وثالثةً يلاحظها فانية في صرف وجودها في الخارج ويجعل الحكم عليه. فعلى الأوّل العموم استغراقي فيكون كل فرد موضوعاً للحكم، وجهة الوحدة بين الأفراد ملغاة في مرتبة الموضوعية، كيف حيث لا يعقل ثبوت أحكام متعددة لموضوع واحد. وعلى الثاني العموم مجموعي فيكون المجموع من حيث المجموع موضوعاً للحكم، فالتكثرات فيه وإن كانت محفوظةً إلاّ أ نّها ملغاة في مرتبة الموضوعية. وعلى الثالث العموم بدلي فيكون الموضوع واحداً من الأفراد لا بعينه، فجهة الكثرة وجهة الجمع كلتاهما ملغاة فيه في مرتبة الموضوعية، يعني لم يؤخذ شي منهما في الموضوع. فالنتيجة أنّ منشأ التقسيم ما ذكرناه لا ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره). الخامسة: أنّ صيغ العموم وضعت للدلالة على سراية الحكم إلى جميع ما ينطبق عليه مدخولها ومتعلقها، منها هيئة الجمع المحلى باللام التي ترد على المادة كقولنا: أكرم العلماء، فانّها موضوعة للدلالة على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخولها وهو العالم. وكذا الحال في كلمة «كل». ومن ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين ما دلّ على العموم من الصيغ وبين لفظ عشرة ونظائرها، فانّ هذه اللفظة بالاضافة إلى أفرادها حيث إنّها كانت من أسماء الأجناس فلا محالة تكون موضوعةً للدلالة على الطبيعة المهملة الصادقة على هذه العشرة وتلك وهكذا، فلا تكون من ألفاظ العموم في شيء. وأمّا بالاضافة إلى مدخولها كقولنا: أكرم عشرة رجال فلا تدل على
ــ[302]ــ
سريان الحكم إلى كل من ينطبق عليه مدخولها ـ وهو الرجل ـ نعم بمقتضى الاطلاق وإن دلت على أنّ المكلف مخير في تطبيق عشرة رجال على أيّ صنف منهم أراد وشاء، سواء أكان ذلك الصنف من صنف العلماء أو السادة أو الفقراء أو ما شاكلها، إلاّ أنّ ذلك بالاطلاق ومقدمات الحكمة لا بالوضع، وأمّا بالاضافة إلى الآحاد التي يتركب العشرة منها فهي وإن دلت على سراية الحكم المتعلق بها إلى تلك الآحاد سراية ضمنية كما هو الحال في كل مركب يتعلق الحكم به، فانّه لا محالة يسري إلى أجزائه كذلك، إلاّ أنّ هذه الدلالة أجنبية عن دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله، حيث إنّ تلك الدلالة دلالة على سراية الأحكام المتعددة المستقلة إلى الأفراد والموضوعات كذلك، وهذا بخلاف هذه الدلالة، فانّها دلالة على سراية حكم واحد متعلق بموضوع واحد إلى أجزائه ضمناً، يعني أنّ كل جزء من أجزائه متعلق للحكم الضمني دون الاستقلالي كما هو الحال في جميع المركبات بشتى أنواعها. ودعوى أنّ استغراق العشرة أو ما شاكلها باعتبار الواحد، حيث إنّ كل مرتبة من مراتب الأعداد التي تكون معنونة بعنوان خاص وباسم مخصوص مؤلفة من الآحاد، والواحد الذي هو بمنزلة المادة ينطبق على كل واحد منها، فالعشرة تكون مستغرقة للواحد إلى حدّها الخاص، والعشرون يكون مستغرقاً له إلى حدّه كذلك وهكذا. وعدم انطباق العشرة بما هي على الواحد غير ضائر، لأنّ مفهوم كل رجل لا ينطبق على كل فرد من أفراده، بل مدخول الأداة بلحاظ سعته ينطبق على كل واحد من أفراده، فاللازم انطباق ذات ما له الاستغراق والشمول لا بما هو مستغرق وشمول وإلاّ فليس له إلاّ مطابق واحد. خاطئة جداً والوجه فيه: أنّ مراتب الأعداد وإن تأ لّفت من الآحاد إلاّ أنّ الواحد ليس مادة لفظ العشرة أو ما شاكله حتى يكون له الشمول والاستغراق
ــ[303]ــ
