الخطابات الشفاهية - تحرير محل النزاع 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5299


ــ[430]ــ
 

الخطابات الشفاهية

ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) أنّ النزاع فيها يتصور على وجوه: الأوّل: أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفل له الخطاب هل يمكن تعلقه بالمعدومين أو الغائبين أو يختص بالحاضرين في مجلس الخطاب؟ ولا يفرق فيه بين كون الخطاب شفاهياً أو غيره كقوله تعالى: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ا لْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(2) وقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ)(3) وما شاكلها.
الثاني: أن يكون النزاع في إمكان المخاطبة مع المعدومين أو الغائبـين وعدم إمكانها، يعني أ نّه هل يمكن توجيه الخطاب إليهما أم لا؟ فالنزاع على هذين الوجهين يكون عقلياً.
الثالث: أن يكون في وضع أدوات الخطاب، يعني أ نّها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس الخطاب.
وبعد ذلك نقول: الذي ينبغي أن يكون محلاً للنزاع هو هذا الوجه يعني الوجه الأخير دون الوجهين الأوليّن، لأ نّهما غير قابلين لأن يجعلا محلاً للنزاع والكلام.
أمّا الأوّل: فلأنّ جعل التكليف بمعنى البعث أو الزجر الفعلي لا يعقل ثبوته
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 227 ـ 228.
(2) آل عمران 3: 97.
(3) البقرة 2: 275.

ــ[431]ــ

للمعدومين بل للغائبين، ضرورة أ نّه يقتضي ثبوت موضوعه في الخارج ـ وهو العاقل البالغ القادر ـ والتفاته إلى التكليف حتى يكون فعلياً في حقّه وإلاّ استحال فعليته.
وأمّا جعل التكليف بمعنى الانشاء وإبراز الأمر الاعتباري على نحو القضية الحقيقية فثبوته للمعدومين فضلاً عن الغائبين بمكان من الامكان، لوضوح أ نّه لا بأس بجعل التكليف كذلك للموجودين والمعدومين معاً، حيث إنّ الموضوع فيها قد اُخذ مفروض الوجود ولا مانع من فرض وجود الموضوع وجعل الحكم له، سواء أكان موجوداً حقيقةً أم لم يكن، فالوجود الفرضي لا يقتضي الوجود الحقيقي حيث لا مانع من فرض المعدوم موجوداً.
وإن شئت قلت: إنّا قد ذكرنا في محلّه(1) أنّ الاعتبار خفيف المؤونة، فكما أ نّه يتعلق بالأمر الحـالي فكذلك يتعلق بالأمر الاسـتقبالي كما هو الحـال في الواجب المشروط بالشرط المتأخر. وعليه فلا مانع من جعل الحكم للموجودين والمعدومين بنحو القضية الحقيقية التي ترجع إلى القضية الشرطية، حيث إنّ مردّها إلى الشرط المتأخر لا محالة. ونظير ذلك مسألة الوقف على البطون المتعددة المتلاحقة، حيث إنّ الواقف يعتبر من حين الوقف ملكية ماله لجميع البطون بطناً بعد بطن، بحيث إنّ كل بطن لاحق يتلقى الملك من الواقف لا من البطن السابق، ومعنى ذلك هو أنّ الواقف من حين الوقف يعتبر ملكيته له، فيكون زمان المعتبر متأخراً عن زمان الاعتبار. فالنتيجة أنّ النزاع بهذا المعنى لا يرجع إلى معنىً معقول.
وأمّا الثاني: فإن اُريد من إمكان توجيه الخطاب إلى المعدومين والغائبين
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 135.

