دوران الأمر بين التخصيص والنسخ 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4723


ــ[476]ــ
 

التخصيص والنسخ

إذا ورد عام وخاص ودار الأمر بين التخصيص والنسخ ففيه صور:
الاُولى: أن يكون الخاص متصلاً بالعام، ففي هذه الصورة لا يعقل النسخ حيث إنّه عبارة عن رفع الحكم الثابت في الشريعة، والمفروض أنّ الحكم العام في العام المتصل بالمخصص غير ثابت فيها ليكون الخاص رافعاً له، بل لا يعقل جعل الحكم ورفعه في آن واحد ودليل فارد.
الثانية: أن يكون الخاص متأخراً عن العام ولكنّه كان قبل حضور وقت العمل به، ففي مثل ذلك هل يمكن أن يكون الخاص ناسخاً له؟ فذكر بعض الأعلام أ نّه لا يمكن أن يكون ناسخاً، والنكتة فيه: أ نّه لا يعقل جعل الحكم من المولى الملتفت إلى عدم تحققه وفعليته في الخارج بفعلية موضوعه، ضرورة أ نّه مع علم المولى بانتفاء شرط فعليته كان جعله لغواً محضاً، حيث إنّ الغرض من جعله إنّما هو صيرورته داعياً للمكلف نحو الفعل فاذا علم بعدم بلوغه إلى هذه المرتبة لانتفاء شرطه فلا محالة يكون جعله بهذا الداعي لغواً فيستحيل أن يصدر من المولى الحكيم.
نعم، يمكن ذلك في الأوامر الامتحانية، حيث إنّ الغرض من جعلها ليس بلوغها مرتبة الفعلية، ولذا لا مانع من جعلها مع علم المولى بعدم قدرة المكلف على الامتثال، نظراً إلى أنّ الغرض منها مجرد الامتحان وهو يحصل بمجرد إنشاء الأمر، فلا يتوقف على فعليته بفعلية موضوعه، وهذا بخلاف

ــ[477]ــ

الأوامر الحقيقية حيث إنّه لا يمكن جعلها مع علم الآمر بانتفاء شرطها وعدم تحققه في الخارج، ولا يفرق في ذلك بين القضية الحقيقية والخارجية، فكما أنّ جعل الحكم مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليته وامتثاله في الخارج في القضية الحقيقية من اللغو الواضح، كذلك جعله مع علمه بانتفاء شرط امتثاله في الخارج في القضية الخارجية.
وعلى الجملة: فجعل الأوامر الحقيقية التي يكون الغرض من جعلها إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل والاتيان بالمأمـور به مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها وامتثالها في الخارج، لا محالة يكون لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك، هذا.
وقد أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بما إليك نصه: ولكنّ التحقيق أنّ ما ذكروه في المقام إنّما نشأ من عدم تمييز أحكام القضايا الخارجية من أحكام القضايا الحقيقية، وذلك لأنّ الحكم المجعول لو كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية لصحّ ما ذكروه، وأمّا إذاكان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية الثابتة للموضوعات المقدّر وجودها في الخارج ـ كما هو الحال في أحكام الشريعة المقدسة ـ فلا مانع من نسخها بعد جعلها ولو كان ذلك في زمان قليل كيوم واحد أو أقل، لأ نّه لا يشترط في صحة جعله وجود الموضوع له أصلاً، إذ المفروض أ نّه جعل على موضوع مقدّر الوجود.
نعم، إذا كان الحكم المجعول في القضية الحقيقية من قبيل الموقتات كوجوب الصوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضية الحقيقية، كان نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجية قبل وقت العمل به، فلا محالة يكون النسخ كاشفاً عن عدم كون الحكم المنشأ أوّلاً حكماً مولوياً مجعولاً بداعي البعث أو الزجر.

