نفسه، ولو عكس فبالعكس، كما إذا فرض أنّ الحاكم حكم بمـصادرة أمواله فعلاً، وهو وإن كان قادراً على حفظ ماله بالشفاعة عنده، إلاّ أ نّه يعلم بأ نّه يحكم بعد بضع ساعات بقتل نفسه، فلو توسط عنده فعلاً لحفظ ماله، فلا يقبل توسطه فيما بعد لحفظ نفسه، لفرض أ نّه لا يقبل توسطه في اليوم إلاّ مرّة واحدة، فاذن يدور أمره بين أن يحفظ نفسه في زمان متأخر ويرفع يده عن حفظ ماله فعلاً، وأن يحفظ ماله فعلاً ويرفع يده عن حفظ نفسه فيما بعد، ففي مثل ذلك لا إشكال في حكم العقل بترجيح الأوّل على الثاني، وتقديمه عليه، وكذا إذا دار الأمر بين امتثال واجب فعلي آخر وحفظ نفس محترمة في زمان متأخر بأن لا يقدر المكلف على امتثال الأوّل وحفظ الثانية معاً، فانّه لا إشكال في وجوب حفظ القدرة على الواجب المتأخر، وهو حفظ النفس المحترمة ورفع اليد عن وجوب الواجب الفعلي، وهكذا.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من تقديم الواجب الأهم على المهم فيما إذا كان متأخراً عنه زماناً بناءً على وجهة نظرنا من إمكان الواجب المعلق واضح،

ــ[79]ــ

حيث إنّ الوجوب فعلي على الفرض والواجب أمر متأخر، ومن المعلوم أنّ فعلية الوجوب تكشف عن كون الواجب في ظرفه واجداً للملاك الملزم، وقد عرفت أ نّه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الإلزامي، فكما أ نّه يحكم بقبح الأوّل، فكذلك يحكم بقبح الثاني.
وعلى ذلك فان لم يكن ملاك الواجـب المتأخر في ظرفه أهم من ملاك الواجب الفعلي وكانا متساويين، فيحكم العقل بالتخيير بينهما، وعدم ترجيح الواجب الفعلي على المتأخر، لعدم العبرة بالسبق الزماني في المقام أصلاً.
وما ذكرناه سابقاً (1) من أنّ ما هو أسبق زماناً يتقدّم على غيره، إنّما هو فيما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، لا فيما إذا كان مشروطاً بها عقلاً، ونقطة الفرق بينهما هي أ نّه على الأوّل بما أنّ كلاً منهما مشروط بالقدرة شرعاً، ففي فرض المزاحمة لا مناص من الأخذ بما هو سابق زماناً على الآخر، حيث إنّ ملاكه تام بالفعل من ناحية أ نّه مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً، ومعه لا عذر له في تركه أصلاً، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّه لا يجب احتفاظ القدرة على الواجب المتأخر، لفرض أنّ القدرة دخيلة في ملاكه، فيستحيل أن يقتضي احتفاظها.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أ نّه لابدّ من الاتيان بالمتقدم زماناً دون المتأخر، ومن الواضح أنّ الاتيان به يوجب عجزه عنه، فيكون التكليف به منتفياً بانتفاء موضوعه وهو القدرة، وعلى الثاني بما أنّ كلاً منهما مشروط بالقدرة عقلاً، فلا يكون سبق أحدهما زماناً على الآخر في فرض المزاحمة من المرجحات، لما عرفت من أنّ ملاك الواجب المتأخر حيث إنّه تام في ظرفه
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 45.

