وعلى الجملة: فهذا التفصيل يبتني على أحد أمرين: الأوّل: دعوى أنّ تلك الأعراض من مشخّصات الأفراد ومقوّماتها، وعليه فلا محالة الأمر المتعلق بالأفراد متعلق بها أيضاً. الثاني: دعوى سراية النهي المتعلق بالأفراد إلى ما ينطبق عليه المأمور به. ولكن قد عرفت أنّ كلتا الدعويين خاطئة وغير مطابقة للواقع، فإذن لا مجال لهذا التفصيل أصلاً. وقد يتوهّم أنّ النزاع في المسألة يبتني على النزاع في مسألة أصالة الوجود أو الماهية، فإن قلنا في تلك المسألة بأصالة الوجود فلا مناص في هذه المسألة من القول بالامتناع، وإن قلنا في تلك المسألة بأصالة الماهية فلا مانع من الالتزام بالقول بالجواز، بيان ذلك: هو أنّ القائل بأصالة الوجود يدّعي أنّ ما في الخارج هو الوجود، والماهية منتزعة من حدوده، وليس لها ما بازاء فيه أصلاً. والقائل بأصالة الماهية يدّعي أنّ ما في الخارج هو الماهية، والوجود منتزع من إضافة الماهية إلى الموجد، وليس له ما بازاء. وبعد ذلك نقول: إنّه بناءً على أصالة الوجود في تلك المسألة، وأنّ الصادر
ــ[397]ــ
من الموجد هو الوجود لا غيره، فلا محالة يكون هو متعلق الأمر والنهي دون الماهية، لفرض أ نّه لا عين ولا أثر لها في الخارج، وعليه فبما أنّ الوجود في مورد الاجتماع واحد فلايعقل تعلق الأمر والنهي به، ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً ومحبوباً ومبغوضاً في آن واحد، فإذن لا مناص من القول بالامتناع. وأمّا بناءً على أصالة الماهية فلا محالة يكون متعلق الأمر والنهي هو الماهية لفرض انّه على هذا لا عين ولا أثر للوجود، وعليه فبما أنّ الماهية المتعلقة للأمر كالصلاة مثلاً في مورد الاجتماع غير الماهية المتعلقة للنهي كالغصب فلا مانع من القول بالجواز، واجتماع الأمر والنهي، وذلك لأنّ الماهيات متباينات بالذات والحقيقة، فلا يمكن اتحاد ماهية مع ماهية اُخرى، ولا يمكن اندراج ماهيتين متباينتين تحت ماهية واحدة، فإذن في الحقيقة لا اجتماع للأمر والنهي في شيء واحد. ولكن هذا التوهم خاطئ جداً، والوجه في ذلك: هو أ نّه على القول بأصالة الوجود وإن كانت حقيقة الوجود واحدة، إلاّ أنّ لها مراتب عديدة وتتفاوت تلك المراتب بالشدّة والضعف، وكل مرتبة منها تباين مرتبة اُخرى. ومن ناحية اُخرى: أنّ لكل مرتبة منها عرض عريض وأفراد كثيرة. ومن ناحية ثالثة: أنّ لكل وجود ماهية واحدة وحدّ فارد، ويستحيل أن يكون لوجود واحد ماهيتان وحدّان. نعم، وإن أمكن أن يكون لوجود واحد عنوانان أو عناوين متعددة، إلاّ أ نّه لا يمكن أن يكون له ماهيتان وحدّان، ضرورة أنّ لكل ماهية وجوداً واحداً ولا يعقل أن يكون للماهيتين وجود، وهذا واضح. فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث: هي أنّ المجمع في مورد الاجتماع والتصادق إذا كان وجوداً واحداً فلا محالة يكون له ماهية واحدة، وعليه فلا
ــ[398]ــ
فرق بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية، فكما أ نّه على الأوّل يستحيل اجتماع الأمر والنهي، فكذلك على الثاني، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً. نتائج ما ذكرناه عدّة نقاط: الاُولى: أنّ محل النزاع في مسألتنا هذه إنّما هو في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وبالعكس وعدم سرايته، لا ما يوهم عنوان المسألة في كلمات الأصحاب قديماً وحديثاً من كون النزاع فيها كبروياً، لما عرفت من عدم تعقل كون النزاع فيها كذلك. الثانية: أ نّه قد تقدّم أنّ القول بالامتناع يبتني على أحد