مفهوم الغاية 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7090

 

مفهوم الغاية

يقع الكلام فيه في مقامين، الأوّل: في المنطوق. الثاني: في المفهوم.
أمّا المقام الأوّل: فقد اختلف الأصحاب في دخول الغاية في حكم المغيّي وعدم دخولها فيه فيما إذا كانت الغاية غايةً للمتعلق أو الموضوع على وجوه بل أقوال، ثالثها: التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيّي وعدم كونها من جنسه، فعلى الأوّل الغاية داخلة فيه دون الثاني. ورابعها: التفصيل بين كون الغاية مدخولةً لكلمة «حتى» وكونها مدخولةً لكلمة «إلى» فعلى الأوّل هي داخلة في المغيّي دون الثاني.

ــ[282]ــ

وقد قبل هذا التفصيل في الجملة شيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قال: وهذا التفصيل وإن كان حسناً في الجملة لأنّ كلمة «حتى» تستعمل غالباً في إدخال الفرد الخفي في موضوع الحكم فتكون الغاية حينئذ داخلةً في المغيّى لا محالة، لكن هذا ليس بنحو الكلية والعمـوم فلا بدّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه، والحكم فيه بدخول الغاية في حكم المغيّى أو عدمه(1).
ولكنّ الصحيح هو القول الثاني، يعني عدم دخول الغاية في المغيّى مطلقاً، فلنا دعويان، الاُولى: صحة هذا القول. الثانية: بطلان سائر الأقوال.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ المرجع في المقام إنّما هو فهم العرف وارتكازهم، والظاهر أنّ المتفاهم العرفي من القضية المغيّاة بغاية كقولنا: صم إلى الليل وكقوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ا لْمَرَافِقِ)(2) وما شاكلهما هو عدم دخول الغاية في المغيّى إلاّ فيما قامت قرينة على الدخول كما في مثل قولنا: سرت من البصرة إلى الكوفة أو ما شاكل ذلك.
وأمّا الدعوى الثانية: فيظهر مما ذكرناه في الدعوى الاُولى بطلان القول الأوّل والثالث، حيث إنّه لا فرق في فهم العرف كما عرفت بين كون الغاية من جنس المغيّى وعدمه، وكذا القول الرابع بعين هذا الملاك، وأمّا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الفرق في الجملة بين كون الغاية مدخولةً لكلمة «إلى» وكونها مدخولةً لكلمة «حتى» نشأ من الخلط بين مورد استعمال كلمة «حتى» عاطفةً، وموارد استعمالها لافادة كون مدخولها غايةً لما قبلها، فانّها في أيّ مورد من الموارد إذا استعملت لادراج الفرد الخفي كما في مثل قولنا: مات
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 279.
(2) المائدة 5: 6.

ــ[283]ــ

لناس كلّهم حتى الأنبياء، لا تدل على كون ما بعدها غايةً لما قبلها، بل هي من أدوات العطف. فالنتيجة: أنّ مقتضى الظهور العرفي والارتكاز الذهني عدم دخول الغاية في المغيّى، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني: فالغاية قد تكون غايةً للموضوع كما في مثل قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ا لْمَرَافِق)(1) وقد تكون غايةً للمتعلق كقوله تعالى: (أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)(2). وقد تكون غايةً للحكم كقوله (عليه السلام): «كل شيء لك حلال حتى تعلم أ نّه حرام»(3) وقوله (عليه السلام): «كل شيء نظيف حتى تعلم أ نّه قذر»(4) أو كقولنا: يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلف إليه، فانّ الغاية في أمثال هذه الموارد غاية للحكم دون المتعلق أو الموضوع. وأمّا إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فدلالتها على المفهوم ترتكز على دلالة الوصف عليه، حيث إنّ المراد من الوصف كما عرفت مطلق القيد الراجع إلى الموضوع أو المتعلق، سواء أكان وصفاً اصطلاحياً أو حالاً أو تمييزاً أو ظرفاً أو ما شاكل ذلك، وعليه فالتقييد بالغاية من إحدى صغريات التقييد بالوصف.
وأمّا إذا كانت غاية للحكم فالكلام فيها تارةً يقع في مقام الثبوت، واُخرى في مقام الاثبات.
أمّا المقام الأوّل: فلا شبهة في دلالة القضية على انتفاء الحكم عند تحقق
ـــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5: 6.
(2) البقرة 2: 187.
(3) الوسائل 17: 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.
(4) الوسائل 3: 467 / أبواب النجاسات ب 37 ح 4.