ــ[80]ــ

ـ كما هو المفروض ـ فلا محالة يقتضي الاحتفاظ عليه في ظرفه في مقابل اقتضاء الواجب الفعلي.
وأمّا بناءً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من استحالة الواجب التعليقي وعدم إمكانه، فتقديم الأهم على المهم إذا كان متأخراً عنه زماناً يرتكز على إحراز الملاك فيه في ظرفه من دليل خارجي، فإن علم من الخارج اشتماله على الملاك، كما إذا دار الأمر بين امتثال واجب فعلي كحفظ مال المولى مثلاً، وواجب متأخر كحفظ نفسه أو حفظ بيضة الاسلام أو ما شاكل ذلك من الواجبات التي قد اهتمّ الشارع بها غاية الاهتمام على نحو الاطلاق من دون اختصاص بوقت دون آخر، فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم وإن كان متأخراً عنه زماناً، لتمامية ملاكه الالزامي في وقته، وقد عرفت استقلال العقل باحتفاظ القدرة عليه في ظرفه، وعدم جواز صرفها في الواجب الفعلي، ففي أمثال هذه الموارد لا فرق بين نظريتنا ونظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ضرورة أ نّه لا أثر لفعلية الوجـوب ما عدا كشفه عن اشتماله ـ أي الواجب المتأخر ـ على الملاك في ظرفه، وإذا علمنا بتحقق الملاك فيه واشتماله عليه، فلا أثر لفعلية الوجوب وعدمها.
وأمّا إذا لم يعلم من الخارج بوجود الملاك فيه، كما إذا لم تكن قرينة خارجية تدل عليه، والمفروض أ نّه ليس هنا قرينة داخلية أيضاً وهي ثبوت الوجوب، فلا يمكن عندئذ استكشاف الملاك في شيء، لما ذكرناه غير مرّة من أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في فعل مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له، فلا وجه لتقديمه على الواجب الفعلي، ضرورة أ نّه مع عدم إحراز الملاك فيه في ظرفه
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع أجود التقريرات 1: 201.

 
 

ــ[81]ــ

لا يحكم العقل باحتفاظ القدرة عليه، وبدون حكمه فلا مانع من امتثال الواجب الفعلي أصلاً، ففي مثل تلك الموارد تفترق نظريتنا عن نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فعلى نظريتنا بما أنّ الوجوب فعلي والواجب أمر متأخر، فهو لا محالة يكشف عن وجود الملاك فيه وكونه تاماً، وإلاّ لم يعقل كون وجوبه فعلياً. وعلى نظريته (قدس سره) حيث إنّه لا وجوب فعلاً، فلا كاشف عن كونه واجداً للملاك في وقته، وعليه فلا وجه لتقديمه على المهم وهو الواجب الفعلي.
وقد تحصّل مما ذكرناه: أنّ تقديم الأهم على المهم إذا كان متأخراً عنه زماناً منوط على نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) باحراز الملاك فيه من الخارج، وإلاّ فلا يمكن الحكم بالتقديم أصلاً، بل يتعين العكس كما لا يخفى. وكيف كان فعلى فرض كونه مشـتملاً على الملاك في ظرفه يتقدّم على المهم لا محالة ولو كان متأخراً عنه زماناً، وكلامنا في المقام على نحو الفرض والتقدير والكبرى الكلّية من دون نظر إلى مصاديقها وأفرادها.
هذا، ولكن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) هنا قد مثّل لذلك ـ أي لتزاحم واجبين طوليين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً ـ بما إذا لم يكن المكلف متمكناً من القيام في جزأين طوليين من الصلاة.
ولا يخفى ما في هذا المثال، أمّا أوّلاً: فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ التزاحم لا يجري في أجزاء واجب واحد أو شرائطه.
وأمّا ثانياً: فلأ نّه مناف لما ذكره (قدس سره) (2) من اشتراط أجزاء الصلاة
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 43.
(2) أجود التقريرات 2: 49.

ــ[82]ــ

بالقدرة شرعاً، وعليه فلا مناص من تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره ولو كان ذلك الغير أهم منه، كما عرفت.
فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن: أنّ الواجب الأهم يتقدّم في مقام المزاحمة على المهم مطلقاً ولو كان متأخراً عنه زماناً، فيما إذا كان مشروطاً بالقدرة عقلاً، سواء أكان المهم أيضاً كذلك أم لا. نعم، إذا كان الأهم مشروطاً بالقدرة شرعاً فلا يتقدّم على المهم في فرض تأخره عنه زماناً، بل يتقدّم المهم عليه ولو كان مشروطاً بها شرعاً.
وأمّا إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين محتمل الأهمّية دون الآخر، فهل يكون مرجحاً لتقديمه عليه أم لا ؟ فقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) أ نّه بناءً على القول بالتخيير الشرعي في المتساويين يكون المقام داخلاً في كبرى مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين التي ذكرناها في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فإن قلنا في تلك المسألة بالاشتغال والتعيين فلا بدّ أن نقول به في هذه المسألة أيضاً، وإن قلنا هناك بالبراءة والتخيير فلابدّ أن نقول به في المـقام أيضاً، وعلى الجملة فمسألتنا هذه من صغريات كبرى تلك المسألة، فيبتني الحكم فيها على الحكم في تلك من البراءة أو الاشتغال.
وأمّا بناءً على القول بالتخيير العقلي في المتساويين فقد ذكر (قدس سره) أ نّه لا إشكال في تقديم ما تحتمل أهمّيته على غيره، والوجه في ذلك: هو أنّ التكليفين المتزاحمين إذا كانا متساويين فلا إشكال في سقوط إطلاقيهما وحكم العقل بالتخيير بينهما، بمعنى حكمه بثبوت كل واحد منهما مترتباً على ترك الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه،
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 46.