ــ[432]ــ

توجيهه إليهما بقصد التفهيم حقيقةً فهو غير معقول، ضرورة أنّ توجيه الخطاب الحقيقي إلى الحاضر في مجلس الخطاب إذا كان غافلاً مستحيل فما ظنك بالمعدوم والغائب، فيكون نظير الخطاب إلى الحجر فانّه لا يعقل إذا قصد به تفهيمه، وكتوجيه الخطاب باللغة العربية إلى من لايكون عارفاً بها أو بالعكس وهكذا، فانّ الخطاب الحقيقي في جميع هذه الموارد غير معقول.
وإن اُريد بذلك شيئاً آخر كاظهار العجز أو المظلومية أو ما شاكل ذلك، فتوجيه الخطاب بهذا المعنى إلى المعدومين فضلاً عن الغائبين بمكان من الامكان، كما هو المشاهد في الصبي كثيراً حينما يخاف أو يضربه شخص نادى يا أباه يا اُمّاه مع أ نّه يعلم بأنّ أباه أو اُمّه غير حاضر عنده فغرضه من هذا الخطاب إظهار العجز والتظلم.
فالنتيجة: أنّ الخطاب الحقيقي الذي يكون الداعي إليه قصد التفهيم لا يمكن توجيهه إلى الغائب بل إلى الحاضر إذا كان غافلاً فضلاً عن المعدوم. وأمّا الخطاب الانشائي الذي يكون الداعي إليه إظهار العجز أو الشوق أو الولاء أو ما شاكل ذلك فتوجيهه إلى المعدوم فضلاً عن الغائب بمكان من الامكان.
وهنا شق ثالث للخطاب: وهو أن يقصد المتكلم تفهيم المخاطب حينما وصل إليه الخطاب لا من حين صدوره، كما إذا افترضنا أنّ المخاطب نائم فيكتب المتكلم ويخاطبه بقوله: إذا قمت من النوم افعل الفعل الفلاني، أو خاطب ولده بقوله: يا ولدي إذا كبرت فافعل كذا وكذا، أو سجّل خطابه في شريط ثمّ يرسله إلى مكان أو بلد آخر ليسمع الناس خطابه في ذلك المكان أو البلد فيكون قصده تفهيمهم من حين وصول الخطاب إليهم وسماعهم إيّاه، لا من حين الصدور، أو خاطب شخصاً في بلد آخر بالتلفون حيث إنّ خطابه لم يصل إليه من حين صدوره منه بل لا محالة وصوله إليه كان بعده بزمان وإن كان ذلك

ــ[433]ــ

الزمان قليلاً جداً. ومن الطبيعي أ نّه إذا جاز الفصل بين صدور الخطاب من المتكلم وبين قصده تفهيم المخاطب بزمان لم يفرق بين الزمان القليل والكثير، فاذا جاز في القليل جاز في الكثير أيضاً. وعليه فلا مانع من أن يكون المقصود بالتفهيم من الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة جميع البشر إلى يوم القيامة، يعني كل من وصلت إليه تلك الخطابات فهو مقصود به كما هو كذلك. وكيف ما كان فلا إشكال في إمكان ذلك أصلاً.
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه: أنّ النزاع في هذا الوجه أيضاً لا يرجع إلى معنىً محصّل.
فالذي ينبغي أن يكون محلاً للنزاع هو الوجه الأخير، وهو أنّ أدوات الخطاب هل هي موضوعة للدلالة على الخطاب الحقيقي أو الانشائي، فعلى الأوّل لا يمكن شموله للغائبين فضلاً عن المعدومين، بل لا يمكن شموله للحاضر في المجلس إذا كان غافلاً عنه فما ظنك بالغائب والمعدوم كما أشرنا إليه آنفاً، وعلى الثاني فلا مانع من شموله للمعدومين والغائبين حيث إنّ مفادها حينئذ إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداع من الدواعي، فلا مانع عندئذ من شمولها للغائب بل المعدوم بعد فرضه بمنزلة الموجود كما هو لازم كون القضية حقيقية، هذا.
والظاهر أ نّها موضوعة للدلالة على الخطاب الانشائي، فانّ المتفاهم العرفي من أدوات الخطاب هو إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداع من الدواعي. ومن الواضح أنّ الخطابات بهذا المعنى تشمل المعدومين بعد فرضهم منزلة الموجودين فضلاً عن الغائبين. هذا مضافاً إلى أنّ لازم القول بكون هذه الأدوات مستعملةً في الخطاب الحـقيقي في موارد استعمالاتها في الخطابات الشرعية هو اختصاص تلك الخطابات بالحاضرين في مجلس التخاطب وعدم

ــ[434]ــ

شمولها للغائبين فضلاً عن المعـدومين، وهذا مما نقطع بعدمه، لأنّ اختصاصها بالمدركين لزمان الحضور وإن كان محتملاً في نفسه إلاّ أ نّه لا يحتمل اختصاصها بالحاضرين في المجلس جزماً.
وعليه فلا مناص من الالتزام باستعمالها في الخطاب الانشائي ولو كان ذلك بالعناية، فاذن يشمل المعدومين أيضاً بعد تنزيلهم منزلة الموجودين على ما هو لازم كون القضية حقيقيةً، هذا كلّه على تقدير كون الخطابات القرآنية خطاباً من الله تعالى بلسان رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اُمّته.
وأمّا إذا قلنا بأ نّها نزلت على قلبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل قراءته فلا موضوع عندئذ لهذا النزاع، حيث إنّه لم يكن حال نزولها على هذا الفرض من يتوجه إليه الخطاب حقيقةً ليقع النزاع في اختصاصها بالحاضرين مجلس الخطاب أو عمومها للغائبين بل المعدومين.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net