القطع الحاصل من المقدّمات العقلية 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5657


 أمّا القسم الأوّل: فالصحيح أ نّه غير مسـتلزم لثبوت الحكم الشرعي، إذ قد تكون المصلحة المدركة بالعقل مزاحمة بالمفسدة وبالعكس، والعقل لا يمكنه الاحاطة بجميع جهات المصالح والمفاسد والمزاحمات والموانع، فبمجرد إدراك مصلحة أو مفسدة لا يمكن الحكم بثبوت الحكم الشرعي على طبقهما، وهذا القسم هو القدر المتيقن من قوله (عليه السلام): «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» وقوله (عليه السلام): «ليس شيء أبعد من دين الله عن عقول الرجال» (1) فان كان مراد الأخباريين من عدم حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية هذا المعنى فهو الحق.

 وأمّا القسم الثاني: فهو وإن كان ممّا لا مساغ لانكاره، فانّ إدراك العقل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم الحديثان في ص 26 فراجع.

ــ[60]ــ

حسن بعض الأشياء وقبح البعض الآخر ضروري، كيف ولولا ذلك لا طريق إلى إثبات النبوّة والشريعة، فانّه لولا حكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب لم يمكن تصديق النبي (صلّى الله عليه وآله) لاحتمال الكذب في ادعائه النبوة. إلاّ أ نّك قد عرفت في بحث التجري (1) أنّ هذا الحكم العقلي في طول الحكم الشرعي وفي مرتبة معلوله، فانّ حكم العقل بحسن الاطاعة وقبح المعصية إنّما هو بعد صدور أمر مولوي من الشارع، فلا يمكن أن يستكشف به الحكم الشرعي.

 وأمّا القسم الثالث: فلا ينبغي التوقف والاشكال في استتباعه الحكم الشرعي، فانّ العقل إذا أدرك الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته أو بين وجوب شيء وحرمة ضدّه وثبت وجوب شيء بدليل شرعي، فلا محالة يحصل له القطع بوجوب مقدمته وبحرمة ضدّه أيضاً، إذ العلم بالملازمة والعلم بثبوت الملزوم علّة للعلم بثبوت اللاّزم، ويسمّى هذا الحكم بالعقلي غير المستقل، لكون إحدى مقدّمتيه شرعية على ما عرفت.

 وأمّا الكبرى ـ وهي حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ـ فتحقيق الحال فيها يقتضي البحث أوّلاً: عن مقام الثبوت، وأنّ المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ممكن أو محال. وثانياً عن مقام الاثبات، وأنّ الأدلة التي ذكرها الأخباريون تدل على عدم حجّية القطع المذكور أم لا.

 أمّا الكلام في مقام الثبوت، فهو أ نّه ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري (2)(قدس سره) وأكثر من تأخر عنه: أ نّه لا يمكن المنع عن العمل بالقطع ولو كان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 25.

(2) فرائد الاُصول 1: 52، وراجع أيضاً التنبيه الثاني ص 61.

 
 

ــ[61]ــ

حاصلاً من غير الكتاب والسنّة، لأنّ الحجّية ذاتية للقطع، فيستحيل المنع عن العمل به، لاستلزامه التناقض واقعاً أو في نظر القاطع. إلاّ أنّ العلاّمة النائيني (1)(قدس سره) التزم بامكان المنع عنه بمعنىً لا يرجع إلى المنع عن العمل بالقطع، ليردّ بأنّ حجّية القطع ذاتية لا يمكن المنع عن العمل به، بل بمعنى يرجع إلى تقييد الحكم بعدم كونه مقطوعاً به من غير الكتاب والسنّة، فيكون التصرف من الشارع في المقطوع به لا في القطع ليكون منافياً لحجّيته الذاتية، وذكر لتقريب مراده في المقام مقدّمات ثلاث:

 المقدّمة الاُولى: أ نّه لا يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم، لاستلزامه الدور، لأنّ القطع طريق إلى متعلقه بالذات، فالقطع بحكم متوقف على تحقق الحكم، توقف الانكشاف على المنكشف، ولا مناص من أن يكون الحكم في رتبة سابقة على تعلّق القطع به، ليتعلق به القطع ويكشف عنه، وإذا فرض أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم، كان الحكم متوقفاً عليه توقف الحكم على موضوعه، وهذا هو الدور الواضح.

 المقدّمة الثانية: ما ذكره في بحث التعبدي والتوصلي من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، لأنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة، فكل مورد لايكون قابلاً للتقييد لايكون قابلاً للاطلاق، فلا يكون هناك تقييد ولا إطلاق.

