الجهة الثالثة: في وقوع التعبد بالظن. وقبل الشروع فيه لا بدّ لنا من البحث عن مقتضى الأصل عند الشك في الحجية، ليكون هو المرجع على تقدير عدم الدليل على الحجية، وليس المراد من الأصل في المقام هو خصوص الأصل العملي، بل المراد منه القاعدة الأوّلية المستفادة من حكم العقل أو عمومات النقل. فنقول:
لا ينبغي الشك في أنّ الأصل عدم الحجية عند الشك فيها، إذ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها، لا بمعنى أنّ الشك في إنشاء الحجية مساوق للقطع بعدم إنشائها، إذ الشيء لا يكون مساوقاً لضدّه أو لنقيضه، والشك في الوجود ضدّ للقطع بالعدم، فلا يجتمعان، بل نقيض له باعتبار، وهو أ نّه مع الشك في الحجية يحتمل الحجية، ومع القطع بعدم الحجية لا يحتمل الحجية، واحتمال الحجية وعدمها نقيضان لا يجتمعان، بل بمعنى أنّ الشك في إنشاء الحجية ملازم للقطع بعدم الحجية الفعلية، بمعنى عدم ترتب آثار الحجية، لأنّ الحجة لها أثران:
ــ[129]ــ
أحدهما: صحّة الاستناد إليها في مقام العمل.
والآخر: صحّة اسناد مؤداها إلى الشارع، وهذان الأثران لا يترتبان مع الشك في الحجية، لأنّ الاستناد إلى مشكوك الحجية في مقام العمل، وإسناد مؤداه إلى الشارع تشريع عملي وقولي دلّت على حرمته الأدلة الأربعة. وأمّا تنجيز الواقع فلا يتوقف على الحجية، لأ نّه ثابت بالعلم الاجمالي الكبير ـ أي العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية ـ أو بالعلم الاجمالي الصغير كما في دوران الأمر بين وجوب الظهر والجمعة أو دوران الأمر بين وجوب القصر والتمام، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية، بل قد يكون التنجيز ثابتاً بمجرد الاحتمال كما في الشبهات قبل الفحص. ففي جميع هذه الموارد كان التنجيز ثابتاً قبل قيام الأمارة على التكليف، ومع قيامها عليه لا يجيء تنجيز آخر.
نعم، كان قيام الأمارة المعتبرة على أحد طرفي العلم الاجمالي مسقطاً لوجوب الاحتـياط، وكان معذّراً على تقدير مخالفـة الواقع كما إذا دلّت الأمارة على وجوب صلاة الظهر وعمل بها المكلف، وكان الواجب في الواقع هو صلاة الجمعة، فكان المكلف حينئذ معذوراً غير مستحق للعقاب لا محالة.
هذا خلاصة ما ذكره شـيخنا الأنصاري (قدس سره) في مقام تأسيس الأصل عند الشك في الحجية(1).
واستشكل عليه صاحب الكـفاية (2) (قدس سره) بما حاصله: أنّ إسناد مؤدى الأمارة إلى المولى، والاستناد إليها في مقام العمل ليسا من الآثار المترتبة على الحجية، بل بينهما وبين الحجية عموم من وجه، إذ يمكن أن لا يكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فرائد الاُصول 1: 96 ـ 99.
(2) كفاية الاُصول: 279 و 280.
ــ[130]ــ
الشيء حجة، وصحّ إسناد مؤداه إلى الشارع لو دلّ دليل على صحّة الاسناد حينئذ، كما يمكن أن يكون الشيء حجة ولا يصح إسناد مؤداه إلى الشارع، كالظن على الحكومة، فالأثر المترتب على الحجية إنّما هو التنجيز عند المطابقة، والتعذير عند المخالفة، انتهى كلامه ملخّصاً.
والصحيح ما ذكره الشيخ (قدس سره) من أنّ صحّة إسناد المؤدى إلى الشارع والاستناد في مقام العمل من آثار الحجية، وما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من أ نّه يمكن أن لا يكون الشيء حجةً وصحّ إسناد مؤداه إلى الشارع لا يتصور له وجه معقول، إلاّ مع الالتزام بجواز التشريع، وكذا ما ذكره من أ نّه يمكن أن يكون الشيء حجةً ولا يصح إسناد مؤداه إلى الشارع، فانّه أيضاً مجرد تخيل لا يتعقل له وجه صحيح.
