الكلام في البداء 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6923


ــ[496]ــ
 

البـداء

قد التزم الشيعة بالبداء في التكوينيات، وخالف في ذلك العامة (1) وقالوا باستحالة البداء فيها لاستلزامه الجهل على الحكيم تعالى، ومن هنا نسبوا إلى الشيعة ما هم براء منه، وهو تجويز الجهل عليه تعالى باعتبار التزامهم بالبداء.
ولكن من الواضح أ نّهم لم يحسنوا في الفهم ما هو مراد الشيعة من البداء ولم يتأملوا في كلماتهم حول هذا الموضوع وإلاّ لم ينسبوا إليهم هذا الافتراء الصريح والكذب البيّن. وممّن نسب ذلك إلى الشيعة الفخر الرازي في تفسـيره الكبير عند تفسير قوله تعالى: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ) قال: قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده(2) وهذا كما ترى كذب صريح على الشيعة. وكيف كان فلا يلزم من الالتزام بالبداء الجهل عليه تعالى، كيف فانّ الشيعة ملتزمون به، فمع ذلك يقولون باستحالة الجهل عليه سبحانه وتعالى.
وقد ورد في بعض الروايات أنّ «من زعم أنّ الله (عزّ وجلّ) يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه»(3) وفي بعضها الآخر «فأمّا من قال بأنّ الله
ـــــــــــــــــــــ
(1) الإحكام للآمدي 3: 102، شرح اللُّمع 1: 485.
(2) التفسير الكبير 19: 66.
(3) إكمال الدين: 70.

ــ[497]ــ

تعالى لا يعلم الشيء إلاّ بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد»(1).
وقد انفقت كلمة الشيعة الإمامية على أنّ الله تعالى لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق بشتى أنواعه بمقتضى حكم العقل الفطري وطبقاً للكتاب والسنّة، بيان ذلك: أ نّه لا شبهة في أنّ العالم بشتى ألوانه وأشكاله تحت قدرة الله تعالى وسلطانه المطلق، وأنّ وجود أيّ ممكن من الممكنات فيه منوط بمشيئته تعالى وإعمال قدرته، فان شاء أوجده وإن لم يشأ لم يوجده، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ الله سبحانه عالم بالأشياء بشتى أنواعها وأشكالها منذ الأزل وأنّ لها بجميع أشكالها تعييناً علمياً في علم الله الأزلي، ويعبّر عن هذا التعيين بتقدير الله مرّةً وبقضائه مرّة اُخرى.
ومن ناحية ثالثة: أنّ علمه تعالى بالأشياء منذ الأزل لا يوجب سلب قدرة الله تعالى واختياره عنها، ضرورة أنّ حقيقة العلم بشيء الكشف عنه على واقعه الموضوعي من دون أن يوجب حدوث شيء فيه، فالعلم الأزلي بالأشياء هو كشفها لديه تعالى على واقعها من الاناطة بمشيئة الله واختياره، فلا يزيد انكشاف الشيء على واقع ذلك الشيء، وقد فصّلنا الحديث من هذه الناحية في مبحث الجبر والتفويض بشكل موسّع(2).
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث: هي أنّ معنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها أنّ الأشياء بجميع ضروبها كانت متعيّنةً في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أنّ وجودها معلّق على أن تتعلق المشيئة الإلهية
ـــــــــــــــــــــ
(1) الغيبة: 430 / 420.
(2) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 418.

ــ[498]ــ

بها حسب اقتضاء الحِكم والمصالح التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي.
ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان ما ذهب إليه اليهود من أنّ قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه، ومن هنا قالوا يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والاعطاء، ووجه الظهور: ما عرفت من أنّ قلم التقدير والقضاء لا يزاحم قدرة الله تعالى على الأشـياء حين إيجادها، حيث إنّه تعلق بها على واقعها الموضوعي من الاناطة بالمشيئة والاختيار فكيف ينافيها.
ومن الغريب جداً أ نّهم (لعنهم الله) التزموا بسلب القدرة عن الله ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد، مع أنّ الملاك في كليهما واحد ـ وهو العلم الأزلي ـ فانّه كما تعلّق بأفعاله تعالى كذلك تعلّق بأفعال العبيد.
فالنتيجة: أ نّهم التزموا بحفظ القدرة لأنفسهم وأنّ قلم التقدير والقضاء لا ينافيها، وسلب القدرة عن الله تعالى وأنّ قلم التقدير والقضاء ينافيها، وهذا كما ترى.
وبعد ذلك نقول: إنّ المستفاد من نصوص الباب أنّ القضـاء الإلهي على ثلاثة أنواع.
الأوّل: قضاؤه تعالى الذي لم يُطلع عليه أحداً من خلقه حتى نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو العلم المخزون الذي استأثر به لنفسه المعبّر عنه باللوح المحفوظ تارةً وباُمّ الكتاب تارةً اُخرى. ولا ريب أنّ البداء يستحيل أن يقع فيه، كيف يتصور فيه البداء وأنّ الله سبحانه عالم بجميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة لا في الأرض ولا في السماء،

