حجّية الظواهر 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 9694


ــ[137]ــ
 

المبحث الأوّل

في حجّية الظواهر

 ولا يخفى أنّ حجية الظواهر ممّا تسالم عليه العقلاء في محاوراتهم، واستقرّ بناؤهم على العمل بها في جميع اُمورهم، وحيث إنّ الشارع لم يخترع في محاوراته طريقاً خاصاً، بل كان يتكلم بلسان قومه فهي ممضاة عنده أيضاً، وهذا واضح ولم نعثر على مخالف فيه، ولذا ذكرنا في فهرس مسائل علم الاُصول (1) أنّ بحث حجية الظواهر ليس من مسائل علم الاُصول، لأ نّها من الاُصول المسلّمة بلا حاجة إلى البحث عنها. وإنّما وقع الكلام في اُمور ثلاثة:

 الأمر الأوّل: في أنّ حجية الظواهر هل هي مشروطة بالظن بالوفاق أم بعدم الظن بالخلاف، أم غير مشروطة بشيء منهما؟

 الأمر الثاني: في أنّ حجية الظواهر مختصة بمن قصد إفهامه أو تعمّ غيره أيضاً؟

 الأمر الثالث: في حجية خصوص ظواهر الكتاب.

 أمّا الأمر الأوّل: فلا ينبغي الشك في أنّ الظن بالخلاف غير قادح في حجية الظواهر، فضلاً عن عدم الظن بالوفاق، لأنّ المرجع في حجية الظواهر هو بناء العقلاء على ما تقدّمت الاشارة إليه، ونرى أنّ العقلاء لا يعذرون العبد المخالف لظاهر كلام المولى إذا اعتذر عن المخالفة بعدم الظن بالوفاق، أو بحصول الظن بالخلاف، وهذا ظاهر. نعم، فيما إذا كان المطلوب تحصيل الواقع لا يعملون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 1.

ــ[138]ــ

بمجرد الظهور ما لم يحصل لهم الاطمئنان بالواقع، كما إذا احتمل إرادة خلاف الظاهر في كلام الطبيب فانّهم لا يعملون به، إلاّ أنّ ذلك خارج عن محل الكلام، إذ الكلام فيما إذا كان المطلوب هو الخروج من عهدة التكليف، وتحصيل الأمن من العقاب، وفي مثله تحقق بناء العقلاء على العمل بالظواهر مطلقاً، ولو مع الظن بالخلاف فضلاً عن عدم الظن بالوفاق.

 وأمّا الأمر الثاني: فذهب المحقق القمي (قدس سره) إلى اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه، وعليه رتّب انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام، باعتبار أنّ الأخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) لم يقصد منها إلاّ إفهام خصوص المشافهين، فتختص حجية ظواهرها بهم (1).

وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا القول وجهان ذكرهما شيخنا الأنصاري (قدس سره)(2).

 الوجه الأوّل راجع إلى منع الكبرى، وأ نّه لا حجّية للظواهر بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام.

 الوجه الثاني راجع إلى منع الصغرى، وأ نّه لا ينعقد ظهور للأخبار بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام.

 أمّا الوجه الأوّل: فهو أنّ منشأ حجّية الظواهر هي أصالة عدم الغفلة، إذ بعد كون المتكلم في مقام البيان كان احتمال إرادة خلاف الظاهر مستنداً إلى احتمال غفلة المتكلم عن نصب القرينة، أو غفلة السامع عن الالتفات إليها، والأصل عدم الغفلة في كل منهما. وأمّا احتمال تعمّد المتكلم في عدم نصب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قوانين الاُصول 1: 398 و 403، 451 و 452.

(2) فرائد الاُصول 1: 115 و 116.

ــ[139]ــ

القرينة فهو مدفوع بأ نّه خلاف الفرض، إذ المفروض كونه في مقام البيان، فلا منشأ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر إلاّ احتمال الغفلة من المتكلم أو من السامع، وهو مدفوع بالأصل المتحقق عليه بناء العقلاء. وهذا الأصل لا يجري بالنسبة إلى من لم يكن مقصوداً بالافهام، لعدم انحصار الوجه لاحتمال إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إليه في احتمال الغفلة ليدفع بأصالة عدم الغفلة، إذ يحتمل اتكال المتكلم في ذلك على قرينة منفصلة، أو قرينة حالية كانت معهودة بينهما وقد خفيت على من لم يكن مقصوداً بالافهام، فلا تجديه أصالة عدم الغفلة، ولا يجوز له التمسك بالظواهر.