ــ[478]ــ

وبالجملة: إذا كان معنى النسخ هو ارتفاع الحكم المولوي بانتهاء أمده، فلا محالة يختص ذلك بالقضايا الحقيقية غير الموقتة، وبالقضايا الخارجية، والقضايا الحقيقية الموقتة بعد حضور وقت العمل بها، وأمّا القضايا الخارجية أو الحقيقية الموقتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلق النسخ بالحكم المجعول فيها من الحاكم الملتفت، والوجه في ذلك ظاهر(1).
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في نقطة: وهي أنّ الحكم المجعول إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية أو القضايا الحقيقية الموقتة لم يجز نسخه قبل حضور وقت العمل به، وإذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية غير الموقتة جاز نسخه قبل ذلك، وقد تعرّض (قدس سره) هذا التفصيل بعينه في مبحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فلاحظ.
ويرد عليه: أ نّه لا يتم باطلاقه والسبب فيه: ما عرفت من أ نّه لا يكفي في الأوامر الحقيقية مجرد فرض وجود موضوعها في الخارج مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها فيه، ضرورة أنّ المـولى على الرغم من هذا لو جعلها بداعي البعث حقيقةً لكان من اللغو الواضح فكيف يمكن صدوره منه مع التفاته إلى ذلك، وقد مرّ آنفاً أ نّه لا يفرق في ذلك بين القضايا الحقيقية غير الموقتة، والقضايا الحقيقية الموقتة، والقضايا الخارجية، فكما أنّ أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط امتثاله وعدم تمكن المكلف منه مستحيل في القسمين الأخيرين، فكذلك مستحيل في القسم الأوّل من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، ولا ندري كيف ذهب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إلى هذا التفصيل، مع أ نّه
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 394 ـ 395.

ــ[479]ــ

قد صرح في عدة موارد(1) أنّ امتناع فعلية الحكم يستلزم امتناع جعله. هذا كلّه في الأوامر.
وأمّا النواهي فاذا علم المولى أ نّه لا يترتب أيّ أثر على جعل النهي خارجاً ولا يبلغ مرتبة الزجر لعلمه بانتفاء شرط فعليته، فلا محالة يكون جعله لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفـت إلى ذلك، وأمّا إذا علم بأنّ جعل الحكم وتشريعه هو السبب لانتفاء موضوعه كما هو الشأن في جعل القصاص والديات والحدود، حيث إنّ تشريع هذه الأحكام سبب لمنع المكلف وزجره عن إيجاد موضـوعها في الخارج فلا مانع منه، بل يكون تمام الغرض من جعلها ذلك فكيف يعقل أن يكون مانعاً عنه.
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي أنّ جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه وشرطه في الخارج لا يمكن من الحكيم الملتفت إليه من دون فرق في ذلك بين الأوامر والنواهي والقضـايا الحقيقية والخارجية. نعم، إذا كان جعل الحكم وتشريعه في الشريعة المقدسة سبباً لانتفاء موضوعه وشرطه فلا مانع منه كما عرفت.
الثالثة: أن يكون الخاص المتأخر وارداً بعد حضور وقت العمل بالعام فهل مثل هذا الخاص يكون مخصصاً له أو ناسخاً؟ فيه وجهان.
فذهب جماعة إلى الثاني بدعوى أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح، وعليه فيتعين كونه ناسخاً لا مخصصاً، ولكنّهم وقعوا في الاشكال بالاضافة إلى عمومات الكتاب والسنّة حيث إنّ مخصصاتها التي صدرت عن الأئمة الأطهار
ـــــــــــــــــــــ
(1) منها ما في أجود التقريرات 3: 518.