ــ[499]ــ

ومن هنا قد ورد في روايات كثيرة أنّ البداء إنّما ينشأ من هذا العلم لا أ نّه يقع فيه:
منها: ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن بن محمّد النوفلي أنّ الرضا (عليه السلام) قال لسليمان المروزي «رويت عن أبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) أ نّه قال: إنّ لله (عزّ وجلّ) علمين: علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلاّ هو، من ذلك يكون البداء، وعلماً علّمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيّك يعلمونه»(1).
ومنها: ما عن بصائر الدرجات باسـناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال إنّ لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّ هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ونحن نعلمه»(2).
الثاني: قضاء الله الذي أخبر نبيّه وملائكته بأ نّه سوف يقع حتماً، ولا شبهة في أنّ هذا القسم أيضاً لا يقع فيه البداء، ضرورة أنّ الله تعالى لا يكذّب نفسه ورسله وملائكته وأولياءه، فلا فرق بينه وبين القسم الأوّل من هذه الناحية. نعم، يفترق عنه من ناحية اُخرى وهي أنّ هذا القسم لا ينشأ منه البداء دون القسم الأوّل.
وتدل على ذلك عدة روايات:
منها: قـوله (عليه السلام) في الرواية المتقـدمة عن الصدوق «إنّ علياً (عليه السلام) كان يقـول: العلم علمان، فعلم علّمه الله ملائكته ورسله، فما
ـــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد: 443.
(2) بصائر الدرجات: 109 / 2.

ــ[500]ــ

علّمه ملائكته ورسله فانّه يكون ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يُطلع عليه أحداً من خلقه يقدّم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء»(1).
ومنها: ما روى العياشي عن الفضيل قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الاُمور اُمور محتومة جائية لا محالة، ومن الاُمور اُمور موقوفة عند الله يقدّم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يُطلع على ذلك أحداً ـ يعني الموقوفة ـ فأمّا ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته»(2).
الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيّه وملائكته بوقوعه في الخارج لا بنحو الحتم، بل معلّقاً على أن لا تتعلق مشيئة الله على خلافه، وفي هذا القسم يقع البداء عنه بعالم المحو والاثبات وإليه أشار بقوله: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ)(3)، (للهِِ ا لاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ)(4) وقد دلت على ذلك عدة نصوص:
منها: ما في تفسير علي بن إبراهيم عن عبدالله بن مسكان عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال: إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فاذا أراد الله أن يقدّم شيئاً أو يؤخّره أو ينقص شيئاً أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثمّ أثبت الذي
ـــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد: 441 ـ 444.
(2) تفسير العياشي 2: 217 / 65.
(3) الرعد 13: 39.
(4) الروم 30: 4.

 
 

ــ[501]ــ

أراده. قلت: وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب الله؟ قال: نعم. قلت: فأيّ شيء يكون بعده؟ قال: سبحان الله ثمّ يحدث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى»(1).
ومنها: ما في تفسيره أيضاً عن عبدالله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبدالله وأبي الحسن (عليه السلام) عند تفسير قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) أي يقدّر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك السنة وله فيه البداء والمشيئة يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء(2).
ومنها: ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أ نّه «قال: لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ) »(3) ومثله ما عن الصدوق في الأمالي والتوحيد عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
ومنها: ما في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: لولا آية في كتاب الله لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة، فقلت: أيّة آية؟ قال: قول الله (يَمْحُو اللهُ) » إلخ(4).
ومنها: ما في قرب الاسناد عن البزنطي عن الرضا (عليه السلام) «قال: قال أبو عبدالله وأبو جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي وعلي بن أبي
ـــــــــــــــــــــ
(1) تفسير علي بن إبراهيم 1: 366.
(2) تفسير علي بن إبراهيم 2: 290.
(3) الاحتجاج 1: 610 / 138.
(4) تفسير العياشي 2: 215 / 59.