 ونتيجة هاتين المقدّمتين: أنّ الأحكام الشرعية الأوّلية مهملة بالقياس إلى علم المكلف بها وجهله، لأنّ تقييـدها بالعلم بها غير ممكن بمقتضى المقدمـة الاُولى، وإطلاقها بالنسـبة إلى العلم والجهل أيضاً غير ممكن بمقتضى المقدمـة الثانية، فتكون مهملة لا محالة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 17 ـ 19، راجع أيضاً ص 72 ـ 74.

ــ[62]ــ

 المقدّمة الثالثة: أ نّه مع ذلك كان الاهمال في مقام الثبوت غير معقول، لأنّ الملاك إمّا أن يكون في جعل الحكم لخصوص العالم به، فلا بدّ من تقييده به. وإمّا أن يكون في الأعم منه، فلا بدّ من تعميمه، وحيث إنّ تقييد الحكم بالعلم به في نفس دليله غير ممكن، وكذا تعميمه، فلا بدّ من تتميمه بجعل ثانوي يعبّر عنه بمتمم الجعل، فامّا أن يقيّد بالعلم وسـمّاه بنتيجة التقييد، أو يعمم وسـمّاه بنتيجة الاطلاق، فالجعل الأوّل متعلق بنفس الحكم بنحو الاهمال. والجعل الثاني يبيّن اختصاصه بالعالم أو شموله للجاهل أيضاً. وهذا لا يكون مستلزماً للدور أصلاً.

 ثمّ إنّه في كل مورد ثبت فيه تخصيص الحكم بالعالم به ـ كما في موارد وجوب الجهر والاخفات، ووجوب التقصير في الصلاة ـ نلتزم فيه بنتيجة التقييد، بمقتضى ما دلّ على كفاية الجهر في مورد الاخفات وبالعكس مع الجهل، وكفاية التمام في موضع القصر كذلك، وكل مورد لم يثبت فيه ذلك نقول فيه بنتيجة الاطلاق، للعمومات الدالة على اشتراك العالم والجاهل في التكليف.

 فتحصّل: أنّ تقييد الحكم بالقطع ـ الحاصل من سبب خاص أو بعدم كونه مقطوعاً به من طريق خاص ـ ممّا لا مانع منه بمتمم الجعل، فالمنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ـ على هذا النحو ـ بمكان من الامكان، ففي مقام الثبوت لا محذور فيه، إلاّ أنّ مقام الاثبات غير تام، لعدم تمامية ما ذكره الأخباريون من الأدلة على المنع من العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة.

 وبالجملة: المنع عن العمل بالقطع بهذا المعنى الراجع إلى تقييد المقطوع به ممكن، إلاّ أ نّه لم يدل على وقوعه دليل إلاّ في موارد قليلة، كالقطع الحاصل من القياس على ما يظهر من رواية أبان. انتهى ملخص كلامه زيد في علوّ مقامه.

ــ[63]ــ

أقول: أمّا ما ذكره من المقدمة الاُولى، فهو تام، لما عرفت في بيان أقسام القطع الموضوعي(1)،

 فلا حاجة إلى الاعادة.

 وأمّا ما ذكره في المقدمة الثانية، من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، فهو غير تام لما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي (2). وقد أشبعنا الكلام فيه هناك بما لا مزيد عليه. وملخّصه:

 أنّ التقابل بين التقييد والاطلاق وإن كان من تقابل العدم والملكة (3) ـ كما ذكره (قدس سره) ـ لأنّ الاطلاق عبارة عن عدم التقييد فيما كان قابلاً له، إلاّ أ نّه لا يعتبر في تقابل العدم والملكة القابلية في كل مورد بشخصه، بل تكفي القابلية في الجملة، ألا ترى أنّ الانسان غير قابل للاتصاف بالقدرة على الطيران مثلاً، ومع ذلك صحّ اتّصافه بالعجز عنه، فيقال: إنّ الانسان عاجز عن الطيران، وليس ذلك إلاّ لكفاية القابلية في الجملة، وأنّ الانسان قابل للاتصاف بالقدرة في الجملة، وبالنسبة إلى بعض الأشياء وإن لم يكن قابلاً للاتصاف بالقدرة على خصوص الطيران، وكذا الانسان غير متصف بالعلم بذات الواجب تعالى، مع أ نّه متّصف بالجهل به، وليس ذلك إلاّ لأجل كفاية القابلية في الجملة، فانّ الانسان قابل للاتصاف بالعلم بالنسبة إلى بعض الأشياء، وإن كان غير قابل للاتصاف بالعلم بذاته تعالى وتقدّس. وعليه فاستحالة التقييد بشيء تستلزم ضرورية الاطلاق أو التقييد بضدّه، كما أنّ استحالة الجهل له تعالى تستلزم ضرورية العلم له، فاستحالة تقييد الحكم بقيد تقتضي ضرورية الاطلاق أو التقييد بضده، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بحث التعبدي والتوصلي.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 47.