وأمّا ما ذكره من أنّ الظن على تقرير الحكومة حجة ولا يصح إسناد المظنون إلى الشارع، ففيه: أنّ مقدمات الانسداد على تقرير الحكومة لا تنتج حجية الظـن، بل نتيجـتها التبعيض في الاحـتياط بالأخذ بالمظـنونات دون المشكوكات والموهومات، على ما يجيء الكلام فيها (1) إن شاء الله تعالى. وأمّا ما ذكره من أنّ أثر الحجية هو التنجيز والتعذير، فقد تقدّم ما فيه (2) ولا نعيد.
فتحصّل: أنّ الصحيح ما ذكره الشيخ (قدس سره) من أنّ الحجية ملازمة لصحّة الاستناد والاسناد، وحيث إنّهما ليسا من آثار الحجية بوجودها الواقعي، بل من آثار وجـودها الذهني، بمعنى الوصول إلى المكلف صغرىً وكبرىً، لا يترتبان مع الشك في الحجية صغرىً أو كبرىً، بمعنى الشك في وجود الحجة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 257.
(2) عند تقرير كلام الشيخ (قدس سره).
ــ[131]ــ
أو في حجية الموجود، وهذا هو المراد من قولنا: إنّ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها على ما تقدّم.
ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) بعد ما أسّسه من الأصل تمسك لاثبات حرمة العمل بالظن بالعمومات والآيات الناهية عن العمل بغير العلم، كقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(1) ونحوه، وذكر أنّ مقتضى هذه الآيات هو حرمة العمل بالظن إلاّ ما خرج بالدليل، ونسبة أدلة الحجية إلى تلك العمومات هي نسبة المخصص إلى العام، فالشك في حجية شيء يكون شكّاً في التخصيص والمرجع فيه عموم العام (2).
وأورد عليه المحقق النائيني (3) (قدس سره) بأنّ أدلة حجية الأمارات حاكمة على الأدلة المانعة، لأنّ دليل حجية الأمارة يخرجها عن الأدلة المانعة موضوعاً، إذ موضوعها غير العلم، ومفاد دليل الحجية كون الأمارة علماً بالتعـبد، فهو ناف للحكم بلسان نفي الموضوع، وتخصيص بلسان الحكومة، فعند الشك في حجية شيء لا يصحّ التمسك بالعمومات المانعة، لكون الشبهة مصداقية، باعتبار أ نّه يحتمل أن يكون هذا الشيء علماً بالتعبد، هذا ملخّص كلامه (قدس سره).
ولا بدّ لنا من التكلم في مقامين:
المقام الأوّل: في بيان أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم واردة لبيان حكم مولوي، وهو حرمة العمل بالظن أو لا، بل مفادها إرشاد إلى حكم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإسراء 17: 36.
(2) لاحظ فرائد الاُصول 1: 100.
(3) أجود التقريرات 3: 148.
ــ[132]ــ
العقل بعدم صحّة الاعتماد على الظن، وأ نّه لا بدّ من العمل بما يحصل معه الأمن من العقاب، والعمل بالظن ممّا لا يحصل معه الأمن من العقاب، لاحتمال مخالفته للواقع؟
المقام الثاني: في بيان أ نّه مع تسليم كونها واردةً لبيان حكم مولوي، وفي مقام تشريع حرمة العمل بالظن، هل يصح التمسك بها عند الشك في حجية شيء على ما ذكره الشيخ (قدس سره) أم لا على ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره)؟
أمّا المقام الأوّل: فملخّص الكلام فيه: أنّ الآيات الشريفة الناهية عن العمل بغير العلم إرشاد إلى حكم العقل بعدم صحّة الاعتماد على الظن، وأنّ العمل به ممّا لا يحصل معه الأمن من العقاب، لاحتمال مخالفته للواقع، والعبد لا بدّ له من العمل بما يحصل معه الأمن من العقاب، ولا يحصل الأمن إلاّ بالعلم أو بما ينتهي إليه كالعلم بأمارة دلّ على حجيتها دليل علمي. وقد اُشـير إلى ذلك في عدّة من الآيات: منها: قوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَاتَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(1) وقوله تعالى: (فَائْتُونَا بِسُلْطَان...)(2) وبعد كون الآيات الناهية إرشاداً إلى حكم العقل لاتكون قابلةً للتخصيص ، وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(3) بأن يقال إلاّ الظن الفلاني فانّه يغني من الحق، فلم يرد عليها تخصيص ولن يرد، فانّ لسانها آب عن التخصيص.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2: 111.
