الاحتياط في العبادة مع استلزامه تكرارها - دوران الأمر بين الاحتياط والامتثال الظنّي 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4738


 فتحصّل: أنّ الصحيح في هذه المسألة أيضاً كفاية الامتثال الاجمالي والاتيان بما يحتمل وجوبه رجاء، كما هو المشهور.

 وممّا ذكرنا ظهر الحال في موارد احتمال تكليف ضمني، وأ نّه لا مانع من الاحتياط والاتيان بما يحتمل كونه جزءاً للمأمور به رجاءً، سواء علم رجحانه إجمالاً كما تقدّم (3) أو لم يعلم كما هو الآن محلّ الكلام. نعم، لا بدّ من عدم احتمال المانعية، إذ لو دار الأمر بين كون شيء شرطاً للمأمور به أو مانعاً عنه، كان الاحتياط فيه مستلـزماً للتكـرار وخرج عن الفرض، كما أنّ محل كلامنا في التكليف الاستقلالي إنّما هو فيما إذا لم يحتمل الحرمة، إذ مع احتمال الحرمة لايمكن الاحتياط وخرج عن الفرض. هذا كلّه فيما إذا لم يكن الاحتياط مستلزماً للتكرار.

 وأمّا إذا كان مسـتلزماً له كما في دوران الأمر بين القصر والتمـام، فربّما يستشكل في جواز الاحتياط فيه وعمدة ما ذكروا في وجه الاشكال أمران:

ـــــــــــ
(3) في المسألة الثانية ص 89.

ــ[92]ــ

 الأوّل: أنّ التكرار لعب بأمر المولى، فلا يصدق عليه الامتثال.

 وأجاب عنه في الكفاية (1) أوّلاً: بأ نّه يمكن أن يكون التكرار ناشئاً من غرض عقلائي، فلا يكون لعباً وعبثاً.

 وهذا الجواب غير واف بدفع الاشكال، لأنّ اللعب إن سرى إلى نفس الامتثال لا يجدي كونه بغرض عقلائي، إذ الكلام في العبادة المتوقفة على قصد القربة، ولا يجدي في صحّتها مطلق اشتمالها على غرض عقلائي، بل لا بدّ من صدورها عن قصد التقرب، واللعب لا يوجب القرب، فلا يصحّ التقرب به.

 وثانياً: بأنّ اللعب على تقدير تسليمه إنّما هو في كيفية الامتثال، أي في كيفية إحراز الامتثال لا في نفس الامتثال. وبعبارة اُخرى واضحة: أنّ الاتيان بما ليس بمأمور به وإن كان لعباً، إلاّ أنّ الاتيان بما هو مصداق للمأمور به ليس لعباً، ومن الظاهر أنّ ضمّ اللعب إليه لا يوجب كونه لعباً.

 وهذا هو الجواب الصحيح.

 الثاني: ما تقدّم ذكره من المحقق النائيني (قدس سره) من أنّ الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني، لأنّ الطاعة يعتبر فيها كون الانبعاث من بعث المولى بحكم العقل على ما تقدّم بيانه(2).

 وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ العقل ليس بمشرّع، ولا يحكم إلاّ بلزوم الطاعة، ولا يعتبر في صدق الطاعة إلاّ الاتيان بما أمر به المولى مضافاً إليه، فكون الانبعاث من بعث المولى ممّا نجزم بعدم اعتباره، ومع فرض الشك في اعتباره

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 274.

(2) تقدّم في ص 90.

ــ[93]ــ

يرجع إلى البراءة على ما تقدّم بيانه (1).

 وثانياً: أنّ هذه الكُبرى على تقدير تسليمها لا تنطبق على المقام، إذ التكليف معلوم على الفرض، فيكون الانبعاث نحو كل من العملين عن البعث اليقيني لا الاحتمالي، غاية الأمر أ نّه لا تمييز حال الاتيان، وهو أجنبي عن كون الانبعاث عن احتمال التكليف.