ــ[480]ــ

(عليهم السلام) قد وردت بعد حضور وقت العمل بها، ومع ذلك كيف يمكن الالتزام بتخصيصها بها، والالتزام بالنسخ في جمـيع ذلك بعيد جداً بل نقطع بخلافه، بداهة أنّ لازم ذلك هو نسخ كثير من الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة، وهذا في نفسه مما يقطع ببطلانه، لا من ناحية ما قيل من أنّ النسخ لا يمكن بعد زمن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) لانقطاع الوحي، وذلك لأنّ الوحي وإن انقطع بعد زمانـه (صلّى الله عليه وآله) إلاّ أ نّه لا مانع من أ نّه (صلّى الله عليه وآله) أوكل بيانه إلى الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) كبيان سائر الأحكام. بل من ناحية أنّ نسخ تلك الأحكام بتلك الكثرة في نفسها لا يناسب مثل هذه الشريعة الخالدة التي تجعل من قبل الله تعالى وأمر رسوله (صلّى الله عليه وآله) وأوصيائه (عليهم السلام) ببيانها، ولأجل ذلك يقطع بخلافه.
ومن هنا قد قاموا بعـدة محاولات للتفصي عن هذا الاشكال، أحسنها ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) (1) تبعاً لشيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) (2) من أنّ هذه العمومات التي وردت مخصصاتها بعد حضور وقت العمل بها قد صدرت بأجمعها ضرباً للقاعدة، يعني أ نّها متكفلة للأحكام الظاهرية فيكون الناس مكلفين بالعمل بها ما لم يرد عليها مخصص، فاذا ورد المخصص عليها كان ناسخاً بالاضافة إلى الأحكام الظاهرية ومخصصاً بالاضافة إلى الارادة الجدية والأحكام الواقعية.
وقد ذكرنا في ضمن البحوث السالفة أنّ كون العموم مراداً بالارادة الاستعمالية لا يلازم كونه مراداً بالارادة الجدية، كما أنّ كونه مراداً ظاهراً
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 237، 451.
(2) مطارح الأنظار: 212.

 
 

ــ[481]ــ

ضرباً للقانون والقاعدة لا يلازم كونه مراداً واقعاً وجداً، وعليه فلا مانع من كون العموم في هذه العمومات مراداً ظاهراً ويكون الناس مأمورين بالعمل به في مقام الظاهر إلى أن يجيء المخصص له، فاذا جاء فيكون مخصصاً بالاضافة إلى الارادة الجدية وناسخاً بالاضافة إلى الحكم الظاهري.
ويرد عليه: أنّ هذه العمومات لا تخلو من أن تكون ظاهرةً في إرادة العموم واقعاً وجداً في مقام الاثبات والدلالة أو لا تكون ظاهرةً فيه من جهة نصب قرينة على أ نّها مرادة في مقام الظاهر وغير مرادة بحسب مقام الواقع والجد، يعني أنّ القرينة تدل على أ نّها وردت ضرباً للقاعدة بالاضافة إلى الحكم الظاهري دون الواقعي، ومن الطبيعي أنّ هذه القرينة تمنع عن انعقاد ظهورها في إرادة العموم واقعاً وجداً، فعلى الأوّل يبقى إشكال قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بحاله ولا يندفع به الاشكال المزبور، ضرورة أ نّها على هذا الفرض ظاهرة في إرادة العموم واقعاً، والبيانات المتأخرة عنها الواردة بعد حضور وقت العمل بها على الفرض كاشفة عن عدم إرادة العموم فيها، وهذا بعينه هو تأخير البيان عن وقت الحاجة. وعلى الثاني فلا ظهور لها في العموم في مقام الاثبات حتى يتمسك به ضرباً للقاعدة، وعليه فلا يكون حجةً في ظرف الشك.
فالنتيجة: أنّ ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) لدفع الاشكال المذكور لا يرجع إلى معنىً صحيح.
فالتحقيق في المقام أن يقال: إنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما هو لأحد أمرين لا ثالث لهما:
الأوّل: أ نّه يوجب وقوع المكلف في الكلفة والمشقة من دون مقتض لها في