 ثمّ إنّه على تقدير تسليم جريان أصالة الظهور ـ ولو لم يكن احتمال إرادة خلاف الظاهر مستنداً إلى احتمال الغفلة ـ إنّما تجري أصالة الظهور فيما إذا لم يعلم أنّ ديدن المتكلم قد جرى على الاتكال على القرائن المنفصلة، وأمّا مع العلم بذلك فلا تجري أصالة الظهور، ولا يجوز الأخذ بظاهر كلامه لغير المقصود بالافهام، ومن الواضح أنّ الأئمة (عليهم السلام) كثيراً ما كانوا يعتمدون على القرائن المنفصلة، وربّما كانوا يؤخّرون البيان عن وقت الخطاب، بل عن وقت الحاجة لمصلحة مقتضية لذلك، فكيف يمكن الأخذ بظاهر كلامهم (عليهم السلام) لغير المشافهين المقصودين بالافهام.

 أمّا الوجه الثاني: فهو أنّ الأخبار المرويّة عن الأئمة (عليهم السلام) لم تصل إلينا كما صدرت عنهم (عليهم السلام) بل وصلت إلينا مقطّعةً، ونحتمل وجود قرينة على خلاف ما نفهمه من الكلام، وقد خفيت علينا من جهة التقطيع، فلم ينعقد للكلام ظهور مع هذا الاحتمال، وليس المقام من باب احتمال وجود القرينة ليدفع بأصالة عدم القرينة، بل من باب احتمال قرينية الموجود، وفي مثله لا تجري أصالة عدم القرينة، فلا ظهور للكلام بالنسبة إلى من لم يكن

ــ[140]ــ

مقصوداً بالافهام. هذا ملخّص ما ذكره الشيخ (قدس سره) من الوجهين بتوضيح منّا، ولا يتمّ شيء منهما.

 أمّا ما ذكره في منع الكبرى، من أنّ منشأ أصالة الظهور هي أصالة عدم الغفلة، وهي غير جارية بالنسبة إلى من لم يقصد بالافهام، ففيه: أنّ أصالة عدم الغفلة وإن لم تكن جاريةً بالنسبة إلى غير المقصود بالافهام (1)، إلاّ أ نّها ليست أصلاً لأصالة الظهور، بل كل من أصالة عدم الغفلة وأصالة الظهور أصل برأسه وناشئ من منشأ لايرتبط أحدهما بالآخر، وإن كان كل واحد منهما من الاُصول العقلائية الثابتة حجّيتها ببناء العقلاء. أمّا أصالة عدم الغفلة، فمنشؤها أنّ الغفلة والسهو في الفعل والقول خلاف طبيعة الانسـان، إذ الانسان بطبعه يفعل ما يفعل عن الالتفات، ويقول ما يقول عن الالتفات، ولذا استقرّ البناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة، وأمّا أصالة الظهور فمنشؤها كون الألفاظ كاشفةً عن المرادات الواقعية بحسب الوضع، أو بحسب قرينة عامّة، كالاطلاق الكاشف عن المراد الجدي بضميمة مقدّمات الحكمة.

 فتحصّل: أنّ المنشأ لأصالة الظهور هو الوضع أو القرينة العامّة، والمنشأ لأصالة عدم الغفلة هو كون الغفلة خلاف طبع الانسان في الفعل والقول، فلا يرتبط أحدهما بالآخر، والنسبة بينهما من حيث المورد هي العموم من وجه، لأ نّه تفترق أصالة عدم الغفلة عن أصالة الظهور في فعل صادر عن البالغ العاقل إذا احتـمل صدوره منه غفلةً، وتفترق أصـالة الظهور عن أصـالة عدم الغفلة في كلام صادر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام)، إذ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) والتحقيق أ نّها جارية في غيره كما سيذكر سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه) في أصالة الظهور بعد أسطر، وفي الصفحة 150.

 
 

ــ[141]ــ

لا يحتمل صدوره عن الغفلة، وتجتمعان في كلام صادر من أهل العرف في محاوراتهم.

 والمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ أصالة الظهور بنفسها من الاُصول العقلائية ولا اختصاص لها بمن قصد إفهامه، لأنّ العقلاء يأخذون بالظواهر في باب الأقارير والوصايا ولو كان السامع غير مقصود بالافهام.

 وأمّا ما ذكره من جريان ديدن الأئمة (عليهم السلام) على الاتكال على القرائن المنفصلة، فهو وإن كان صحيحاً، إلاّ أ نّه لا يقتضي اختصاص حجّية الظهور بمن قصد إفهامه، بل مقتضاه الفحص عن القرائن، ومع عدم الظفر بها يؤخذ بالظهور.

