جريان استصحاب عدم الاتيان لاثبات الفوت 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4969


وقد تحصّل مما ذكرناه عدّة اُمور:
الأوّل: أنّ التقييد ـ سواء أكان بمتصل أم بمنفصل ـ ظاهر في التقييد من الأوّل، وأنّ مراد المولى هو المقيد لا غيره، وحمله على تعدد المطلوب لا يمكن بلا قرينة تدل عليه من داخلية أو خارجية.
الثاني: أنّ لازم ذلك هو كون مقتضى القاعدة سقوط الواجب بسقوط وقته.
الثالث: أنّ نتيجة هذين الأمرين هو كون القضاء بأمر جديد، وليس تابعاً للأداء، كما هو واضح.
ثمّ إنّه فيما ثبت فيه وجوب القضاء كالصلاة والصوم ونحوهما إذا خرج الوقت وشكّ المكلف في الاتيان بالمأمور به في وقته، فهل يمكن إثبات الفوت باستصحاب عدم الاتيان به أم لا ؟
وجهان مبنيان على أنّ المتفاهم العرفي من هذه الكلمة ـ أعني كلمة الفوت ـ هل هو أمر عدمي، الذي هو عبارة عن عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت، أو أمر وجودي ملازم لهذا الأمر العدمي لا أ نّه عينه ؟ فعلى الأوّل يجري استصحاب عدم الاتيان به في الوقت، إذ به يثبت ذلك العنوان ويترتب عليه حكمه وهو وجوب القضاء في خارج الوقت، وعلى الثاني فلا يجري إلاّ على القول بالأصل المثبت، لفرض أنّ الأثر غير مترتب على عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت، بل هو مترتب على عنوان وجودي ملازم له في الواقع وهو عنوان الفوت، ومن المعلوم أنّ إثبات ذلك العنوان باستصحاب عدم الاتيان به من أوضح أنحاء الأصل المثبت ولا نقول به.

ــ[258]ــ

وعلى الجملة: فمنشأ الإشكال في المقام الاشكال في أنّ عنوان الفوت الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب القضاء هل هو أمر وجودي عبارة عن خلوّ الوقت عن الواجب، أو هو أمر عدمي عبارة عن عدم الاتيان به في الوقت ؟
والصحيح هو أ نّه عنوان وجودي، وذلك للمتفاهم العرفي، ضرورة أ نّه بنظرهم ليس عين الترك، بل هو بنظرهم عبارة عن خلوّ الوقت عن الفعل وذهاب الواجب من كيس المكلف، مثلاً المتفاهم عرفاً من قولنا: فات شيء من زيد، هو الأمر الوجودي ـ أعني ذهاب شيء من كيسه ـ لا الأمر العدمي وهذا واضح، فعلى هذا الضوء لا يمكن إثباته بالاستصحاب المزبور ولا أثر له بالاضافة إليه أصلاً، وعليه فيرجع إلى أصالة البراءة. هذا فيما إذا اُحرز أنّ عنوان الفوت أمر وجودي أو عدمي. وأمّا إذا لم يعلم ذلك وشكّ في أ نّه أمر وجودي ملازم لعدم الفعل في الوقت أو أ نّه نفس عدم الفعل، فهل يمكن التمسك بالاستصحاب المزبور لاثبات وجوب القضاء في خارج الوقت أم لا ؟
الصحيح بل المقطوع به عدم إمكان التمسك به، والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ المكلف لم يعلم أنّ المتيقن ـ وهو عدم الاتيان بالواجب في الوقت ـ هو الموضوع للأثر في ظرف الشك، أو الموضوع للأثر شيء آخر ملازم له خارجاً، فإذن لم يحرز أنّ رفع اليد عنه ـ أي عن المتيقن السابق ـ من نقض اليقين بالشك، ومعه لا يمكن التمسك باطلاق قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» (1) لكون الشبهة مصداقية.
بقي هنا شيء، وهو أنّ المكلف لو شكّ في أثناء الوقت أ نّه صلّى في أوّل الوقت أم لا، فمقتضى قاعدة الاشتغال هو لزوم الاتيان بالصلاة، لأنّ الاشتغال
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 1: 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.