(2) إبراهيم 14: 10.
(3) يونس 10: 36.
ــ[133]ــ
وأمّا الظن الذي قام على حجيته في مورد دليل علمي، فليس فيه الاعتماد على الظن بل الاعتماد على الدليل العلمي القائم على حجية الظن، فهو المؤمّن من العقاب لا الظن، كما أ نّه في موارد جريان أصالة البراءة ليس الاعتماد في ترك ما يحتمل الوجوب أو فعل ما يحتمل الحرمة على مجرد احتمال عدم الوجوب واحتمال عدم الحرمة، بل الاعتماد إنّما هو على دليل علمي دلّ على عدم لزوم الاعتناء باحتمال الوجوب أو الحرمة.
فتحصّل: أنّ الآيات الشريفة ليست واردةً لبيان حكم مولوي ليصحّ التمسك بها عند الشك في الحجية.
وأمّا المقام الثاني: فملخّص الكلام فيه: أنّ ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) ـ من أنّ تقديم أدلة حجية الأمارات على الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم إنّما هو من باب الحكومة لا التخصيص ـ وإن كان صحيحاً، إذ معنى حجية الأمارة هو اعتبارها علماً في عالم التشريع، فتخرج عن الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم موضـوعاً، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب عدم صحّة التمسك بالعمومات المانعة عند الشك في الحجية ولا يكون الشك فيها من الشبهة المصداقية، إذ الحجية الواقعية ممّا لا يترتب عليه أثر ما لم تصل إلى المكلف، فالحكومة إنّما هي بعد الوصول، فالعمل بما لم تصل حجيته إلى المكلف عمل بغير علم وإن كان حجةً في الواقع، إذ كونه حجة في الواقع ـ مع عدم علم المكلف بالحجية ـ لا يجعل العمل به عملاً بالعلم كما هو ظاهر.
والذي يوضّح لنا بل يدلّنا على أنّ الحكومة إنّما هي في فرض الوصول لا مطلقاً ـ وأ نّه لا مانع من التمسك بالعمومات عند الشك في الحجية ـ أ نّه لو كانت الحجة بوجودها الواقعي مانعة عن التمسك بالعمومات، لما صحّ التمسك بالاُصول العملية في شيء من الموارد، لاحتمال وجود الحجة فيها، فيكون
ــ[134]ــ
التمسك بأدلة الاُصول معه من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية، وبلا فرق بين الشك في وجود الحجة أو في حجية الموجود، مع أنّ الرجوع إلى الاُصول العملية في الشبهات الحكمية والموضوعية ممّا لا إشكال فيه، وتسالم عليه الفقهاء، ومنهم المحقق النائيني (قدس سره) نفسه.
والمتحصّل ممّا ذكرناه: أ نّه على تقدير الالتزام بأنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم واردة لبيان حكم مولوي، لا مانع من التمسك بها عند الشك في حجية شيء.
بقي شيء: وهو أ نّه هل يصح التمسك باستصحاب عدم الحجية عند الشك فيها أم لا؟ التزم المحقق النائيني(1) (قدس سره) بعدم جريان هذا الاستصحاب لوجهين:
الوجه الأوّل: أ نّه يشترط في جريان الاستصحاب أن يكون للمتيقن السابق أثر عملي يتعبد ببقائه باعتبار ذلك الأثر، فلو فرض عدم ترتب أثر على خصوص الواقع، بأن يكون الأثر مترتباً على خصوص الجهل بالواقع، أو مشترك بين الواقع والجهل به، فلا مجال لجريان الاستصحاب، إذ بمجرد الشك في الواقع يترتب الأثر على الفـرض، فالتعبد بالاستصحاب ـ لترتب الأثر المذكور ـ يكون من أرادأ أنحاء تحصيل الحاصل، وهو التحصيل التعبدي لما هو حاصل بالوجدان.
والمقام من هذا القبيل بعينه، إذ الأثر المترتب على عدم الحجية هو عدم صحّة الاستناد في مقام العمل وعدم صحّة إسناد المؤدى إلى الشارع. وهذان
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 3: 148 ـ 151، فوائد الاُصول 3: 128 ـ 131.