ــ[284]ــ

الغاية، بل لا يبعد أن يقال: إنّ دلالتها على المفهوم أقوى من دلالة القضية الشرطية عليه، ضرورة أ نّه لو لم يدل على المفهوم لزم من فرض وجود الغاية عدمه، يعني ما فرض غايةً له ليس بغاية وهذا خلف، فاذن لا ريب في الدلالة على المفهوم في هذا المقام.
وأمّا المقام الثاني: وهو مقام الاثبات، فالظاهر أنّ الغاية قيد للفعل ـ وهو المتعلق ـ دون الموضوع، حيث إنّ حالها حال بقية القيود، فكما أنّ الظاهر منها هو رجوعها إلى الفعل باعتبار أ نّه معنىً حدثي كذلك الظاهر من الغاية. وأمّا رجوعها إلى الموضوع فيحتاج إلى قرينة تدل عليه كما في الآية الكريمة المتقدمة حيث إنّ قوله تعالى: (إِلَى ا لْمَرَافِقِ)(1) في هذه الآية غاية للموضوع وهو اليد لا للمتعلق وهو الغسل، وذلك لأجل قرينة وخصوصية في المقام وهي إجمال لفظ اليد واختلاف موارد استعماله وهو قرينة على أ نّه سبحانه في هذه الآية المباركة في مقام بيان حدّ المغسول من اليد ومقداره، ومن هنا قد اتفق الشيعة والسنّة على أنّ الآية في مقام تحديد المغسول، لا في مقام بيان الترتيب، ولذا يقول العامة(2) بجواز الغسل من المرفق إلى الأصابع وأفتوا بذلك، وإن كانوا بحسب العمل الخارجي ملتزمين بالغسل منكوساً، ونظير الآية في ذلك المثال المشهور: اكنس المسجد من الباب إلى المحراب، فانّه ظاهر بمقتضى قرينة المقام في أنّ كلمة «إلى» غاية للموضوع وبيان لحدّ المسافة التي اُمر بكنسها، وليست في مقام بيان الترتيب، ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ
ـــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5: 6.
(2) نقل عنهم الفخر الرازي في تفسيره الكبير 11: 160.

ــ[285]ــ

وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ا لْكَعْبَيْنِ)(1) حيث إنّ الظاهر بمقتضى خصوصية المقام هو أنّ كلمة «إلى» غاية لتحديد حدّ الممسوح لا لبيان الترتيب، ومن هنا ذهب المشهور إلى جواز المسح منكوساً وهو الأقوى، إذ مضافاً إلى إطلاق الآية فيه رواية خاصة. هذا كلّه فيما إذا كان الحكم في القضية مستفاداً من الهيئة.
وأمّا إذا كان الحكم فيها مستفاداً من مادة الكلام فان لم يكن المتعلق مذكوراً فيه كقولنا: يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلف إليه، فلا شبهة في ظهور الكلام في رجوع القيد إلى الحكم، وأمّا إذا كان المتعلق مذكوراً فيه كما في مثل قولنا: يجب الصيام إلى الليل، فلا يكون للقضية ظهور في رجوع الغاية إلى الحكم أو إلى المتعلق، فلا تكون لها دلالة على المفهوم لو لم تقم قرينة من الداخل أو الخارج عليها.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أنّ الحكم في القضية إن كان مستفاداً من الهيئة فالظاهر من الغاية هو كونها قيداً للمتعلق لا للموضوع، والوجه فيه ليس ما ذكره جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(2) من أنّ مفاد الهيئة معنىً حرفي، والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد، وذلك لما حققناه في بحث الواجب المشروط(3) من أ نّه لا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة، بل الوجه فيه هو أنّ القضية في أمثال الموارد في نفسها ظاهرة في رجوع القيد إلى المتعلق والمعنى الاسمي دون الحكم ومفاد الهيئة، وإن كان الحكم مستفاداً من مادة الكلام فقد عرفت ظهور القيد في رجوعه إلى الحكم إن لم يكن المتعلق
ـــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5: 6.
(2) أجود التقريرات 1: 193 ـ 195.
(3) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 153.

ــ[286]ــ

مذكوراً وإلاّ فلا ظهور له في شيء منهما، فدلالة الغاية على المفهوم ترتكز على ظهور القضية في رجوعها إلى الحكم ولو بمعونة قرينة.
نتائج هذا البحث عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ الصحيح هو القول بعدم دخول الغاية في المغيّى مطلقاً، أي سواء أكانت من جنسه أم لم تكن، وسواء أكانت بكلمة «إلى» أم كانت بكلمة «حتى»، فما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل بينهما قد عرفت نقده.
الثانية: أنّ الغاية إذا كانت قيداً للمتعلق أو الموضوع فحالها حال الوصف فلا تدل على المفهوم، وإذا كانت قيداً للحكم فحالها حال القضية الشرطية، بل لا يبعد كونها أقوى دلالةً منها على المفهوم.
الثالثة: أنّ الغاية في القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من الهيئة ظاهرة في رجوعها إلى المتعلق، فالرجوع إلى الموضوع يحتاج إلى دليل، وفي القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من المادة، فإن لم يكن المتعلق مذكوراً فيها فالظاهر هو رجوعها إلى الحكم، وإلاّ فهي مجملة من هذه الجهة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net