ومن هنا يظهر فساد ما ذكر في الفصول (1) أيضاً من ابتناء القول بالجواز والامتناع على تعدد وجود الجنس والفصل وعدمه، بدعوى أنّ مورد الأمر إذا كان الماهية الجنسية، ومورد النهي الماهية الفصلية، فإن كانت الماهيتان متحدتين في الخارج وموجودتين بوجود واحد، فلا مناص من القول بالامتناع، وإن كانتا متعددتين فيه بحسب الوجود فلا مناص من القول بالجواز. وجه الظهور: ما عرفت آنفاً من أنّ ماهية الصلاة وماهية الغصب ليستا من الماهيات الحقيقية المقولية لتكون إحداهما جنساً والاُخرى فصلاً، بل هما من المفاهيم الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج أصلاً ليقال إنّهما موجودتان فيه بوجود واحد أو بوجودين. ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ ماهية الصلاة وماهية الغصب من الماهيات الحقيقية المقولية، إلاّ أنّ من الواضح جداً أنّ ماهية الصلاة ليست جنساً وماهية الغصب ليست فصلاً مقوّماً لها، ضرورة أنّ الماهية الفصلية لا تنفك عن الماهية الجنسية، فانّ نسبتها إليها نسبة الصورة إلى المادة، ومن المعلوم استحالة انفكاك الصورة عن المادة، مع أنّ الغصب ينفك عن الصلاة بكثير، بحيث إنّ ـــــــــــــــــــــ (1) الفصول الغرويّة: 125.
ــ[448]ــ
نسبة مادة اجتماعهما إلى مادة افتراقهما نسبة الواحد إلى الاُلوف، وعليه فكيف يكون الغصب فصلاً والصلاة جنساً له، كما أنّ توهم كون الحركة في مورد الاجتماع بما هي حركة جنساً والصلاتية والغصبية فصلان لها واضح الفساد، وذلك لاستحالة أن يكون لشيء واحد فصلان مقوّمان، فانّ فعلية الشيء إنّما هي بفصله وصورته، ومن الواضح أ نّه لا يعقل أن يكون لشيء واحد صورتان. على أ نّك عرفت أنّ مفهوم الصلاة والغصب من المفاهيم الانتزاعية، ومن الطبيعي أنّ المفهوم الانتزاعي لا يصلح أن يكون فصلاً، كيف فانّ فعلية الشيء ووجوده إنّما هي بفصله، والمفروض أنّ الأمر الانتزاعي لا وجود له في الخارج، ومعه لا يعقل كونه فصلاً. فالنتيجة: هي أ نّه لا أصل لابتناء القول بالجواز والامتناع في هذه المسألة على كون التركيب بين الجنس والفصل هل هو اتحادي أو انضمامي، ضرورة أ نّه لا صلة لإحدى المسـألتين بالاُخرى أبداً. على أ نّه لا إشكال في كون التركيب بينهما اتحادياً. نعم، قد يقال: إنّ الأمر لو تعلق بالجنس في مقام والنهي تعلق بالفصل، يبتني القول بالجواز والامتناع على كون التركيب بينهما اتحادياً أو انضمامياً، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع، لاستحالة اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد، وعلى الثاني فلا مانع من القول بالجواز، لفرض أنّ متعلق الأمر عندئذ غير متعلق النهي وإن كانا متلازمين في مورد الاجتماع بحسب الوجود الخارجي، ويحتمل أن يكون غرض المحقق صاحب الفصول (قدس سره) أيضاً ذلك، لا أنّ غرضه هو أنّ الأمر في خصوص الصلاة والغصب كذلك، وكيف كان فهذا أيضاً غير تام، وذلك لأنّ المسألة على هذا الشكل تدخل في كبرى
ــ[449]ــ