(2) محاضرات في اُصول الفقه 1: 527 ـ 535.

(3) [ هذا الأمر مذكور في المحاضرات على سبيل الفرض والتنزّل فلاحظ ].

ــ[64]ــ

 ففي المقام حيث إنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل لما عرفت من استلزامه الدور، وتقييده بالجهل به أيضاً محال، لعين ذلك المحذور، فيكون مطلقاً بالنسبة إلى العلم والجهل لا محالة في الجعل الأوّلي، بلا حاجة إلى متمم الجعل. وإذا كان كذلك وقطع به المكلف يستحيل منعه عن العمل بقطعه، لاستلزامه اجتماع الضدّين اعتقاداً مطلقاً، ومطلقاً في صورة الاصابة.

 وقد ظهر بما ذكرناه فساد ما ذكره من صحّة أخذ القطع بالحكم في موضوعه شرطاً أو مانعاً بتتميم الجعل، لأ نّه متوقف على كون الجعل الأوّلي بنحو الاهمال، وقد عرفت كونه بنحو الاطلاق.

 وأمّا ما ذكره من أنّ العلم مأخوذ في الحكم في موارد الجهر والاخفات والقصر والتمام، ففيه أنّ الأمر ليس كذلك، إذ غاية ما يستفاد من الأدلة هو إجزاء أحدهما عن الآخر، وإجزاء التمـام عن القصر عند الجهل بالحكم، لا اختصاص الحكم بالعالم، فانّ اجتزاء الشارع ـ في مقام الامتثال بالجهر في موضع الاخفات أو العكس ـ لا يدل على اختصاص الحكم بالعالم، ويدل عليه أنّ العنوان المذكور في الرواية هو الجهر فيما ينبغي فيه الاخفات أو الاخفات فيما ينبغي فيه الجهر (1). وهذا التعبير ظاهر في ثبوت الحكم الأوّلي للجاهل أيضاً. ويؤيّده: تسالم الفقهاء على أنّ الجاهل بالحكمين مستحق للعقاب عند المخالفة فيما إذا كان جهله عن تقصير، فانّه على تقدير اختصاص الحكم بالعالم لا معنى لكون الجاهل مستحقاً للعقاب.

 وأمّا ما ذكره من ثبوت المنع عن العمل بالقطع الحاصل من القياس برواية أبان (2)، ففيه:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 6: 86 / أبواب القراءة في الصلاة ب 26 ح 1.

(2) الوسائل 29: 352 / أبواب ديات الأعضاء ب 44 ح 1.

ــ[65]ــ

 أوّلاً: أنّ رواية أبان ضعيفة السند، فلا يصحّ الاعتماد عليها (1).

 وثانياً: أ نّه لا دلالة لها على كونه قاطعاً بالحكم. نعم، يظهر منها كونه مطمئناً به، حيث قال: «إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، ونقول الذي جاء به شيطان».

 وثالثاً: أ نّه ليس فيها دلالة على المنع عن العمل بالقطع على تقدير حصوله لأبان، فانّ الإمام (عليه السلام) قد أزال قطعه ببيان الواقع، وأنّ قطعه مخالف له، وذلك يتّفق كثيراً في المحاورات العرفية أيضاً، فربّما يحصل القطع بشيء لأحد ويرى صاحبه أنّ قطعه مخالف للواقع، فيبيّن له الواقع، ويذكر الدليل عليه، ليزول قطعه ـ أي جهله المركب ـ لا للمنع عن العمل بالقطع على تقدير بقائه.

 فتحصّل: أنّ ما ذكره شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) ـ وتبعه أكثر من تأخّر عنه ـ من استحالة المنع عن العمل بالقطع متين جداً. نعم، الخوض في المطالب العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية مرغوب عنه، وعليه فلا يكون معذوراً لو حصل له القطع بالأحكام الشرعية من المقدمات العقلية، على تقدير كون قطعه مخالفاً للواقع، لتقصيره في المقدمات.

 ولا يخفى أ نّه بعدما ثبتت استحالة المنع عن العمل بالقطع ثبوتاً، لا حاجة إلى البحث عن مقام الاثبات ودلالة الأدلة الشرعية، كما هو ظاهر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ سند الرواية معتبر فلاحظ ].




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net