ــ[482]ــ

الواقع، كما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل على حكم إلزامي في الظاهر ولكن كان بعض أفراده في الواقع مشتملاً على حكم ترخيصي، فانّه لا محالة يوجب إلزام المكلف ووقوعه بالاضافة إلى تلك الأفراد المباحة في المشقة والكلفة من دون موجب ومقتض لها، وهذا من الحكيم قبيح.
الثاني: أ نّه يوجب إلقاء المكلف في المفسدة أو يوجب تفويت المصلحة عنه، كما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل على حكم ترخيصي في الظاهر، ولكن كان بعض أفراده في الواقع واجباً أو محرّماً، فانّه على الأوّل يوجب تفويت المصلحة الملزمة عن المكلف، وعلى الثاني يوجب إلقاءه في المفسدة، وكلاهما قبيح من المولى الحكيم. ولكن من المعلوم أنّ هذا القبيح قابل للرفع، ضرورة أنّ المصلحة الأقوى إذا اقتضت إلقاء المكلف في المفسدة أو تفويت المصلحة عنه أو إلقاءه في الكلفة والمشقة فلا قبح فيه أصلاً.
فاذن لا يكون قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة كقبح الظلم ليستحيل انفكاكه عنه، بل هو كقبح الكذب يعني أ نّه في نفسه قبيح مع قطع النظر عن طروء أيّ عنوان حسن عليه. فاذا افترضنا أنّ المصلحة تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة وكانت أقوى من مفسدة تأخيره، أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى منها فبطبيعة الحال لا يكون تأخيره عندئذ قبيحاً، بل هو حسن ولازم، كما هو الحال في الكذب فانّ قبحه إنّما هو في نفسه وذاته مع قطع النظر عن عروض أيّ عنوان حسن عليه.
فاذا فرضنا أنّ إنجـاء مؤمن في مورد يتوقف عليه لم يكن قبيحاً، بل هو حسن يلزم العقل به، وكذا حسن الصدق فانّه ذاتي بمعنى الاقتضاء وأ نّه صفة المؤمن كما في الكتاب العزيز، ومع ذلك قد يعرض عليه عنوان ذو مفسدة موجب لاتصافه بالقبح كما إذا كان الصدق موجباً لقتل مؤمن أو ما شاكل ذلك، فانّ

ــ[483]ــ

مثله لا محالة يكون قبيحاً عقلاً ومحرّماً شرعاً، فما لا ينفك عنه القبح ـ هو الظلم ـ حيث إنّه علة تامة له فيسـتحيل تحقق عنوان الظلم في مورد بدون اتصافه بالقبح، كما أنّ حسن العدل ذاتي بهذا المعنى، أي بمعنى العلة التامة فيستحيل انفكاكه عنه.
فالنتيجة: أنّ قبح تأخير البـيان عن وقت الحاجة بما أ نّه ذاتي بمعنى الاقتضاء دون العلة التامة فلا مانع من تأخيره عن وقت الحاجة إذا اقتضته المصلحة الملزمة التي تكون أقوى من مفسدة التأخير، أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره ولا يكون عندئذ قبيحاً.
وبكلمة اُخرى: أنّ حال تأخير البيان عن وقت الحاجة في محل الكلام كحال تأخيره في أصل الشريعة المقدّسة، حيث إنّ بيان الأحكام فيها كان على نحو التدريج واحداً بعد واحد لمصلحة التسهيل على الناس، نظراً إلى أنّ بيانها دفعة واحدة عرفية يوجب المشقة عليهم وهي طبعاً توجب النفرة والاعراض عن الدين وعدم الرغبة فيه. ومن الطبيعي أنّ هذا مفسدة تقتضي أن يكون بيانها على نحو التدريج ليرغـب الناس فيه رغم أنّ متعلقاتها مشـتملة على المصالح والمفاسد من الأوّل، فتأخير البيان وتدريجيته إنّما هو لمصلحة تستدعي ذلك ـ وهي التسهيل على الناس ورغبتهم في الدين ـ ومن الواضح أنّ هذه المصلحة أقوى من مصلحة الواقع التي تفوت عن المكلف.
ومن هنا قد ورد في بعض الروايات(1) أنّ أحكاماً بقيت عند صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وهو (عليه السلام) بعد ظهـوره يبيّن تلك الأحكام للناس، ومن المعلوم أنّ هذا التأخير إنّما هو لمصلحة فيه أو لمفسدة في
ـــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 52: 338، 354 ب 27 ح 82 و 114.