مسألة المطلق والمقيد، فيجري عليهما أحكامها من حمل المطلق على المقيد. هذا مضافاً إلى أنّ الجنس والفصل متحدان في الخارج وموجودان بوجود واحد، فلا يعقل أن يكونا موجودين بوجودين فيه. وبعد ذلك نقول: إنّ النتيجة على ضوء هذه هي أ نّه لا مناص من القول بالامتناع، لفرض أنّ الأحكام متضادة فلايمكن اجتماع اثنين منها في شيء واحد بمقتضى المقدّمة الاُولى، ولفرض أنّ المجمع في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهيةً بمقتضى المقدّمة الثانية والثالثة والرابعة. ثمّ ذكر أ نّه قد يتوهّم أنّ محذور اجتماع الضدّين في شيء واحد يرتفع على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد، ببيان أنّ الطبائع من حيث هي هي التي ليست إلاّ ذاتها وذاتياتها وإن كانت غير قابلة لأن تتعلق بها الأحكام الشرعية، إلاّ أ نّها مقيدة بالوجود الخارجي ـ على نحو كان القيد وهو الوجود خارجاً والتقيد به داخلاً ـ قابلة لأن تتعلق بها الأحكام، وعلى هذا فلا يكون متعلقا الأمر والنهي متحدين أصلاً، لا في مقام تعلق الأمر والنهي، ولا في مقام عصيان النهي وإطاعة الأمر باتيان المجمع بسوء الاختيار. أمّا في المقام الأوّل: فلتعدد متعلقهما بما هما متعـلقان وإن كانا متحدين في الوجود، إلاّ أ نّك عرفت أنّ الوجود قيد خارج عن المتعلق والتقيد به داخل. وأمّا في المقام الثاني: فلسقوط أحدهما بالاطاعة والآخر بالعصيان، إذن فلا اجتماع بين الحكمين في واحد. ولكن هذا التوهّم خاطئ، وذلك لما سـبق(1) من أنّ مورد الحكم إنّما هو فعل المكلف بواقعه وحقيقته الصادرة منه، لا بعنوانه العارض عليه، وقد عرفت ـــــــــــــــــــــ (1) في ص 442.
ــ[450]ــ
أنّ الفعل في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهيةً، وأنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدده، والمفروض أنّ الصلاة والغصب ليستا من الماهيات الحقيقية المقولية لتكونا متعلقتين للأمر والنهي، بل هما من المفاهيم الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج، وإنّما تؤخذ في متعلقات الأحكام بما هي حاكيات وإشارات إلى ما هو المتعلق في الواقع، لا بما هي على حيالها واستقلالها، هذا تمام ما أفاده (قدس سره) في وجه القول بالامتناع، ولعلّه أحسن ما قيل في المقام. ولنأخذ بالنقد على بعض تلك المقدّمات وبذلك تبطل النتيجة التي أخذها (قدس سره) من هذه المقدّمات، وهي القول بالامتناع مطلقاً، بيان ذلك: أمّا المقدّمة الاُولى: فقد ذكرنا غير مرّة أنّ حديث تضاد الأحكام بعضها مع بعضها الآخر في نفسها وإن كان أمراً معروفاً بين الأصحاب قديماً وحديثاً، إلاّ أ نّه مما لا أصل له، وذلك لما حققناه من أنّ الأحكام الشرعية اُمور اعتبارية فلا واقع لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، ومن الواضح جداً أ نّه لا مضادة بين نفس اعتباري الوجوب والحرمة ذاتاً، بداهة أ نّه لا تنافي بين نفس اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف وبين اعتباره محرومية المكلف عنه بالذات، مع قطع النظر عن مبدئهما ومنتهاهما، فانّ الاعتبار خفيف المؤونة، فلا مانع من اعتبار وجوب شيء وحرمته معاً، والوجه في ذلك: هو أنّ المضادة إنّما تكون طارئة على الموجودات التكوينية الخارجية كالبياض والسواد والحركة والسكون وما شاكل ذلك ومن صفاتها، وأمّا الاُمور الاعتبارية فالمفروض أ نّه لا واقع لها ما عدا اعتبار المعتبر، ليكون بعضها مضاداً مع بعضها الآخر. نعم، المضادة بين الأحكام من ناحيتين: الاُولى: من جهة المبدأ، أعني اشتمال الفعل على المحبوبية والمبغوضية.