ــ[83]ــ

من دون فرق بين أن يكون من جانب واحد أو من جانبين كما في مثل المقام، ضرورة أنّ العقل لا يجوّز رفع اليد عن أصل التكليفين معاً، فانّه بلا موجب ومقتض، ومن الواضح أ نّه لا يجوز رفع اليد عن التكليف بلا سبب يقتضي رفعه، فالمقتضي ـ وهو المزاحمة ـ في المقام لا يقتضي إلاّ رفع اليد عن ثبوت كل منهما على تقدير الاتيان بالآخر لا مطلقاً، وهذا عبارة اُخرى عن ثبوت كل منهما على تقدير ترك الآخر، ويترتب على ذلك أنّ المكلف مخيّر بين امتثال هذا وامتثال ذاك.
وأمّا إذا كان أحدهما محتمل الأهمّية دون الآخر، ففي مثل ذلك لا شبهة في أنّ الاتيان بالطرف المحتمل أهمّيته يوجب القطع بسقوط التكليف عن الطرف الآخر، وذلك لأنّ ما أتى به على تقدير كونه أهم في الواقع ونفس الأمر فهو الواجب دون غيره، وعلى تقدير كونه مساوياً له فهو مصداق للواجب لا محالة.
وإن شئت قلت: إنّه بناءً على التخيير العقلي عند تزاحم الواجبين المتساويين والالتزام بالترتب من الجانبين إذا علم أهمّية أحدهما دون الآخر، فقد علمنا بسقوط الاطلاق عن الآخر، وباشتراطه بعدم الاتيان بمتعلق الأوّل، وأمّا ما يحتمل أهمّيته فلم يحرز سقوط إطلاقه فلا بدّ من الأخذ به. وهذا هو أساس تقديم محتمل الأهمّية على غيره في مقام المزاحمة. إلى هنا قد تمّ بيان ما أفاده (قدس سره) مع توضيح منّا.
ونناقش ما أفاده (قدس سره) من ناحيتين:
الاُولى: أ نّه لا تظهر الثمرة فيما نحن فيه بين القول بالتخيير الشرعي في المتساويين، والقول بالتخيير العقلي فيهما على وجهة نظره (قدس سره) (1) في
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 3: 507.

ــ[84]ــ

مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين، حيث إنّه (قدس سره) قد التزم في تلك المسألة بالاحتياط، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة على ما نطق به كلامه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وبما أنّ مسألتنا هذه على الفرض الأوّل داخلة في كبرى تلك المسألة، فلا مناص له من الالتزام بالاحتياط فيها، ولزوم الأخذ بالطرف المحتمل أهمّيته، وعليه فالنتيجة على هذا القول بعينها هي النتيجة على القول بالتخيير العقلي، وهي تعين الأخذ بالطرف المحتمل أهمّيته دون الطرف الآخر، فاذن لا فرق بين القولين من هذه الناحية أصلاً.
الثانية: أنّ المـقام على القول المزبور ـ أعني القول بالتخـيير الشرعي في المتساويين ـ وإن كان داخلاً في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين، إلاّ أنّ التعيين والتخيير في خصوص المقام حيث إنّهما كانا في مقام التزاحم والامتـثال، فلا مناص من الالتزام بعدم جريان البراءة عن التعـيين ووجوب الأخذ به، وإن قلنا بجريان البراءة في تلك الكبرى، كما فصّلنا الكلام من هذه الناحية في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين (1).
وتوضيح ذلك: هو أنّ مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الحجية وإنشائها في مرحلة التشريع والاعتبار، كما لو شككنا في أنّ حجية فتوى الأعلم هل هي تعيينية، أو أنّ المكلف مخير بين الأخذ بها والأخذ بفتوى غير الأعلم.
الثاني: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال والفعلية من
ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 2: 519.