ــ[502]ــ

طالب(عليهم السلام): لولا آية في كتاب الله لحدّثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة (يَمْحُو اللهُ)» إلخ(1).
ومنها: ما عن العياشي عن ابن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) «يقول: إنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده اُمّ الكتاب، وقال: فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، وليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنّ الله لا يبدو له من جهل»(2).
ومنها: ما رواه عن عمار بن موسى عن أبي عبدالله (عليه السلام) «سئل عن قول الله (يَمْحُو اللهُ) إلخ قال: إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت، فمن ذلك الذي يردّ الدعاء القضاء، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يردّ به القضاء حتى إذا صار إلى اُمّ الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئاً»(3) ومنها غيرها من الروايات الدالة على ذلك.
فالنتيجة على ضوء هذه الروايات: هي أنّ البداء يستحيل أن يقع في القسم الأوّل من القضاء المعبّر عنه باللوح المحفوظ وباُمّ الكتاب والعلم المخزون عند الله، بداهة أ نّه كيف يتصور البداء فيه وأنّ الله سبحانه عالم بكنه جميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. نعم، هذا العلم منشأ لوقوع البداء، يعني أنّ انسداد باب هذا العلم لغيره تعالى حتى الأنبياء والأوصياء والملائكة أوجب وقوع البداء في بعض إخباراتهم.
وكذا الحال في القسم الثاني من القضاء، نظراً إلى أنّ العقل يستقل باستحالة
ـــــــــــــــــــــ
(1) قرب الاسناد: 353 / 1266.
(2) تفسير العياشي 2: 218 / 71.
(3) تفسير العياشي 2: 220 / 74.

ــ[503]ــ

تكذيب الله تعالى نفسه أو أنبياءه.
وأمّا القسم الثالث فهو مورد لوقوع البداء، ولا يلزم من الالتزام بالبداء فيه أيّ محذور كنسبة الجهل إلى الله (سبحانه وتعالى) ولا ما ينافي عظمته وجلاله ولا الكذب، حيث إنّ إخباره تعالى بهذا القضاء لنبيّه أو وليّه ليس على نحو الجزم والبت، بل هو معلّق بعدم تعلق مشيئته بخلافه، فاذا تعلّقت المشيئة على الخلاف لم يلزم الكذب، فانّ ملاك صدق هذه القضية وكذبها إنّما هو بصدق الملازمة وكذبها، والمفروض أنّ الملازمة صادقة وهي وقوعه لو لم تتعلق المشيئة الإلهية على خلافه.
مثلاً إنّ الله تعالى يعلم بأنّ زيداً سوف يموت في الوقت الفلاني ويعلم بأنّ موته فيه معلّق على عدم إعطائه الصدقة أو ما شـاكلها، ويعلم بأ نّه يعطي الصدقة فلا يموت فيه، فهاهنا قضيتان شرطيتان ففي إحداهما قد علّق موته في الوقت الفلاني بعدم تصدقه أو نحوه، وفي الاُخرى قد علّق عدم موته فيه على تصدقه أو نحوه.
ونتيجة ذلك: أنّ المشيئة الإلهية في القضية الاُولى قد تعلقت بموته إذا لم يتصدق، وفي القضية الثانية قد تعلقت بعدم موته وبقائه حيّاً إذا تصدق، ومن الواضح أنّ إخباره تعالى بالقضية الاُولى ليس كذباً، فانّ المناط في صدق القضية الشرطية وكذبها هو صدق الملازمة بين الجزاء والشرط وكذبها لا بصدق طرفيها، بل لا يضر استحالة وقوع طرفيها في صدقها، فعلمه تعالى بعدم وقوع الطرفين هنا لا يضر بصدق إخباره بالملازمة بينهما. وكذا لا محذور في إخبار النبي أو الوصي بموته في هذا الوقت معلّقاً بتعلق المشيئة الإلهية به، فانّ جريان البداء فيه لا يوجب كون الخبر الذي أخبر به المعصوم كاذباً، لفرض أنّ المعصوم لم يخبر بوقوعه على سبيل الحتم والجزم ومن دون تعليق،

