الكلام في النسخ 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4271


ــ[491]ــ
 

النسـخ

وهو في اللغة(1) بمعنى الازالة، ومنه نسخت الشمس الظل. وفي الاصطلاح هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه، ولا يفرق فيه بين أن يكون حكماً تكليفياً أو وضعياً. ومنه يظهر أنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ووجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان وهكذا ليس من النسخ في شيء، والوجه في ذلك: هو أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ للحكم المجعول في الشريعة المقدّسة مرتبتين:
الاُولى: مرتبة الجعل وهي مرتبة ثبوت الحكم في عالم التشريع والانشاء، وقد ذكرنا في غير مورد أنّ الحكم في هذه المرتبة مجعول على نحو القضايا الحقيقية التي لاتتوقف على وجود موضوعها في الخارج، فانّ قوام تلك القضايا إنّما هو بفرض وجود موضوعها فيه سواء أكان موجوداً حقيقةً أم لم يكن، مثلاً قول الشارع: شرب الخمر حرام ليس معناه أنّ هنا خمراً في الخارج وأنّ هذا الخمر محكوم بالحرمة في الشريعة، بل مردّه هو أنّ الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة فيها سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن.
الثانية: مرتبة الفعـلية وهي مرتبة ثبوت ذلك الحكم في الخارج بثبوت موضوعه فيه، مثلاً إذا تحقق الخمر في الخارج تحققت الحرمة المجعولة له في
ـــــــــــــــــــــ
(1) المصباح المنير: 603.

ــ[492]ــ

الشريعة المقدّسة، ومن الطبيعي أنّ هذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها خارجاً فلا يعقل انفكاكها عنه، حيث إنّ نسبة الحكم إلى الموضوع من هذه الناحية نسبة المعلول إلى العلة التامة، وعليه فاذا انقلب الخمر خلاً فبطبيعة الحال ترتفع تلك الحرمة الفعلية الثابتة له في حال خمريته، ضرورة أ نّه لا يعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وإلاّ لزم الخلف.
وبعد ذلك نقول: إنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شيء ولا كلام في إمكانه ووقوعه في الخارج، وإنّما الكلام في إمكان ارتفاع الحكم عن موضوعه المفروض وجوده في عالم التشريع والجعل.
المعروف والمشهور بين المسلمين هو إمكان النسخ بالمعنى المتنازع فيه (رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والجعل).
وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ واستندوا في ذلك إلى شـبهة لا واقع موضوعي لها، وحاصلها: هو أنّ النسخ يستلزم أحد محذورين لايمكن الالتزام بشيء منهما، إمّا عدم حكمة الناسخ أو جهله وكلاهما مستحيل في حقّه تعالى، والسبب فيه: أنّ تشريع الأحكام وجعلها منه (سبحانه وتعالى) لا محالة يكون على طبق الحكم والمصالح التي هي تقتضيه، بداهة أنّ جعل الحكم جزافاً وبدون مصلحة ينافي حكمة الباري تعالى فلا يمكن صدوره منه.
وعلى هذا الضوء فرفع الحكم الثابت في الشريعة المقدّسة لموضوعه لا يخلو من أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من جهة المصلحة وعلم الناسخ بها، أو يكون من جهة البداء وكشف الخلاف كما يقع ذلك غالباً في الأحكام والقوانين العرفية ولا ثالث لهما، والأوّل ينافي حكمة الحكيم المطلق فانّ مقتضى حكمته استحالة صدور الفعل منه جزافاً. ومن المعلوم أنّ رفع الحكم مع بقاء

ــ[493]ــ

مصلحته المقتضية لجعله أمر جزاف فيستحيل صدوره منه. والثاني يستلزم الجهل منه تعالى وهو محال في حقّه سبحانه.
فالنتيجة: أنّ وقوع النسخ في الشريعة المقدّسة بما أ نّه يستلزم المحال فهو محال لا محالة.
والجواب عنها: أنّ الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة من قبل الحكيم تعالى على نوعين:
أحدهما: ما لايراد منه البعث أو الزجر الحقيقيين كالأحكام الصادرة لغرض الامتحان أو ما شـاكله. ومن الواضح أ نّه لا مانع من إثبات هذا النوع من الأحكام أوّلاً ثمّ رفعه، حيث إنّ كلاً من الاثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة فلا يلزم من رفعه خلاف الحكمة، لفرض أنّ حكمته ـ وهي الامتحان ـ قد حصلت في الخارج ومع حصولها فلا يعقل بقاؤه، ولا كشف الخلاف المستحيل في حقّه تعالى حيث لا واقع له غير هذا.
وثانيهما: ما يراد منه البعث أو الزجر الحقـيقي، يعني أنّ الحكم المجعول حكم حقيقي ومع ذلك لا مانع من نسخه بعد زمان، والمراد من النسخ كما عرفت هو انتهاء الحكم بانتهاء أمده، يعني أنّ المصلحة المقتضية لجعله تنتهي في ذلك الزمان فلا مصلحة له بعد ذلك، وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم المجعول على طبقها بحسب مقام الثبوت مقيداً بذلك الزمان الخاص المعلوم عند الله تعالى المجهول عند الناس، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الذي قيّد به في الواقع وحلول أجله الواقعي الذي اُنيط به، وليس المراد منه رفع الحكم الثابت في الواقع ونفس الأمر حتى يكون مستحيلاً على الحكيم تعالى العالم بالواقعيات.