ــ[85]ــ

جهة التزاحم.
الثالث: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع، فلا يعلم أنّ التكليف مجعول للجامع بلا أخذ خصوصية فيه أو مجعول لحصة خاصة منه، كما لو شككنا في أنّ وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة هل هو تعييني أو تخييري.
وبعد ذلك نقول: إنّا قد ذكرنا في غير مورد أنّ البراءة لا تجري في القسمين الأوّلين، ولا بدّ فيهما من الالتزام بوجوب الاحتياط، وأمّا في القسم الأخير فالصحيح هو جريان البراءة فيه، فها هنا دعويان:
الاُولى: عدم جريان أصالة البراءة في القسمين الأوّلين.
الثانية: جريان البراءة في القسم الأخير.
أمّا الدعوى الاُولى: فقد ذكرنا غير مرّة أنّ الشك في حجية شيء في مقام الجعل والتشريع مساوق للقطع بعدم حجيته فعلاً، ضرورة أ نّه مع هذا الشك لا يمكن ترتيب آثار الحجة عليه، وهي إسناد مؤداه إلى الشارع، والاستناد إليه في مقام الجعل، للقطع بعدم جواز ذلك، لأ نّه تشريع محرّم، ومن المعلوم أ نّا لا نعني بالحجية الفعلية إلاّ ترتيب تلك الآثار عليها، وعليه فاذا دار الأمر بين حجية شيء كفتوى الأعلم مثلاً تعييناً، وحجيته تخييراً، فلا مناص من الأخذ به، وطرح الطرف الآخر، للقطع بحجيته واعتباره فعلاً، إمّا تعييناً أو تخييراً، والشك في حجية الآخر كفتوى غير الأعلم واعتباره، وقد عرفت أنّ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها، وهذا واضح.
وكذا الحال في مقام الامتثال، فانّه إذا دار الأمر بين امتثال شيء تعييناً أو تخييراً، فلا مناص من التعيين والأخذ بالطرف المحتمل تعيينه، ضرورة أنّ الاتيان

ــ[86]ــ

به يوجب القطع بالأمن من العقاب واليقين بالبراءة، وذلك لأ نّه على تقدير كونه أهم من الآخر فهو الواجب، وعلى تقدير كونه مساوياً له فهو مصداق للواجب وأحد فرديه، ومن المعلوم أنّ الاتيان به كاف في مقام الامتثال، وهذا بخلاف الطرف الذي لا تحتمل أهمّيته أصلاً، فانّ الاتيان به لا يوجب القطع بالبراءة والأمن من العقاب، لاحتمال أن لايكون واجباً في الواقع أصلاً، وانحصار الوجوب بالطرف الأوّل، ومن الواضح جداً أنّ العقل يستقل في مرحلة الامتثال بلزوم تحصيل اليقين بالبراءة والأمن من العقوبة بقانون أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، وبما أنّ المفروض في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال اشتغال ذمة المكلف بالواجب، فيجب عليه بحكم العقل تحصيل البراءة عنه والأمن من العقوبة، وحيث إنّه لا يمكن إلاّ باتيان الطرف المحتمل أهمّيته، فلا محالة ألزمه العقل بالأخذ به وإتيانه، وهذا معنى حكم العقل بالتعيين وعدم جواز الرجوع إلى البراءة في مسألة التعيين والتخيير في مرحلة الامتثال والفعلية.
وبتعبير واضح: أنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال والفعلية منحصر بباب التزاحم بين التكليفين لا غير، ومن الواضح أنّ المزاحمة بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب لا تقتضي إلاّ سقوط إطلاق أحدهما إذا كان في البين ترجيح، وسقوط إطلاق كليهما إذا لم يكن ترجيح في البين.
وعلى هذا الأساس أ نّه إذا كان أحد التكليفين المتزاحمين معلوم الأهمّية فلا إشكال في تقديمه على الآخر كما سبق، وأمّا إذا كان أحدهما محتمل الأهمّية دون الآخر فيدور أمر المكلف بين الاتيان به والاتيان بالطرف الآخر، ولكنه إذا أتى به مأمون من العقاب، ومعذور في ترك الآخر، وذلك لأنّ جواز الاتيان بهذا الطرف معلوم على كل تقدير، أي سواء أكان أهم في الواقع أم كان مساوياً

