هل الركوع والسجود تصرف زائد في المكان المغصوب؟ - تفصيل النائيني بين حكم العقل والعرف 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5816

هذا، وأمّا شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) فقد سلّم أنّ الأمر كذلك بنظر العرف ولم يكن كذلك بنظر العقل، فله (قدس سره) هنا دعويان:
الاُولى: أنّ الركوع والسجود تصرف زائد عند العرف.
الثانية: أ نّهما ليسا بتصرف زائد عند العقل.
أمّا الدعوى الاُولى: فاستظهر أنّ الركوع والسجود يعدّان عرفاً من التصرف الزائد، باعتبار أ نّهما مستلزمان للحركة وهي تصرف زائد بنظر العرف، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ العبرة في صدق التصرف الزائد
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 184.

ــ[56]ــ

على مقدار الضرورة بما أ نّها بنظر العرف لا بالدقة الفلسفية، فلا محالة وجب الاقتصار في الصلاة على الايماء والاشارة بدلاً عنهما.
وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ العقل يحكم بأن كل جسم يشغل المكان المغصوب بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق، ومن الواضح جداً أنّ ذلك المقدار لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله، ضرورة أ نّه سواء أكان على هيئة القائم أو القاعد أو الراكع أو الساجد أو ما شاكل ذلك، يشغل مقداراً خاصاً من المكان، وهذا لا يتفاوت زيادةً ونقيصةً بتفاوت تلك الأوضاع والأحوال، وعليه فكونه على هيئة الراكع أو الساجد ليس تصرفاً زائداً بنظر العقل على كونه على هيئة القائم أو القاعد... وهكذا، وهذا واضح.
ونتيجة ما أفاده (قدس سره) هي وجوب الاقتصار على الايماء والاشارة في الصلاة وعدم جواز الاتيان بالركوع والسجود.
ولكنّ الصحيح هو القول الأوّل، والوجـه في ذلك: هو أنّ كل جسم له حجم خاص ومقدار مخصوص كما عرفت يشغل المكان بمقدار حجمه دون الزائد عليه، ومن الطبيعي أنّ مقدار تحيزه وشـغله المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله الهندسية من المثلث والمربع وما شاكلهما، بداهة أنّ نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته وأوضاعه، ولا تختلف تلك النسبة زيادة ونقيصة باختلاف تلك الأوضاع الطارئة عليه، مثلاً إذا اضطرّ الانسان إلى البقاء في المكان المغصوب كما هو مفروض الكلام في المـقام لا يفرق فيه بين أن يكون قائماً أو قاعداً فيه، وأن يكون راكعاً أو ساجداً، فكما أنّ الركوع والسجود تصرّف فيه، فكذلك القيام والقعود، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، بداهة أنّ الركوع والسجود ليسا تصرّفاً زائداً على القيام والقعود لا بنظر العقل ولا العرف، فعندئذ لا وجه للقول

