مراتب الحكم - أخذ الظن بحكم في موضوع نفسه - في موضوع حكم يماثله 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5872


 وأمّا على المبنى المختار من أ نّه ليس للحكم إلاّ مرتبتان:

 الاُولى: مرتبة الجعل والانشاء بداعي البعث والتحريك بنحو القضيّة الحقيقية كقوله سبحانه وتعالى: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ا لْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(1).

 الثانية: مرتبة الفعلية والخروج عن التعليق والتقدير بتحقق موضوعه خارجاً، كما إذا صار المكلف مستطيعاً، وأمّا الانشاء لغرض الامتحان أو التهديد أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) آل عمران 3: 97.

ــ[50]ــ

الاستهزاء ونحوها، فليس من مراتب الحكم، ولا يطلق عليه الحكم أصلاً، وكذا الحال في مرتبة الاقتضاء، إذ مجرد وجود الملاك للحكم مع وجود مانع من إنشائه لا يستحق إطلاق الحكم عليه. فلا يمكن أخذ القطع بمرتبة الجعل من حكم في موضوع مرتبة الفعلي منه، إذ ليس المراد من القطع المأخوذ في مرتبة الفعلي من الحكم هو القطع بالحكم الثابت لغير القاطع، وإلاّ فامكانه بمكان من الوضوح بلا حاجة إلى فرض تعدد المرتبة، لصحّة ذلك ولو مع وحدة المرتبة، كما لو فرض أنّ القطع بوجوب الحج على زيد قد اُخذ في موضوع وجوبه على عمرو.

 بل المراد هو القطع بالحكم الثابت لنفس القاطع، وحينئذ لا يمكن أخذ القطع بمرتبة الجعل من حكم في موضوع مرتبة الفعلي منه، إذ ثبوت الحكم لشخص القاطع جعلاً ملازم لفعليته، فلا محالة يتعلق القطع بالحكم الفعلي، وحيث إنّ المفروض دخل القطع في فعلية الحكم لزم الدور.

 توضيح ذلك: أنّ وجوب الحج مثلاً ـ المجعول على المستطيع بنحو القضيّة الحقيقية ـ لايشمل هذا المكلف، ولا يكون حكماً له إلاّ بعد حصول الاستطاعة خارجاً، وإلاّ فليس حكماً مجـعولاً له، بل هو حكم مجعول لغـيره، فلا يمكن تعلق القطع بشمول الحكم له جعلاً إلاّ بعد حصول الاستطاعة له خارجاً، ومعه يكون الحكم فعلياً في حقّه. فلو فرض أخذ القطع بالحكم المجعول بنحو القضيّة الحقيقية في موضوع مرتبة الفعلي منه، لا يعلم بثبوت الحكم له جعلاً إلاّ بعد حصول القطع، وحصول القطع به يتوقف على ثبوته له جعلاً، إذ القطع طريق إلى الحكم، فلا بدّ في تعلّقه به من تحقق الحكم وثبوته في رتبة سابقة على تعلّق القطع به، وهذا هو الدور، هذا كلّه في أخذ القطع في موضوع الحكم.

 وأمّا الظن: فملخص الكلام فيه أ نّه يتصور أخذه في الموضوع تارةً بنحو

ــ[51]ــ

الصفتية، واُخرى بنحو الكاشفية والطريقية. وعلى التقديرين إمّا أن يكون جزءاً للموضوع أو تمامه، وعلى جميع التقادير إمّا أن يكون الظن معتبراً بجعل الشارع أو غير معتبر.

 ولا إشكال في إمكان أخذ الظن بحكم في موضوع حكم يخالفه، كما إذا قال المولى: إذا ظننت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدق، فان كان الظن تمام الموضوع ترتب عليه الحكم بلا فرق بين أن يكون الظن معتبراً أو غير معتبر، وإن كان جزءاً للموضوع والجزء الآخر هو الواقع، فان كان الظن معتبراً بالتعبد الشرعي ترتب عليه الحكم أيضاً، فانّ أحد جزأي الموضوع ـ وهو الظن ـ متحقق بالوجدان، والجزء الآخر ـ وهو الواقع ـ متحقق بالتعبد الشرعي. وإن كان الظن غير معتبر لا يترتب عليه الحكم إلاّ مع إحراز الجزء الآخر ـ وهو الواقع ـ بأمارة اُخرى معتبرة، أو بأصل من الاُصول المعتبرة.

 وأمّا أخذ الظن بحكم في موضوع نفسه إن كان متعلقاً بالحكم، أو أخذه في موضوع حكم متعلقه إن كان متعلقاً بالموضوع، فهو غير ممكن، لاسلتزامه الدور على ما تقدّم بيانه في القطع (1)، إذ لا فرق بين القطع والظن من هذه الجهة، بلا فرق بين الظن المعتبر وغيره في هذه الصورة.

 وأمّا أخذ الظن بحكم في موضوع حكم يماثله مع كون الظن معتبراً شرعاً فهو ممكن، لأنّ النسبة بين ثبوت الواقع والظن به عموم من وجه ولو في نظر الظان، إذ الظن وإن كان علماً تعبّداً، إلاّ أ نّه يحتمل مخالفته للواقع وجداناً، ففي مورد الاجتماع يلتزم بالتأكد. وبهذا ظهر أنّ أخذ الظن بحكم في موضوع حكم يماثله ممّا لا مانع منه، ولو قلنا بعدم إمكان ذلك في القطع، إذ القاطع لا يحتمل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 47.