ــ[87]ــ

له، وبالطرف الآخر غير معلوم، ومن الواضح جداً أنّ العقل يلزم بامتثال هذا الطرف وإتيانه، لأ نّه يوجب الأمن من العقاب على كل تقدير، وحصول القطع بالبراءة، دون الاتيان بذاك الطرف، لاحتمال أ نّه غير واجب في الواقع، وانحصار الوجوب بالطرف المزبور، ومعه لا يكون الاتيان به موجباً لحصول القطع بالبراءة، وقد عرفت أنّ همّ العقل في مقام الامتثال تحصيل الأمن من العقوبة والقطع بالفراغ.
ونظير المقام ما إذا شكّ في البراءة من جهة الشك في القدرة على الامتثال، كما إذا شكّ في وجوب النفقة من جهة الشك في وجود المال عنده، وأ نّه قادر على دفعها أم لا، فلا يمكن له أن يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوبها، وذلك لأنّ المفروض أنّ ذمته قد اشتغلت بوجوب النفقة، ومن الواضح أنّ الاشتغال اليقيـني يقتضي الفراغ اليقيـني، فاذن لا يمكن حصول البراءة إلاّ بالفحـص والاستعلام عن وجود المال عنده، والوجه فيه هو أنّ مجرد احتمال كونه عاجزاً عن امتثال التكليف الثابت على ذمته لا يكون عذراً له في تركه وعدم امتثاله عند العقل ما لم يحرز عجزه عنه وعدم قدرته عليه، ضرورة أنّ ترك امتثال التكليف لا بدّ أن يستند إلى مؤمّن، ومن المعلوم أنّ مجرد احتمال العجز لا يكون مؤمّناً، فاذن لا مناص من الأخذ بالاحتياط.
فقد تحصّل مما ذكرناه: أ نّه بناءً على وجهة نظرنا أيضاً لا تظهر الثمرة بين القول بالتخيير الشرعي في المتساويين، والقول بالتخيير العقلي فيهما، فعلى كلا القولين لا مناص من الاحتياط والأخذ بالطرف المحتمل أهمّيته، غاية الأمر بناءً على التخيير العقلي سقوط أحد الاطلاقين معلوم وسقوط الآخر مشكوك فيه، ومع الشك لا بدّ من الأخذ به، وبناءً على التخيير الشرعي سقوط أحد التكليفين معلوم وسقوط الآخر مشكوك فيه، وما لم يثبت سقوطه لا يعذر من

ــ[88]ــ

مخالفته، ولكن النتيجة واحدة.


وأمّا الدعوى الثانية: وهي جريان البراءة في القسم الأخير من الأقسام المتقدمة، فلأنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في كيفية جعل التكليف، وأ نّه تعلق بالجامع أو بخصوص فرد خاص، كما لو شككنا في أنّ وجوب كفارة الإفطار العمدي في شهر رمضان متعلق بالجامع بين صوم شهرين متتابعين وإطعام ستّين مسكيناً، أو متعلق بخصوص صوم شهرين، وحيث إنّ مرجع ذلك إلى الشك في إطلاق التكليف وعدم أخذ خصوصية في متعلقه، وتقييده بأخذ خصوصية فيه، والإطلاق والتقييد على ما ذكرناه وإن كانا متقابلين بتقابل التضاد، إلاّ أنّ التقييد بما أنّ فيه كلفة زائدة فهي مدفوعة بأصالة البراءة عقلاً ونقلاً، وهذا بخلاف الاطلاق حيث إنّه ليس فيه أيّة كلفة لتدفع بأصالة البراءة، فإذن ينحل العلم الاجمالي بجريان الأصل في أحد طرفيه دون الآخر، وتفصيل الكلام في ذلك في بحث البراءة والاشتغال(1) والغرض من التعرّض هنا الاشارة إلى عدم صحة ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الأخذ بالاحتياط في دوران الأمر بين التعيين والتخيير مطلقاً.
وأمّا المقام الثاني: وهو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان متساويين ولم تحتمل أهمّية أحدهما على الآخر أصلاً، أو احتملت أهمّية كل منهما بالاضافة إلى الآخر، فلا مناص من الالتزام بالتخيير فيه، ضرورة أ نّه لا يجوز رفع اليد عن كليهما معاً فهذا لا كلام فيه، وإنّما الكلام في أنّ هذا التخيير عقلي أو شرعي.
ــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 1: 520.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net