ــ[57]ــ

بوجوب الاقتصار على الايماء بدلاً عنهما.
ودعوى أ نّهما يعدّان بنظر العرف من التصرف الزائد خاطئة جداً، ضرورة أ نّه لا فرق في نظر العرف بين أن يكون الانسان قائماً في الدار المغصوبة أو قاعداً، وبين أن يكون راكعاً أو ساجداً فيها، فكما أنّ الثاني تصرّف فيها بنظره فكذلك الأوّل، وليس في الثاني تصرّف زائد بنظره بالاضافة إلى الأوّل، وهذا لعلّه من الواضحات.
فإذن لا وجه لما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفرقة بين نظر العرف ونظر العقل. ولعل منشأها هو الغفلة عن تحليل نقطة واحدة، وهي عدم الفرق بين كون المكلف في الأرض المغصوبة على هيئة واحدة وكونه على هيئات متعددة، وتخيل أ نّه إذا كان على هيئة واحدة فهو مرتكب لحرام واحد، وإذا كان على هيئات متعددة كأن يكون راكعاً مرّةً وساجداً مرّة اُخرى فهو مرتكب لمحرّمات متعددة، ولأجل ذلك لا محالة وجب الاقتصار فيها على هيئة واحدة، فانّ الضرورة تتقدر بقدرها فلا يجوز ارتكاب الزائد.
ولكن من المعلوم أنّ هذا مجرد خيال لا واقع له أبداً، وذلك لأنّ كون المكلف فيها على هيئة واحدة في كل آن وزمن تصرّف في الأرض ومحرّم، لا أنّ كونه عليها في جميع الآنات والأزمنة تصرّف واحد ومحكوم بحكم واحد، لتكون الحركة فيها تصرفاً زائداً، ومن الواضح جداً أ نّه لا فرق في ذلك بين نظر العقل ونظر العرف، فكما أنّ الكون في الأرض المغصوبة في كل آن تصرّف فيها ومحرّم، بلا فرق بين أن يكون في ضمن هيئة واحدة أو هيئات متعددة بنظر العقل، فكذلك الكون فيها في كل آن تصرّف ومحرّم كذلك بنظر العرف.
وبكلمة اُخرى: أنّ جعل الركوع والسجود تصرفاً زائداً مبني على ما ذكرناه من الخيال الخاطئ، وهو أنّ بقاء الانسان في الأرض المغصوبة على

ــ[58]ــ

حالة واحدة وهيئة فاردة من القيام أو القعود تصرّف واحد بنظر العرف، وأمّا إذا اشتغل بالركوع أو السجود فهو تصرف زائد، غفلةً عن أنّ بقاءه على تلك الحالة الواحدة حرام في كل آن، ضرورة أ نّه في كل آن تصرف في مال الغير بدون إذنه، كما أنّ انتقاله من هذه الحالة والهيئة إلى حالة اُخرى وهيئة ثانية حرام، وليس هذا تصرفاً زائداً على بقائه على الحالة الاُولى، ضرورة أ نّه على الفرض لم يجمع بين الحالتين في مكانين لتكون الحالة الثانية تصرفاً زائداً، غاية الأمر أ نّه تصرّف في الحالة الاُولى في مكان وفي الحالة الثانية في مكان آخر، أو أ نّه تصرّف في كلتا الحالتين في مكان واحد وفضاء فارد، فانّ التصرف في مكان واحد قد يكون بهيئة واحدة ووضع فارد، وقد يكون بهيئات متعددة وأوضاع مختلفة، ومن الطبيعي أنّ تصرّفه في الحالة الثانية وبهيئة اُخرى في مكان آخر أو في نفس المكان الأوّل بمقدار تحيزه في الحالة الاُولى وبالهيئة السابقة دون الزائد، لوضوح أنّ مقدار تحيز الجسم المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله لا عقلاً ولا عرفاً، كما هو واضح.
نعم، لو كان البقاء فيها على حالة واحدة محرّماً بحرمة واحدة في تمام الآنات والأزمنة، لكان الالتزام بما أفاده (قدس سره) مما لا بدّ منه، وعليه فلا بدّ من الحكم بحرمة كل حركة فيها والاقتصار على حالة واحدة في تمام آنات البقاء، ولكن قد عرفت أ نّه مجرد فرض لا واقع له أصلاً.
وعلى ضوء هذا البيان قد تبيّن أ نّه ليست الصلاة مع الركوع والسجود تصرفاً زائداً على الصلاة مع الايماء والاشارة، ومما يشهد على ذلك: أنّ العرف لا يرون أنّ المصلي في الأرض المغصوبة إذا كان على وضع الراكع أو الساجد يكون تصرفه فيها أزيد مما إذا كان على غير هذا الوضع وغير هذا الشكل، كما هو واضح. فالنتيجة أنّ وظيفته هي الصلاة مع الركوع والسجود فيها دون

ــ[59]ــ

الصلاة مع الايماء.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net