بعروض هذه اللفظة عليه أو ما شاكلها من الألفاظ والعناوين. وإن شئت قلت: إنّ نسبة الواحد إلى العشرة ليست كنسبة العالم مثلاً إلى العلماء حيث إنّه مادة الجمع المحلى باللام، يعني أنّ هيئة هذا الجمع تعرض عليه وتدل على كونه ذا شمول واستغراق، وهذا بخلاف العشرة فانّها لا تعرض على الواحد كيف فانّه جزؤها المقوّم لها، نظراً إلى أ نّها مركبة منه ومن سائر الآحاد وبانتفائه تنتفي، وتكون مباينةً له لفظاً ومعنىً، كما أ نّها مباينة لسائر مراتب الأعداد كذلك. فاذن لا يعقل عروضها عليه كي تدل على شموله وعمومه، ضرورة أنّ الكل لا يعقل عروضه على الجزء فلا تكون من قبيل هيئة الجمع المعرف باللام التي تعرض على مادتها وتدل على عمومها وشمولها لكل فرد من أفرادها. وكذا ليست نسبة الواحد إلى العشرة كنسبة الرجل إلى لفظة «كل» الداخلة عليه، وذلك لأنّ الواحد كما عرفت جزء العشرة لا أ نّها داخلة عليه كدخول أداة العموم على ذيها لكي تدل على عمومه وشموله لكل ما ينطبق عليه من الآحاد، كما هو الحال في لفظة «كل» الداخلة على الرجل مثلاً. فالنتيجة: أنّ العشرة ليست من أداة العموم كلفظة «كل» وهيئة الجمع المعرف باللام ونحوهما. السادسة: أ نّه لا ريب في وجود صيغ تخص العموم كما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره)(1) كلفظة «كل» وما شاكلها، حيث لا شبهة في أنّ المتفاهم العرفي منها العموم وأنّ دلالتها عليه على وفق الارتكاز الذهني، وهكذا الحال في نظائرها. وعلى الجملة: فلا شبهة في أنّ كلمة «كل» في لغة العرب ونظائرها في سائر اللغات موضوعة للدلالة على العموم وأ نّها ونظائرها من صيغ العموم ـــــــــــــــــــــ (1) كفاية الاُصول: 216.
ــ[304]ــ
خاصة به. ودعوى أنّ الخاص بما هو القدر المتيقن بحسب الارادة خارجاً فوضع اللفظ بازائه أولى من وضعه بازاء العموم خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أبداً، ضرورة أنّ كونه كذلك لا يقتضي وضع اللفظ بازائه دون العموم. نعم، كون الخاص من المتيقن لو كان على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم ويكون بمنزلة القرينة المتصلة في الكلام بحيث تحتاج إرادة العموم إلى نصب قرينة لأمكن أن يقال إنّ وضع اللفظ للعموم لغو، فالأولى أن يكون موضوعاً للخصوص. ولكنّ الأمر ليس كذلك، فانّ كون الخاص متيقناً إنّما هو بحسب الارادة الخارجية، ومن الطبيعي أنّ مثل هذا المتيقن لا يكون مانعاً عن ظهور اللفظ لا في العموم ولا في غيره، غاية الأمر يكون اللفظ نصاً بالاضافة [ إلى ]إرادة الخاص، وظاهراً بالاضافة إلى إرادة العام، ومحطّ النظر إنّما هو في إثبات الظهور وعدمه، وقد عرفت أ نّه لا شبهة في ظهور لفظة «كل» في العموم كما في مثل قولنا: أكرم كل عالم أو أكرم كل رجل وما شاكل ذلك. ودعوى أنّ المناسب وضع اللفظ للخاص لا للعام، نظراً إلى كثرة استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام إلاّ وقد خص فاسدة جداً، ضرورة أنّ مجرد ذلك لا يقتضي الوضع بازائه دونه، إذ لا مانع من أن تكون الاستعمالات المجازية أكثر من الاستعمالات الحقيقية لداع من الدواعي. وإن شئت قلت: إنّ كون الخاص معنىً مجازياً للعام ليس على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم بحيث تكون إرادة العموم منه تحتاج إلى قرينة كما هو الحال في المجاز المشهور، بل الأمر بالعكس تماماً، فانّه ظاهر في العموم وإرادة الخاص منه تحتاج إلى قرينة. هذا مضافاً إلى ما سيأتي في ضمن البحوث
ــ[305]ــ
الآتية (1) من أنّ التخصيص لايستلزم استعمال العام في الخاص حتى يكون مجازاً، بل العام قد استعمل في معناه بعد التخصيص أيضاً. ـــــــــــــ (1) في ص 541.
|