ــ[135]ــ
الأثران كلاهما يترتبان على مجرد الشك في الحجية، لأنّ الاستناد والاسناد مع الشك في الحجية تشريع محرّم، سواء فسّرناه بادخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين، ليكون الأثران لخصوص الجهل بالواقع، أو فسّرناه بالأعم منه ومن إدخال ما علم أ نّه ليس من الدين في الدين، ليكون الأثران مشتركين بينه وبين الواقع، فيحصل لنا العلم بعدم صحّة الاستناد وعدم صحّة الاسناد بمجرد الشك في الحجية، فيكون التعبد بهما ـ لاستصحاب عدم الحجية ـ من أرادأ أنحاء تحصيل الحاصل.
الوجه الثاني: أنّ التمسك بالاستصحاب المذكور لغو محض، إذ الأثر مترتب على نفس الجهل بالواقع والشك في الحجـية، فاحراز عدم الحجية بالتعـبد الاستصحابي ممّا لا تترتب عليه فائدة، فيكون لغواً (1)، انتهى كلامه ملخّصاً.
نقول: أمّا الوجه الأوّل فيردّه: أنّ ما يحكم به العقل بمجرد الشك هو عدم الحجية الفعلية (2) وما هو مورد للتعبد الاستصحابي هو عدم إنشاء الحجية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الذي يخطر بالبال القاصر عدم صحّة هذا الوجه وجهاً ثانياً لاثبات عدم جريان الاستصحاب، بل الصحيح هو جعله متمّماً للوجه الأوّل بأن يقال: إنّ الأثر ـ وهو عدم صحّة الاستناد والاسناد ـ إن ترتّب على الاستصحاب فهذا تحصيل للحاصل. وإن لم يترتب عليه فالتمسك به لغو. فظهر بما ذكرناه عدم تمامية أحد الوجهين بدون الآخر.
(2) نعم الأمر كذلك، إلاّ أنّ الأثر شيء واحد وهو عدم صحّة الاستناد والاسناد، وحيث إنّ هذا الأثر حاصل بمجرد الشك فالتعبد الاستصحابي بلحاظ هذا الأثر تحصيل للحاصل. والحق ما أجاب به سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه) عن الوجه الثاني نقضاً وحلاًّ فانّه يكفي عن الوجه الأوّل أيضاً، فانّا ذكرنا أ نّهما وجه واحد، فلنكتف في الجواب أيضاً بوجه واحد وهو ما ذكره سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه) في المتن.
ــ[136]ــ
وعدم جعلها، فما هو حاصل بالوجـدان غير ما يحصل بالتعبد، فلا يكون التمسك بالاستصحاب في المقام من تحصيل الحاصل.
وأمّا الوجه الثاني: فنجيب عنه:
أوّلاً: بالنقض بالروايات الدالة على المنع عن العمل بالقياس (1)، ونقول أيّ فائدة في هذا المنع، مع كون العقل مستقلاً بعدم صحّة الاستناد والاسناد بمجرد الشك وعدم إحراز الحجية، وبما دلّ على البراءة شرعاً في موارد الشك في التكليف، كحديث الرفع (2) مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.
وثانياً: بالحل وهو أنّ حكم العقل في جميع هذه الموارد منوط بعدم وصول التعبد والبيان من الشارع،فإذا ثبت التعبد الشرعي يترتب الأثر عليه، وينتفي حكم العقل بانتفاء موضوعه، فلا يكون التعبد لغواً.
وبعبارة اُخرى: ليس حكم العقل في هذه الموارد في عرض الحكم الشرعي حتّى يلزم كونه لغواً، بل الحكم العقلي إنّما هو في طول الحكم الشرعي، فصحّ للشارع أن يتصرف في موضوع حكم العقل ببيان الحجية أو عدمها، ولايكون ذلك لغواً، إذ الأثر الذي كان مترتباً عليه بما هو مشكوك الحجية، يترتب بعد التعبد على ما هو مقطوع عدم حجيته واقعاً بالتعبد الشرعي، فلا يكون لغواً. هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل ولنشرع في بيان ما وقع التعبد به من الأمارات، ويقع فيه الكلام في مباحث:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 27: 35 / أبواب صفات القاضي ب 6.
(2) الوسائل 15: 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
|