ــ[484]ــ

البيان، وما نحن فيه كذلك حيث إنّه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة عند اقتضاء المصلحة ذلك، أو كان في تقديم البيان مفسدة ملزمة، ولا يفرق في ذلك بين تأخيره عن وقت الحاجة في زمان قليل كساعة مثلاً أو أزيد، فانّه إذا جاز تأخيره لمصلحة ساعةً واحدةً جاز كذلك سنين متطاولة، ضرورة أنّ قبحه لو كان كقبح الظلم لم يجز تأخيره أبداً حتى في آن واحد، لاستحالة صدور القبيح من المولى الحكيم.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أ نّه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كانت فيه مصلحة مقتضية لذلك، أو كانت في تقديمه مفسدة مانعة عنه.
وعلى ضوء هذه النتيجة يتعين كون الخاص المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام مخصصاً لا ناسخاً، وعليه فلا إشكال في تخصيص عمومات الكـتاب والسـنّة الواردة في عصر النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمخصصات الواردة في عصر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حيث إنّ المصلحة تقتضي تأخيرها عن وقت الحاجة والعمل، أو كانت في تقديمها مفسدة ملزمة تمنع عنه.
الصورة الرابعة: ما إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل به، ففي هذه الصورة يتعين كون الخاص المتقدم مخصصاً للعام المتأخر، حيث إنّه لا مقتضي للنسخ هنا أصلاً، وإلاّ لزم كون جعل الحكم لغواً محضاً وهو لا يمكن من المولى الحكيم على ما تقدم تفصيله.
الصورة الخامسة: ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به، ففي هذه الصورة يقع الكلام في أنّ الخاص المتقدم مخصص للعام المتأخر أو

ــ[485]ــ

أنّ العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم، وتظهر الثمرة بينهما حيث إنّه على الأوّل يكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة هو حكم الخاص دون العام، وعلى الثاني ينتهي حكم الخاص بعد ورود العام، فيكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة بعد وروده هو حكم العام.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) أنّ الأظهر أن يكون الخاص مخصصاً وأفاد في وجه ذلك: أنّ كثرة التخصيص في الأحكام الشرعية حتى اشتهر ما من عام إلاّ وقد خص وندرة النسخ فيها جداً أوجبتا كون ظهور الخاص في الدوام والاستمرار وإن كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة أقوى من ظهور العام في العموم وإن كان بالوضع، وعليه فلا مناص من تقديمه عليه، هذا.
وأورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) بما ملخّصه: أنّ دليل الحكم يستحيل أن يكون متكفلاً لاستمرار ذلك الحكم ودوامه أيضاً، ضرورة أنّ استمرار الحكم في مرتبة متأخرة عن نفس الحكم فلا بدّ من فرض وجود الحكم أوّلاً ثمّ الحكم عليه بالاستمرار كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية التي اُخذ الموضوع فيها مفروض الوجود، وبما أنّ موضوع الاستمرار هو نفس الحكم فلا بدّ من فرض وجوده أوّلاً ثمّ الحكم عليه بالاستمرار.
ومن الطبيعي أنّ دليل الواحد لا يعقل أن يكون متكفلاً لاثبات نفس الحكم وإثبات ما يتوقف على كون ذلك الحكم مفروض الوجود في الخارج وهو استمراره.
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 237.
(2) أجود التقريرات 2: 401.

ــ[486]ــ

فاذن لابدّ له في الحكم باستمراره إمّا من الرجوع إلى استصحاب عدم النسخ أو إلى قوله (عليه السلام): حلال محمّد (صلّى الله عليه وآله) إلخ(1).
ولكن كلا الأمرين غير تام.
أمّا الأوّل: فلأ نّه محكوم بدليل اجتهادي وهو أصالة العموم في المقام، حيث إنّ الأمر دائر فيه بين التمسك بها والتمسك بأصالة عدم النسخ، والمفروض أنّ الاُولى حاكمة على الثانية نظراً إلى أ نّها من الاُصول اللفظية، وتلك من الاُصول العملية.
وأمّا الثاني فلأنّ الظاهر منه هو استمرار الشريعة المقدسة إلى يوم القيامة وأ نّها لا تنسخ بشريعة اُخرى، ولا ينافيه نسخ بعض الأحكام وعدم استمراره. أو فقل: إنّ المراد منه ليس استمرار كل حكم في هذه الشريعة حتى يتمسك بعموم هذا الدليل في كل مورد يشك فيه في استمرار الحكم.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وهو أنّ الاستمرار مرةً يلاحظ بالاضافة إلى نفس الحكم فحسب، ومرة اُخرى يلاحظ بالاضافة إلى متعلقه وموضوعه، وما أفاده (قدس سره) من أنّ دليلاً واحداً لا يعقل أن يكون متكفلاً لاثبات نفس الحكم واستمراره معاً إنّما يتم في الفرض الأوّل دون الفرض الثاني، حيث إنّه لا مانع من استفادة استمرار الحكم من إطلاق متعلقه وموضوعه إذا كان الدليل المتكفل له في مقام البيان كقولنا: لا تشرب الخمر مثلاً فانّه كما يدل باطلاقه على العموم بالاضافة إلى أفراده العرضـية يعني كل ما ينطبق عليه عنوان الخمر في الخارج سواء أكان متخذاً
ـــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 1: 58 / 19.

