دلالة كلمة التوحيد على الحصر 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5166

ومن ضوء هذا البيان يظهر حال كلمة التوحيد، فانّ دلالتها عليه بمقتضى فهم العرف وارتكازهم، ولا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ دلالتها على التوحيد كانت بقرينة الحال أو المقال، والسبب فيه ما عرفت من أنّ الناس يفهمون منها التوحيد بمقتضى ارتكازهم بلا حاجة إلى قرينة من حال أو مقال.
ولكن قد يستشكل في دلالتها على التوحيد بأنّ خبر «لا» بما أ نّه مقدّر في

ــ[295]ــ

الكلام فهو بطبيعة الحال لا يخلو من أن يكون المقدّر ممكناً أو موجوداً، فان كان الأوّل فالكلمة لا تدل على وجوده تعالى، وإن كان الثاني فهي لا تنفي إمكان إله آخر، حيث إنّ نفي الوجود أعم من نفي الامكان.
والجواب عنه: هو أنّ إمكان ذاته تعالى مساوق لوجوده ووجوبه، نظراً إلى أنّ الواجب الوجود لا يعقل اتصافه بالامكان الخاص، فانّ المتصف به هو ما لا اقتضاء له في ذاته لا للوجود ولا للعدم، فوجوده في الخارج يحتاج إلى وجود علة له، فمفهوم واجب الوجود لذاته إذا قيس إلى الخارج فان أمكن انطباقه على موجود خارجي وجب ذلك كما في الباري (سبحانه وتعالى) وإن لم ينطبق كان ممتنع الوجود كشريك الباري، فأمر هذا المفهوم مردد في الخارج بين الوجوب والامتناع ولا ثالث لهما. والحاصل: أنّ إمكان وجود هذا المفهوم في الخارج بالامكان العام مساوق لوجوده ووجوبه فيه، كما أنّ عدم وجوده فيه مساوق لامتناعه، وعليه فهذه الكلمة تدل على التوحيد سواء أكان الخبر المقدر ممكناً أو موجوداً.
وقد يستدل على ذلك كما عن بعض: بأنّ الممكن بالامكان العام إذا لم يوجد في الخارج فبطبيعة الحال إمّا أن يستند عدم وجوده إلى عدم المقتضي أو إلى عدم الشرط أو إلى وجود المانع، وكل ذلك لا يعقل في مفهوم واجب الوجود، ضرورة أنّ وجوده لا يعقل أن يستند إلى وجود المقتضي مع توفر الشرط وعدم المانع فيه وإلاّ لانقلب الواجب ممكناً، بل نفس تصوّره يكفي للتصديق بوجوده، ويسمى هذا البرهان ببرهان الصديقين عند العرفاء، ومدلوله هو أنّ نفس تصور مفهوم واجب الوجود على واقعه الموضوعي تكفي للتصديق بوجوده في الخارج وإلاّ لم يكن التصور تصور مفهوم واجب الوجود وهذا خلف، ولعل هذا هو مراد بعض فلاسفة الغرب من أنّ مجرد تصور مفهوم الصانع لهذا العالم وما فوقه يكفي للتصديق بوجوده بلا حاجة إلى إقامة برهان.

ــ[296]ــ

وكيف كان فلا شبهة في أنّ إمكانه تعالى مساوق لوجوده وبالعكس، فنفي إمكانه عين نفي وجوده كما أنّ نفي وجوده عين نفي إمكانه. ومن هنا يظهر حال صفاته (سبحانه وتعالى) فانّه إذا أمكن ثبوت صفة له فقد وجب وإلاّ امتنع.
ثمّ إنّ الظاهر بحسب المتفاهم العرفي من كلمة التوحيد هو أنّ الخبر المقدّر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها مثل قولنا: لا رئيس في هذا البلد، وقولنا: لا رجل في الدار وهكذا، فانّ المتفاهم العرفي منها هو أنّ الخبر المقدّر لكلمة «لا» فيها موجود لا ممكن، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ المستفاد من كلمة التوحيد أمران، أحدهما: التصديق بوجود الصانع للعالم كما هو مقتضى كثير من الآيات القرآنية. وثانيهما: التصديق بوحدانيته ذاتاً وصفةً ومعـبوداً وإليه أشار بقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد) وقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) فهذان الأمران معتبران في كون شخص مسلماً فلو عبد غيره تعالى فقد خرج عن ربقة الاسلام.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتائج:
الاُولى: أنّ كلمة «إلاّ» إنّما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء، وأمّا إذا كانت بمعنى الصفة فلا تدل عليه.
الثانية: أنّ كلمة «إنّما» وضعت للدلالة على إفادة الحصر، للتبادر عند العرف وتصريح أهل الأدب بذلك وإن لم يكن لها نظائر في لغة الفرس ليرجع إليها، إلاّ أ نّه لا حاجة إليها بعد ثبوت وضعها لذلك.
الثالثة: أنّ كلمة «إنّما» قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة فحينئذ لا تدل على الحصر، بل تدل على المبالغة، وقد تستعمل في قصر الصفة على الموصوف كما هو الغالب وحينئذ تدل على الحصر. نعم، قد تستعمل في هذا المقام أيضاً في المبالغة.

ــ[297]ــ

الرابعة: أنّ الفخر الرازي أنكر دلالة كلمة «إنّما» على الحصر، وقد صرّح بذلك في تفسير قوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) وقد عرفت ما في إنكاره وأ نّه لا محمل له إلاّ الحمل على العناد أو التجاهل.
الخامسة: أ نّه لا ثمرة للبحث عن أنّ دلالة هذه الكلمة على الحصر بالمنطوق أو بالمفهوم أصلاً وإن اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) الأوّل، وقد تقدم وجهه موسّعاً.
السادسة: لا شبهة في دلالة كلمة «إلاّ» على الحصر وأ نّها موضوعة لذلك، ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة وأ نّه استدل على عدم إفادتها الحصر بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا صلاة إلاّ بطهور»، وأجاب عن هذا الاستدلال صاحب الكفاية (قدس سره) بعدة وجوه، وقد عرفت عدم تمامية شيء منها، والصحيح في الجواب عنه ما ذكرناه كما تقدم فلاحظ.
السابعة: أنّ كلمة التوحيد تدل على الحصر بمقتضى الارتكاز العرفي، وليست دلالتها مستندةً إلى قرينة حال أو مقال كما عن صاحب الكفاية (قدس سره). والاشكال على دلالتها بأنّ الخبر المقدّر فيها لا يخلو من أن يكون موجوداً أو ممكناً، وعلى كلا التقديرين فهي لا تدل على التوحـيد مدفوع بما تقدم بشكل موسع.
الثامنة: أنّ الظاهر من هذه الكلمة بحسب المتفاهم العرفي هو أنّ خبر «لا» المقدّر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها، هذا تمام الكلام في مفهوم الحصر.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net