ــ[494]ــ

فالنتيجة: أنّ النسخ بالمعنى الذي ذكرناه أمر ممكن جزماً ولايلزم منه شيء من المحذورين المتقدمين، بيان ذلك: أ نّه لا شبهة في دخل خصوصيات الأفعال في ملاكات الأحكام وأ نّها تختلف باختلاف تلك الخصوصيات، سواء أكانت تلك الخصوصيات زمانية أو مكانية أو نفس الزمان كأوقات الصلاة والصيام والحج وما شاكل ذلك، فانّ دخلها في الأحكام المجعولة لهذه الأفعال مما لا يشك فيه عاقل فضلاً عن فاضل، فاذا كانت خصوصيات الزمان دخيلةً في ملاكات الأحكام وأ نّها تختلف باختلافها، فلتكن دخيلةً في استمرارها وعدمه أيضاً، ضرورة أ نّه لا مانع من أن يكون الفعـل مشتملاً على مصلحة في مدة معيّنة وفي قطعة خاصة من الزمان فلايكون مشتملاً عليها بعد انتهاء تلك المدة.
وعليه فبطبيعة الحال يكون جعل الحكم له من الحكيم المطلق العالم باشتماله كذلك محدوداً بأمد تلك المصلحة فلايعقل جعله منه على نحو الاطلاق والدوام، فاذن لا محالة ينتهي الحكم بانتهاء تلك المدة حيث إنّها أمده.
وعلى الجملة: فاذا أمكن أن يكون لليوم المعيّن أو الاُسبوع المعيّن أو الشهر المعيّن دخل في مصلحة الفعل وتأثير فيها أو في مفسدته أمكن دخل السنة المعيّنة أو السنين المعيّنة فيها أيضاً، فاذا كان الفعل مشتملاً على مصلحة في سنين معيّنة لم يجعل له الحكم إلاّ في هذه السنين فحسب، فيكون أجله وأمده انتهاء تلك السنين، فاذا انتهت انتهى الحكم بانتهاء أمده وحلول أجله، هذا [ بحسب مقام الثبوت، وأمّا ] بحسب مقام الاثبات، فالدليل الدال عليه وإن كان مطلقاً إلاّ أ نّه كما يمكن تقييد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل فكذلك يمكن تقييد إطلاقه من جهة الزمان أيضاً بدليل منفصل، حيث إنّ المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الاطلاق، مع أنّ المراد الجدي هو الخاص أو المقيد والموقت بوقت خاص ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل.

ــ[495]ــ

فالنسخ في مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده، وفي مقام الاثبات رفع الحكم الثابت لاطلاق دليله من حيث الزمان، ولا يلزم منه خلاف الحكمة ولا كشف الخلاف المستحيل في حقّه تعالى. هذا بناءً على وجهة نظر العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، وأمّا على وجهة نظر من يرى تبعية الأحكام لمصالح في أنفسها فالأمر أيضاً كذلك، فانّ المصلحة الكامنة في نفس الحكم تارةً تقتضي جعله على نحو الاطلاق والدوام في الواقع، وتارة اُخرى تقتضي جعله في زمان خاص ووقت مخصوص فلا محالة ينتهي بانتهاء ذلك الوقت ـ وهذا هو النسخ ـ وإن كان الفعل باقياً على ما هو عليه في السابق، أو فقل: إنّ في إيجاب شيء تارةً مصلحة في جميع الأزمنة، واُخرى في زمان خاص دون غيره.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أ نّه لا ينبغي الشك في إمكان النسخ بل وقوعه في الشريعة المقدّسة على وجهة نظر كلا المذهبين كمسألة القبلة أو نحوها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net