ــ[487]ــ

من العنب أو التمر أو ما شاكل ذلك، فالقضية تدل على حرمة شربه كذلك يدل عليه بالاضافة إلى أفراده الطولية يعني بحسب الأزمان لاطلاق المتعلق والموضوع وعدم تقييده بزمان خاص دون زمان، مع كون المتكلم في مقام البيان.
وإن شئت قلت: إنّ المتكلم كما يلاحظ الاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الأفراد العرضـية، وهذا يعني أ نّه تارةً يقيّد المتعلق بحصة خاصة منه ككونه متخذاً من العنب مثلاً، واُخرى لا يقـيده بها فيلاحظه مطلقاً ومرفوضاً عنه القيود بشتى أشكالها فعندئذ لا مانع من التمسك باطلاقه لاثبات الحكم لجميع ما ينطبق عليه، كذلك يلاحظ الاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الأفراد الطولية، يعني تارةً يقيده بزمان خاص دون آخر، واُخرى لا يقيده به فيلاحظه مطلقاً بالاضافة إلى جميع الأزمنة، فعندئذ بطبيعة الحال يدل على دوام الحكم واستمراره من جهة الاطلاق ومقدمات الحكمة فيتمسك به في كل زمان يشك في ثبوت الحكم له. فاذن ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الخاص يدل على الدوام والاستمرار بالاطلاق ففي غاية الصحة والمتانة من هذه الناحية.
نعم، يرد على ما أفاده (قدس سره) من أنّ الخاص يتقدم على العام وإن كانت دلالته على الدوام والاستمرار بالاطلاق ومقدمات الحكمة ودلالة العام على العموم بالوضع، والسبب فيه: هو أ نّه لا يمكن الحكم بتقديم الخاص على العام في هذه الصورة، حيث إنّ العام يصلح أن يكون بياناً على خلاف الخاص، ومعه كيف تجري مقدمات الحكمة فيه.
وبكلمة اُخـرى: أنّ دلالة الخاص على الدوام والاستـمرار تتوقف على جريان مقدمات الحكمة، ومن الطبيعي أنّ عموم العام بما أ نّه مستند إلى الوضع

ــ[488]ــ

مانع عن جريانها، فاذن كيف يحكم بتقديم الخاص عليه. وكثرة التخصيص وندرة النسخ فيما إذا دار الأمر بينهما لا توجبان إلاّ الظن بالتخصيص ولا أثر له أصلاً. على أنّ فيما نحن فيه لا يدور الأمر بينهما، حيث إنّ الخاص هنا لا يصلح أن يكون مخصصاً للعام، فانّ صلاحيته للتخصيص تتوقف على جريان مقدمات الحكمة، وهي غير جارية على الفرض، فعندئذ بطبيعة الحال يقدّم العام على الخاص فيكون ناسخاً له.
ولكن هذا الذي ذكرناه إنّما يتم في الأحكام الصادرة من المولى العرفي، فانّه إذا صدر منه خاص ثمّ صدر عام بعد حضور وقت العمل به فلا محالة يكون العام ناسخاً للخاص إذا كان ظهوره في العموم مستنداً إلى الوضع وظهور الخاص في الدوام والاستمرار مستنداً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة.
وأمّا في الأحكام الشرعية الصادرة من المولى الحقيقي فهو غير تام، والسبب في ذلك: هو أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها ثابتة في الشريعة الاسلامية المقدّسة حيث إنّها هي ظرف ثبوتها فلا تقدم ولا تأخر بينها في هذا الظرف، وإنّما التأخر والتقدم بينها في مرحلة البيان، فقد يكون العام متأخراً عن الخاص في مقام البيان، وقد يكون بالعكس، مع أ نّه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع.
وعلى هذا الضـوء فالعام المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل بالخاص وإن كان بيانه متأخراً عن بيان الخاص زماناً، إلاّ أ نّه يدل على ثبوت مضمونه في الشريعة المقدّسة مقارناً لثبوت مضمون الخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما في مقام الثبوت والواقع.
ومن هنا تكشف العمومات الصادرة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) عن ثبوتها من الأوّل لا من حين صدورها، ولذا لو صلّى أحد في الثوب النجس