ــ[504]ــ

وإنّما أخبر به معلّقاً على أن تتعلق المشيئة الإلهية به أو أن لا تتعلق بخلافه، ومن الواضح أنّ صدق هذا الخبر وكذبه إنّما يدوران مدار صدق الملازمة بين هذين الطرفين وكذبها لا وقوعهما في الخارج وعدم وقوعهما فيه.
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي أ نّه لا مانع من الالتزام بوقوع البداء في بعض إخبارات المعصومين (عليهم السلام) في الاُمور التكوينية، ولا يلزم منه محذور لا بالاضافة إلى ذاته (سبحانه وتعالى) ولا بالاضـافة إليهم (عليهم السلام) (1).
ـــــــــــــــــــــ
(1) ولو أغمضنا عن تلك الروايات وافترضنا أ نّه لم تكن في المسألة أيّة رواية من روايات الباب، فما هو موقف العقل فيها؟ الظاهر بل لا ريب في أنّ موقفه هو موقف الروايات الدالة على أنّ قضاء الله تعالى على ثلاثة أنواع، والسبب في ذلك: أنّ العقل يدرك على سبيل الحتم والجزم أنّ البشر مهما بلغ من الكمال ذروته كنبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستحيل أن يحيط بجميع ما في علم الله (سبحانه وتعالى) هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ جريان البداء ووقوعه في الخارج بنفسه دليل على ذلك، حيث إنّه يستحيل جريانه في علمه تعالى، لاستلزامه الجهل بالواقع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد ثبت على ضوء الكتاب والسنّة والعقل الفطري أنّ الله سبحانه عالم بجميع الكائنات بشتى أنواعها وأشكالها، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة لا في السماء ولا في الأرض، وكذا يستحيل جريانه في القضايا التي أخبر بوقوعها ملائكته ورسله على سبيل الحتم والجزم، فانّ الله تعالى يستحيل أن يكذّب نفسه أو ملائكته أو رسله.
وعليه فبطبيعة الحال يجري البداء في القضايا التي أخبر بوقوعها لهم معلّقاً بتعلق =

ــ[505]ــ

وقد تحصّل مما ذكرناه: أنّ نتيجة البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية وتعتقد به هي الاعتراف الصريح بأنّ العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته حدوثاً وبقاءً، وأنّ مشيئة الله تعالى نافذة في جميع الأشياء، وأ نّها بشتى ألوانها باعمال قدرته واختياره، وقد تقدم الحديث من هذه الناحية في ضمن نقد نظريتي الجبر والتفويض(1) هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ في الاعتقاد بالبداء يتضح نقطة الفرق بين العلم الإلهي وعلم غيره، فانّ غيره وإن كان نبياً أو وصياً كنبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يمكن أن يحيط بجميع ما أحاط به علمه تعالى وإن كان عالما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= مشيئته به أو بعدم تعلّقها على خلافه المعبّر عنه بعالم المحو والاثبات، والنكتة في وقوعه فيها: هو أنّ الله تعالى يعلم بعدم الوقوع من جهة علمه بعدم وقوع ما علّق عليه في الخارج بعلمه المكنون والمخزون عنده لا يحيط به غيره أبداً.
وأمّا من أخبره تعالى بوقوعها على نحو التعليق فهو حيث لا يعلم بعدم وقوع المعلّق عليه فيه فلأجل ذلك قد يظهر ويبدو خلاف ما أخبر به، وهذا هو البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية ولا يستلزم كذب ذلك الخبر، لفرض أنّ إخباره عن الوقوع للناس ليس على سبيل الحتم والجزم، وإنّما كان على نحو التعليق، ولا يتصف مثل هذا الخبر بالكذب إلاّ في فرض عدم الملازمة بين المعلّق والمعلّق عليه، والمفروض أنّ الملازمة بينهما موجودة. وبذلك يظهر أنّ حقيقة البداء عند الشيعة هي الابداء والاظهار، وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل وبعلاقة المشاكلة، وإسناده إليه تعالى باعتبار أنّ علمه منشأ لوقوعه وجريانه.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أ نّه لا مناص من الالتزام بالبداء بالمعنى الذي ذكرناه على ضوء الروايات وحكم العقل.
(1) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 416.

ــ[506]ــ

بتعليم الله إيّاه بجميع عوالم الممكنات، إلاّ أ نّه لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون المعبّر عنه باللوح المحفوظ وباُمّ الكتاب، حيث إنّه لا يعلم بمشيئة الله تعالى لوجود شيء أو عدم مشيئته إلاّ حيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم.
ومن ناحية ثالثة: أنّ القول بالبداء يوجب توجه العبد إلى الله تعالى وتضرّعه إليه وطلبه إجابة دعائه وقضاء حوائجه ومهماته وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية، كل ذلك إنّما نشأ من الاعتقاد بالبداء وبأنّ عالم المحو والاثبات بيده تعالى (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَـاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِـتَابِ)(1) وهذا بخلاف القول بانكار البداء وأنّ كلّ ما جرى به قلم التقدير لا يمكن أن يتغير وأ نّه كائن لا محالة، حيث إنّ لازمه أنّ المعتقد بهذه العقيدة مأيوس عن إجابة دعائه وقضاء حوائجه، فانّ ما يطلبه العبد من ربّه لا يخلو من أن يجري قلم التقدير بايجاده أو لا يجري، فعلى الأوّل فهو موجود لا محالة، وعلى الثاني لن يوجد أبداً ولن ينفعه الدعاء والتضرع والتوسل حيث يعلم بأنّ تقديره لن يتغير أبداً.
ومن الطبيعي أنّ العبد إذا يئس من إجابة دعائه وأ نّه لا يؤثر في تقديره تعالى أصلاً، ترك التضرع والدعاء له تعالى، لعدم فائدة في ذلك. وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين (عليهم السلام) أ نّها تزيد في العمر والرزق وغير ذلك مما يطلبه العبد، ولأجل هذا السر قد ورد في الروايات الكثيرة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) الاهتمام بشأن البداء:
منها: ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد باسناده عن أحدهما (عليهما السلام) «قال: ما عبد الله (عزّ وجلّ) بشيء مثل البداء»(2).
ـــــــــــــــــــــ
(1) الرعد 13: 39.
(2) التوحيد: 331 / 1.