ــ[52]ــ

أن يكون قطعه مخالفاً للواقع، فتكون النسبة بين الواقع وتعلّق القطع به في نظر القاطع هو العموم المطلق، فيمكن أن يتوهم أنّ أخذ القطع بحكم في موضوع حكم يماثله مستلزم لاجتماع المثلين في نظر القاطع، وإن تقدّم دفع هذا التوهم(1). وأمّا أخذ الظن بحكم في موضوع حكم يماثله، فليس فيه إلاّ اجتماع العنوانين، فيلتزم بالتأكد كما هو الحال في جميع موارد اجتماع العامين من وجه المحكومين بحكمين متماثلين.

 وإن كان الظـن غير معـتبر، فأخـذه في موضوع الحكم المماثل بمكان من الامكان، بل نقول بالامكان فيه ولو قلنا بالمنع في الظن المعتبر من جهة كونه علماً تعبداً، بخلاف الظن غير المعتبر، إذ لا يتصور فيه مانع أصلاً.

 وأمّا أخذ الظن بحكم في موضوع حكم يضاده، فإن كان الظن معتبراً، فلا ينبغي الاشكال في عدم إمكانه، إذ مقتضى حجّية الظن هو الانبعاث نحو عمل، ومقتضى الحكم المضاد هو الانبعاث نحو ضدّه، فلا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال، ومعه لا يصح تعلّق الجعل بهما من المولى الحكيم.

 هذا، مضافاً إلى ما ذكرناه في القطع المأخوذ في موضوع الحكم المضاد من لزوم اجتماع الضدّين في مقام الجعل، فراجع (2).

 وبالجملة: حكم الظن المعتبر هو حكم القطع في هذه الجهة، فكما لا يمكن ذلك في القطع، لا يمكن في الظن المعتبر أيضاً.

 وإن كان الظن غير معتبر، فالتزم صاحب الكفاية (3) (قدس سره) بامكانه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 48.

(2) ص 47 و 48.

(3) كفاية الاُصول: 267.

ــ[53]ــ

بدعوى أنّ الظن غير المعتبر في حكم الشك فتكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة، فلا يلزم من جعل الحكم المضاد في فرض الجهل بالواقع اجتماع الضدّين، وإلاّ فلا يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في جميع موارد الجهل بالواقع. وعليه فيمكن أن يحكم المولى بوجوب شرب مائع قام على حرمته ظن غير معتبر، لأنّ تعدد المرتبة مانع عن التضاد بين الحكمين.

 أقول: إنّ ما ذكره (قدس سره) وإن كان صحيحاً في نفسه، فان جعل الترخيص في موارد الشك في الوجوب أو الحرمة ـ على ما هو مقتضى أدلة البراءة ـ ممّا لا إشكال فيه، مع أ نّه يحتمل أن يكون الحكم الواقعي هو الوجوب أو الحرمة، إذ لا منافاة بين الترخيص الظاهري في ظرف الجهل والالزام الواقعي، كما هو مذكور في محلّه (1). إلاّ أ نّه لا ربط له بالمقام، إذ ليس الكلام في إمكان جعل الحكم الظاهري وعدمه، بل البحث إنّما هو في الحكم الواقعي من حيث إنّه يمكن أخذ الظن بحكم في موضوع حكم آخر يضاده أم لا، كما هو الحال في القطع، فانّ الكلام فيه كان في إمكان أخذه في موضوع حكم مضاد لمتعلقه، باعتبار الحكم الواقعي، إذ لا يتصور فيه حكم ظاهري.

 والصحيح: أنّ أخذ الظن بحكم في موضوع حكم آخر مضاد له غير ممكن وإن كان الظن غير معتبر، كما إذا قال المولى: إذا ظننت بوجوب الشيء الفلاني حرم عليك هذا الشيء، وذلك لما تقدّم في القطع (2) من أنّ الحكم الذي اُخذ في موضوعه الظن وإن كان مقيداً بصورة الظن، إلاّ أنّ الحكم الذي تعلّق به الظن مطلق، وإطلاقه يشمل صورة الظن به، فيلزم اجتماع الضدّين في هذا الفرض،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 125 وما بعدها.

(2) في ص 48.

ــ[54]ــ

ففي مفروض المثال الحرمة وإن كانت مقيّدة بصورة الظن بالوجـوب، إلاّ أنّ إطلاق الوجوب يشمل ما لو تعلّق به الظن وما لم يتعلق به، ففي صورة تعلّق الظن به يلزم اجتماع الوجوب والحرمة، وهو محال.

 وتوهّم أ نّه يحتمل أن يكون الظن مخالفاً للواقع، فلا يكون هناك إلاّ حكم واحد، وهو ما اُخذ الظن في موضوعه مدفوع، بأ نّه يكفي في الاستحالة احتمال مطابقته للواقع، فانّ احتمال اجتماع الضدّين أيضاً محال كما هو ظاهر.

تنبيه:

 لا يخفى أنّ البحث عن إمكان أخذ الظن بحكم في موضوع حكم آخر يخالفه أو يماثله أو يضاده وعدمه، إنّما هو بحث علمي بَحت، ولا تترتب عليه ثمرة عملية أصلاً، إذ لم يوجد أخذ الظن في موضوع حكم من الأحكام في شيء من الأدلة الشرعية.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net