ــ[451]ــ
الثانية: من جهة المنتهى، أعني مرحلة الامتثال والاطاعة. أمّا من ناحية المبدأ: فلأنّ الوجوب والحرمة بناءً على وجهة نظر مذهب العدلية كاشفان عن المحبوبية والمبغوضية في متعلقه، وعليه فلا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد، وذلك لاستحالة أن يكون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً معاً، فمن هذه الناحية لايمكن اجتماعهما في شيء واحد وفي زمان فارد لا بالذات والحقيقة. فالنتيجة أنّ المضادة بين الوجوب والحرمة إنّما هي بالعرض والمجاز، فانّها في الحقيقة بين المحبوبية والمبغوضية والمصلحة الملزمة والمفسدة كذلك، كما هو واضح. وأمّا من ناحية المنتهى: فلأنّ اجتماعهما في شيء واحد يستلزم التكليف بالمحال وبغير المقدور، لفرض أنّ المكلف في هذا الحال غير قادر على امتثال كليهما معاً. وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ المضادة بين الأحكام الشرعية إنّما هي في مرتبة فعليتها وبلوغها حدّ البعث والزجر، مبني على نقطة واحدة وهي أن تكون الأحكام من قبيل الأعراض الخارجية، فكما أنّ المضادة بين الأعراض إنّما كانت في مرتبة فعليتها ووجودها في الخارج، لوضوح أ نّه لا مضادة بين السواد والبياض قبل فعليتهما ووجودهما فيه... وهكذا، فكذلك المضادة بين الأحكام الشرعية إنّما تكون في مرتبة فعليتها ووجوداتها في الخارج، فلا مضادة بين الوجوب والحرمة قبل وجودهما فيه وبلوغهما حدّ البعث والزجر. ولكن تلك النقطة خاطئة جداً، وذلك لأنّ الأحكام الشرعية ليست من سنخ الأعراض الخارجية لتكون المضادة بينها في مرتبة فعليتها ووجوداتها في الخارج، لما ذكرناه من أنّ المضادة صفة عارضة على الموجودات الخارجية،
ــ[452]ــ
فلا مضادة بينها قبل وجوداتها، بل هي من الاُمور الاعتبارية التي ليس لها واقع موضوعي، وقد تقدّم أ نّه لا مضادة بينها بالذات والحقيقة، والمضادة بينها إمّا من ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهى. أمّا من ناحية المبدأ، فالمضادة بينها إنّما هي في مرتبة جعلها، فلا يمكن جعل الوجوب والحرمة على شيء واحد، ومن الواضح أنّ المضادة في هذه المرتبة لا تتوقف على فعليتهما وبلوغهما حدّ البعث والزجر، ضرورة أنّ المضادة بين نفس الجعلين، فلا يمكن تحقق كليهما معاً. وأمّا من ناحية المنتهى، فالمضادة بينها وإن كانت في مرتبة فعليتها، إلاّ أ نّها بالعرض والمجاز، فانّها ناشئة عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينها في مقام الامتثال وإلاّ فلا مضادة بينها أصلاً. وعلى الجملة: فجعل الوجوب والحرمة لشيء واحد وجوداً وماهيةً مستحيل على جميع المذاهب والآراء، بداهة أنّ استحالة اجتماع الضدّين في شيء واحد لا تختص بوجهة نظر دون آخر، ولا تتوقف استحالة ذلك على فعليتهما أبداً وهذا ظاهر. فما أفاده (قدس سره) من أنّ التضاد بين الأحكام إنّما هو في مرتبة فعليتها دون مرتبة الانشاء لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً كما لا يخفى. وأمّا المقدّمة الثانية: فالأمر كما أفاده (قدس سره) من أنّ الأحكام لاتتعلق بالعناوين الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج بحيالها واستقلالها. نعم، تؤخذ تلك العناوين في متعلقات الأحكام لا بما هي هي، بل بما هي معرّفة ومشيرة إلى ما هو المتعلق في الواقع، كما أ نّها لا تتعلق بالأسماء والألفاظ كذلك، وإنّما تتعلق بطبيعي الأفعال الصادرة عن المكلفين في الخارج. وأمّا المقدّمة الرابعة: فالأمر أيضاً كما أفاده (قدس سره) والوجه فيه ما تقدّم من استحالة أن يكون لشيء واحد ماهيتان في عرض واحد أو حدّان
ــ[453]ــ
كذلك. نعم، يمكن أن يكون له ماهيات طولاً باعتبار أجناسه العالية والمتوسطة والقريبة، ولكن لا يمكن أن يكون له ماهيتان نوعيتان عرضاً، فانّ لازم ذلك هو أن يكون شيء واحد متفصّلاً بفصلين يكون كل منهما مقوّماً له، ومن الواضح استحالة ذلك كاسـتحالة دخول شيء تحت مقولتين من المقولات العشرة، ضرورة أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة، فيستحيل اندراج مقولتين منها تحت مقولة واحدة، كما أ نّه يستحيل أن يكون شيء واحد مندرجاً تحت مقولتين منها، فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن: أ نّه كما يستحيل صدق المقولتين على شيء واحد كذلك يستحيل تفصّل شيء واحد بفصلين ولو كانا من مقولة واحدة.
|