ــ[259]ــ

اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، ولكنّ المكلف إذا لم يأت بها إلى أن خرج الوقت ففي هذا الفرض اتّفق الفقهاء على وجوب قضائها في خارج الوقت، مع أنّ مقتضى ما ذكرناه من أنّ استصحاب عدم الاتيان بها في الوقت لا يثبت عنوان الفوت، عدم وجوب القضاء، لفرض أنّ عنوان الفوت في نفسه غير محرز هنا، واستصحاب عدم الاتيان بها في الوقت لا يجدي.
والجواب عن هذا ظاهر، وهو أنّ الشك في المقام بما أ نّه كان قبل خروج الوقت، فلا محالة يكون مقتضى قاعدة الاشتغال والاستصحاب وجوب الاتيان بها، وعلى ذلك فلا محالة إذا لم يأت المكلف به في الوقت فقد فوّت الواجب، ومعه لا محالة يجب قضاؤه لتحقق موضوعه وهو عنوان الفوت، وهذا بخلاف ما إذا شكّ المكلف في خارج الوقت أ نّه أتى بالواجب في وقته أم لا، ففي مثل ذلك لم يحرز أ نّه ترك الواجب فيه ليصدق عليه عنوان الفوت، والمفروض أنّ استصحاب عدم الاتيان به غير مجد، وهذا هو نقطة الفرق بين ما إذا شكّ المكلف في إتيان الواجب في الوقت وما إذا شكّ في إتيانه في خارج الوقت.
نتائج هذا البحث عدّة اُمور:
الأوّل: أ نّه لا إشكال في إمكان الواجب الموسّع والمضيّق، بل في وقوعهما خارجاً، وما ذكر من الاشكال على الواجب الموسّع تارةً وعلى المضيّق تارة اُخرى مما لا مجال له، كما تقدّم بشكل واضح.
الثاني: أنّ ما ذكر من التفصيل بين ما كان الدليل على التوقيت متصلاً وما كان منفصلاً، فقد عرفت أ نّه لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً، وقد ذكرنا أ نّه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة من هذه الناحية أبداً، فكما أنّ الاُولى تدل على التقييد من الأوّل وعلى وحدة المطلوب، فكذلك الثانية كما سبق.

ــ[260]ــ

الثالث: أنّ الصحيح ما ذكرناه من أنّ التقييد بالوقت إذا كان بدليل متصل فيدل على أنّ الواجب هو حصة خاصة من طبيعي الفعل، وهي الحصة الواقعة في زمان خاص، وأمّا إذا كان بدليل منفصل، فإن كان له إطلاق بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه، فيقيّد به إطلاق دليل الواجب مطلقاً، لحكومة إطلاق دليل المقيد على إطلاق دليل المطلق، وإن لم يكن له إطلاق، فيقيد دليله في حال التمكن فحسب، وفي حال عدمه نتمسّك باطلاق دليل الواجب لاثبات وجوبه في خارج الوقت.
الرابع: أنّ مقتضى القاعدة هو سقوط الواجب بسقوط وقته، إلاّ فيما قامت قرينة على خلاف ذلك.
الخامس: أنّ الثمرة تظهر بين القول بكون القضاء تابعاً للأداء والقول بكونه بأمر جديد فيما إذا شكّ بعد خروج الوقت في الاتيان بالمأمور به وعدمه، أو في صحة المأتي به في الوقت وعدم صحته إذا لم يكن هناك أصل مقتض للصحة كقاعدة الفراغ أو نحوها، فانّه على الأوّل المرجع قاعدة الاشتغال وعلى الثاني قاعدة البراءة، كما تقدّم.
السادس: أنّ الصحيح هو القول بكون القضاء بأمر جديد وليس تابعاً للأداء، فانّه خلاف ظاهر دليل التقييد، فلا يمكن الالتزام به إلاّ فيما قامت قرينة عليه.
السابع: أ نّه لا يمكن إثبات الفوت الذي علّق عليه وجوب القضاء باستصحاب عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت إلاّ على القول بالأصل المثبت كما سبق.

 
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net