 وبالجملة: الامتثال في المقام يقيني لا احتمالي، غاية الأمر كونه إجمالياً لا تفصيلياً، وكم فرق بين الامتثال الاجمالي والامتثال الاحتمالي. نعم، هذه الكبرى على تقدير تسليمها تفيد في الحكم بعدم جواز الاحتياط في المسألة السابقة، وهي ما إذا لم يكن أصل التكليف محرزاً، بل كان مجرّد الاحتمال، بخلاف المقام. نعم، لو كان المكلف قاصداً للاتيان ببعض المحتملات فقط، كان انبعاثه عن احتمال التكليف، فعلى تقدير تمامية الكبرى المذكورة، كان العمل فاسداً ولو مع مصادفة الواقع. وأمّا على ما ذكرناه من عدم تماميتها، فلا إشكال فيه على تقدير المصادفة. نعم، هو مستحق للعقاب من جهة التجري والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي للتكليف المعلوم مع تمكنه من الامتثال اليقيني.

 هذا كلّه في فرض التمكن من الامتثال التفصيلي العلمي. وأمّا إذا لم يتمكن منه ودار الأمر بين الاحتياط والامتثال التفصيلي الظنّي، فإن كان الظن ممّا قام على اعتباره دليل خاص المعبّر عنه بالظن الخاص، فهو كالعلم التفصيلي، إذ الحجّة المعتبرة علم بالتعبد وإن لم تكن علماً بالوجدان. فإن قلنا بجواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي، كما هو الصحيح، نقول به مع التمكن من الامتثال التفصيلي الظنّي أيضاً. وإن قلنا بعدم جوازه لكون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 90 ـ 91.

ــ[94]ــ

الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني، كما عليه المحقق النائيني (قدس سره) في بعض الصور على ما تقدّم بيانه، نقول بعدم جوازه مع التمكن من الامتثال التفصيلي الظنّي أيضاً.

 وبالجملة: الظن المعتبر علم تعبداً، فيجري فيه جميع ما ذكرناه في العلم الوجداني. ولا فرق بينهما إلاّ في أ نّه مع العلم الوجداني بالواقع لم يبق مجال للاحتياط، إذ العلم الوجداني لا يجتمع مع احتمال الخلاف حتّى يحتاط، بخلاف الظن المعتبر، فانّه لا ينافي احتمال الخلاف، ومعه لا مانع من الاحتياط، بل يكون الاحتياط في مثل هذه الموارد ممّا لم يلزمه الشارع بادراك الواقع من أرقى مراتب العبودية والانقياد.

 نعم، وقع الكلام بين الأعلام في جواز تقديم المحتمل على المظنون في صورة الاحتياط، فقد يقال بعدم جوازه، واختاره المحقق النائيني (قدس سره) جرياً على مبناه من كون الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني، وذكر المحقق النائيني (قدس سره) أنّ هذا ـ أي عدم جواز تقديم المحتمل على المظنون ـ هو الوجه في الخلاف الواقع بين شيخنا الأنصاري (قدس سره) والسيّد الشيرازي الكبير (قدس سره) في دوران الأمر بين القصر والتمام لمن سافر إلى أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع في يومه، فاختار الشيخ (قدس سره) تقديم التمام على القصر عند الاحتياط، واختار السيّد (قدس سره) تقديم القصر على التمام، فهما بعد الاتفاق على الكُبرى ـ وهي لزوم تقديم المظنون على المحتمل عند الاحتياط ـ اختلفا في الصغرى فاستظهر الشيخ (قدس سره) من الأدلة وجوب التمام، فاختار تقديمه على القصر عند الاحتياط، واستظهر السيّد (قدس سره) منها وجوب القصر فقال بتقديمه على التمام (1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 84، فوائد الاُصول 3: 71 و 72.

ــ[95]ــ

 هذا، والصحيح عدم لزوم تقديم المظنون على المحتمل ولو قلنا بأنّ الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني، وأنّ العقل يحكم بأ نّه مع التمكن لا بدّ من أن يكون الانبعاث عن البعث الجزمي لا عن البعث الاحتمالي، وذلك لأنّ الاتيان بالمظنون يكون بداعي الأمر الجزمي الثابت باليقين التعبدي، سواء قدّم على المحتمل أو أخّر عنه، والاتيان بالمحتمل يكون بداعي احتمال البعث، بلا فرق بين التقديم والتأخير، فالكبرى الكلّية المذكورة في كلام المحقق النائيني (قدس سره) على تقدير تسليمها لا تنطبق على المقام، ولا تفيد لزوم تقديم المظنون على المحتمل. هذا كلّه في جواز الاحتياط مع التمكن من الظن الخاص.

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net