ــ[507]ــ

ومنها: ما رواه باسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال: ما عظّم الله (عزّ وجلّ) بمثل البداء»(1).
ومنها: ما رواه باسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال: ما بعث الله (عزّ وجلّ) نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصـال: الاقرار بالعبودية، وخلع الانداد، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء»(2) وقد ورد أيضاً في الروايات الكثـيرة من طرق أهل السنّة أنّ الصدقة والدعاء يغيّران القدر(3).
والنكتة في هذا الاهتمام: هو أنّ القول بعدم البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأنّ الله تعالى غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، حيث إنّه مخالف لصريح الكتاب والسنّة وحكم العقل الفطري كما عرفت، ومن المعلوم أنّ ذلك يوجب يأس العبد من إجابة دعائه، وهو يوجب تركه وعدم توجهه إلى ربّه في قضاء مهماته وطلباته.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية:
الاُولى: أنّ ما عن العامة من نسبة تجويز الجهل عليه (سبحانه وتعالى) إلى الشيعة باعتبار التزامهم بالبداء، فقد عرفت أ نّه افتراء صريح عليهم، وأنّ الالتزام بالبداء لا يستلزم ذلك، بل هو تعظيم وإجلال لذاته تعالى وتقدّس.
ـــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد: 333 / 2.
(2) التوحيد: 333 / 3.
(3) سنن الترمذي 8: 350 / 2065، مستدرك الحاكم 1: 493، مسند أحمد 5: 277 / 21352.

ــ[508]ــ

الثانية: أنّ العالم بأجمعه وبشتى أشكاله تحت سلطان الله تعالى وقدرته، كما أ نّه تعالى عالم به بجميع أشكاله منذ الأزل، وقد عرفت أنّ هذا العلم لا ينافي ولا يزاحم قدرته واختياره، ومن هنا قلنا إنّ ما ذهب إليه اليهود من أنّ قلم التقدير والقضاء إذا جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً، فانّ قلم التقدير والقضاء لا ينافي قدرته ولا يزاحم اختياره.
الثالثة: أنّ قضاءه تعالى على ثلاثة أنواع:
1 ـ قضاؤه الذي لم يُطلع عليه أحداً من خلقه.
2 ـ قضاؤه الذي أطلع بوقوعه أنبياءه وملائكته على سبيل الحتم والجزم.
3 ـ قضاؤه الذي أطلع بوقوعه أنبياءه وملائكته معلّقاً على أن لا تتعلق مشيئته على خلافه، ولا يعقل جريان البداء في القضاء الأوّل والثاني وإنّما يكون ظرف جريانه هو الثالث، وهذا التقسيم قد ثبت على ضوء الروايات وحكم العقل الفطري.
الرابعة: أ نّه لا يلزم من الالتزام بالبداء أيّ محذور كتجويز الجهل عليه سبحانه أو ما ينافي عظمته وإجلاله أو الكذب، بل في الاعتقاد به تعظيم لسلطانه وإجلال لقدرته، كما لا يلزم منه محذور بالاضافة إلى أنبيائه وملائكته، بل فيه امتياز علم الخالق عن علم المخلوق.
الخامسة: أنّ حقيقة البداء عند الشيعة الإمامية هي بمعنى الابداء أو الاظهار وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل وبعلاقة المشاكلة.
السادسة: أنّ فائدة الاعتقاد بالبداء هي الاعتراف الصريح بأنّ العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ)وتوجه العبد إلى الله تعالى وتضرّعه إليه قي قضاء حوائجـه ومهماته وعدم يأسه من

ــ[509]ــ

ذلك، وهذا بخلاف القول بانكار البداء، فانّه يوجب يأس العبد ولا يرى فائدةً في التضرع والدعاء، وهذا هو السر في اهتمام الأئمة (عليهم السلام) بشأن البداء في الروايات الكثيرة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net