ــ[489]ــ

نسياناً ثمّ بعد مدة مثلاً تذكر وسأل الإمام (عليه السلام) عن حكم صلاته فيه فأجاب (عليه السلام) بالاعادة، فهل يتوهم أحد أ نّه (عليه السلام) في مقام بيان حكم صلاته بعد ذلك لا من الأوّل.
فالنتيجة: أنّ الروايات الصـادرة من الأئمـة الأطهار (عليهم السلام) من العمومات والخصوصات بأجمعها تكشف عن ثبوت مضامينها من الأوّل، ولا إشكال في هذه الدلالة والكشف، ومن هنا يصح نسبة حديث صادر عن الإمام المتأخر إلى الإمام المتقدم كما في الروايات. ومن الطبيعي أ نّه لم تكن النسبة صحيحة، فما فيها من أ نّهم (عليهم السلام) جميعاً بمنزلة متكلم واحد إنّما هو ناظر إلى هذا المعنى يعني أنّ لسان جميعهم لسان حكاية الشرع.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أنّ العام المتأخر زماناً عن الخاص إنّما [ المتأخر ] هو زمان بيانه فحسب لا ثبوت مدلوله، فانّه مقارن للخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما بحسبه، مثلاً العام الصادر عن الصادق (عليه السلام) مقارن مع الخاص الصادر عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتأخير إنّما هو في بيانه، وعليه فلا موجب لتوهم كونه ناسخاً للخاص، بل لا مناص من جعل الخاص مخصصاً له، ومن هنا قلنا إنّ العام الصادر عن الصادق (عليه السلام) يصح نسبته إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
ومن المعلوم أ نّه لو كان صادراً في زمانه (عليه السلام) لم تكن شبهة في كون الخاص مخصصاً له، فكذا الحال فيما إذا كان صادراً في زمان الصادق (عليه السلام) بعد ما عرفت من أ نّه لا أثر للتقدم والتأخر من ناحية البيان وأنّ الصادر في زمانه (عليه السلام) كالصادر في زمان الأمير (عليه السلام) أو

ــ[490]ــ

الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن هنا يكون دليل المخصص كاشفاً عن تخصيص الحكم العام من الأوّل لا من حين صدوره وبيانه.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر نقطة الفرق بين الأحكام الشرعية والأحكام العرفية، فانّ صدور الحكم من المولى العرفي لا يدل على ثبوته من الأوّل وإنّما يدل على ثبوته من حين صدوره، فاذا افترضنا صدور خاص منه وبعد حضور وقت العمل به صدر منه عام فلا محالة يكون العام ظاهراً في نسخه للخاص، وهذا بخلاف ما إذا صدر حكم المولى الحقيقي في زمان متأخر فانّه يدل على ثبوته من الأوّل لا من حين صدوره، والتأخير إنّما هو في بيانه لأجل مصلحة من المصالح أو لأجل مفسدة في تقديم بيانه، ولأجل هذه النقطة تفترق الأحكام الشرعية عن الأحكام العرفية فيما تقدّم من النسخ والتخصيص في بعض الموارد.
فالنتيجة في نهاية المطاف: أنّ المتعيّن هو التخصيص في جميع الصور المتقدمة ولا مجال لتوهم النسخ في شيء منها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net