أمرين: الأوّل: أن يكون المجمع في مورد الاجتماع واحداً، فإذا كان واحداً وجوداً وماهيةً لا مناص من القول بالامتناع. الثاني: أ نّه على تقدير كون المجمع متعدداً أن يلتزم بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر، وعند منع أحدهما ينتفي القول بالامتناع. والقول بالجواز يرتكز على أمرين: الأوّل: أ نّه أن لا يكون المجمع واحداً وإلاّ فلا مجال له. الثاني: أ نّه على تقدير كونه متعدداً لانقول بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر، وعند انتفاء أحد الأمرين ينتفي القول بالجواز. الثالثة: أنّ المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض فتقع المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد بابه وإجراء أحكامه كما تقدّم، وعلى القول بالجواز تدخل في كبرى باب التزاحم، فتقع المزاحمة بينها إذا لم تكن مندوحة في البين، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى
ــ[399]ــ
قواعد باب المزاحمة وإجراء أحكامه. الرابعة: أنّ نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة الآتية ـ وهي مسألة النهي في العبادات ـ هي أنّ البحث في مسألتنا هذه بحث عن تنقيح الصغرى لتلك المسألة باعتبار أ نّها على القول بالامتناع تدخل في كبرى تلك المسألة وتكون من إحدى صغرياتها. الخامسة: أنّ المراد من الواحد في محل الكلام في مقابل المتعدد، بأن لايكون ما تعلق به الأمر غير ما تعلق به النهي، لا في مقابل الكلّي. السادسة: قد تقدّم أنّ مسألتنا هذه من المسائل الاُصولية العقلية، لتوفر شروط المسألة الاُصولية فيها، وليست من المسائل الكلامية أو الفقهية أو من المبادئ الأحكامية أو التصديقية كما مرّ. السابعة: أنّ النزاع في المسألة في جواز الاجتماع أو امتناعه لا يبتني على وجود المندوحة في البين، لما عرفت من أنّ كلاً من القول بالجواز والامتناع يرتكز على ركيزة أجنبية عن وجود المندوحة وعدم وجودها بالكلّية ـ وهي وحدة المجمع وتعدده ـ فانّ المجمع في مورد الاجتماع والتصادق إذا فرض أ نّه واحد حقيقة فلا مناص من القول بالامتناع، كانت هناك مندوحة أم لم تكن، وإذا فرض أ نّه متعدد كذلك فلا مناص من القول بالجواز، بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم وهو متعلق النهي إلى لازمه، وهو ما ينطبق عليه متعلق الأمر. الثامنة: قد سبق أنّ النزاع يعمّ جميع أنواع الايجاب والتحريم ما عدا الايجاب والتحريم التخـييريين، فلا فرق بين كونهما نفسـيين أو غيريين أو كفائيين، فانّ ملاك استحالة الاجتماع في شيء واحد موجود في الجميع. وأمّا خروج الايجاب والتحريم التخييريين عن محل النزاع فلعدم إمكان اجتماعهما في
ــ[400]ــ
شيء واحد، كما عرفت فتكون السالبة بانتفاء الموضوع. التاسعة: أنّ النزاع في المسألة لا يختص بما إذا كان الايجاب والتحريم مدلولين لدليل لفظي، ضرورة أ نّه يعمّ جميع أقسام الايجاب والتحريم، سواء أكانا مدلولين لدليل لفظي أم لم يكونا. العاشرة: أنّ مسـألتنا هذه من المسائل العقلية، فانّ الحاكم بالجواز أو الامتناع فيها إنّما هو العقل، ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً، غاية الأمر أ نّها من العقليات غير المستقلة، وليست من العقليات المستقلة، كما تقدّم. الحادية عشرة: أ نّه لا فرق في جريان النزاع في المسألة بين القول بتعلق الأحكام بالطبائع وتعلقها بالأفراد، وتوهّم أ نّه على تقدير تعلقها بالأفراد لا مناص من القول بالامتناع فاسد، لما سبق بشكل واضح.
|