 وأمّا ما ذكره في منع الصغرى، من أنّ التقطيع مانع عن انعقاد الظهور، ففيه: أنّ ذلك يتم فيما إذا كان المقطع غير عارف باُسلوب الكلام العربي، أو غير ورع في الدين، إذ يحتمل حينئذ كون التقطيع موجباً لانفصال القرينة عن ذيها لعدم معرفة المقطع أو لتسامحه في التقطيع، وكلا هذين الأمرين منتفيان في حقّ الكليني (قدس سره) وأمثاله من أصحاب الجوامع، فإذا نقلوا روايةً بلا قرينة نطمئن بعدمها، بل لا يبعد دعوى القطع به، إذ التقطيع إنّما هو لارجاع المسائل إلى أبوابها المناسبة لها، مع عدم الارتباط بينها، لأنّ الرواة عند تشرّفهم بحضرة الإمام (عليه السلام) كانوا يسألون عن عدّة مسائل لا ربط لإحداها بالاُخرى، كما هو المتعارف في زماننا هذا في الاستفتاءات، فأتعب علماؤنا الأعلام أنفسهم في تبويب المسائل وإرجاع كل مسألة إلى بابها المناسب لها مع الجهد والدقّة، تسهيلاً للأمر على المراجعين، ولولا ذلك لزم الفحص من أوّل كتاب الكافي مثلاً إلى آخره لاستنباط مسألة واحدة. وهذا النحو من التقطيع غير قادح في انعقاد الظهور، كما لعلّه ظاهر.

ــ[142]ــ

 ثمّ إنّه لو أغمضنا عن جميع ذلك وسلّمنا اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه، لا ينتج ذلك انسداد باب العلمي، إذ لا نسلّم كوننا غير مقصودين بالافهام من الروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام)، وذلك لأنّ الراوي الذي سمع الكلام من الإمام (عليه السلام) مقصود بالافهام قطعاً، واحتمال غفلته يدفع بالأصل، واحتمال غفلة المتكلم منفي بالقطع، فيحكم بأنّ الظاهر هو مراد الإمام (عليه السلام) وينقل هذا الراوي ما سمعه من الإمام (عليه السلام) لفظاً أو معنىً للراوي اللاحق، وهو مقصود بالافهام من الكلام الصادر من الراوي السابق، وهكذا الحال بالنسبة إلى جميع سلسلة الرواة إلى أن ينتهي الأمر إلى أصحاب الجوامع كالكليني (قدس سره) ومن الواضح أنّ المقصود بالافهام من الكتب كالكافي هو كل من نظر فيها، فيكون ظاهرها حجّة له.

 وعليه فلا يترتب على القول باختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه انسداد باب العلمي، كما توهمه صاحب القوانين (قدس سره).

 وأمّا الأمر الثالث: أعني حجّية ظواهر الكتاب، فمنعها الأخباريون، وما ذكروه في وجه المنع يرجع تارةً إلى منع الصغرى، أي انعقاد الظهور، واُخرى إلى منع الكبرى، أي حجّية الظهور.

 أمّا منع الصغرى فقد استدلّ له بوجوه:

 الأوّل: أنّ ألفاظ القرآن من قبيل الرموز، كفواتح السور التي هي كنايات عن أشياء لا يعرفها إلاّ النبي وأوصياؤه المعصومون (عليهم السلام).

 وفيه: أنّ كونه من قبيل الرموز مناف لكونه معجزة ترشد الخلق إلى الحق، فلو لم يكن له ظهور يعرفه أهل اللسان لاختلّ كونه إعجازاً. ومن المعلوم أنّ العرب كانوا يفهمون ظواهره، ويعترفون بالعجز عن الاتيان بمثله، فمنهم من آمن واعترف بكونه معجزاً، ومنهم من قال بأ نّه سحر. مضافاً إلى أ نّه ورد

ــ[143]ــ

الأمر من الأئمة (عليهم السلام) بالرجوع إلى الكتاب عند تعارض الخبرين، بل مطلقاً (1). ولو كان القرآن من قبيل الرموز لم يكن معنىً للارجاع إليه، فدعوى كون القرآن من قبيل الرموز التي لا يفهم منها شيء في غاية السقوط.

 الثاني: أنّ القرآن مشتمل على معان غامضة ومضامين شامخة، فانّه مع صغر حجمه مشتمل على علم ما كان وما يكون، على نحو لا يصل إليه فكر البشر إلاّ الراسخون في العلم، وهم الأئمة المعصومون(عليهم السلام)، ولذا ورد في بعض الروايات أ نّه «إنّما يعرف القرآن من خوطب
به»(2).

 وفيه: أنّ كلامنا في ظواهره التي يعرفها أهل اللسان لا في بواطنه التي لا يعرفها إلاّ من خوطب به، واشتماله على مضامين عالية لا ينافي ظهوره، فانّه مع اشتماله على معان غامضة عالية يعرف ظواهره أهل اللسان على ما عرفت.

 الثالث: أنّ القرآن وإن كان له ظهور في حد ذاته، ولكن العلم الاجمالي بوجود القرائن المنفصلة الدالة على خلاف الظاهر من مخصصات ومقيدات وقرائن على المجاز يمنع عن العمل بظواهره، فهي مجملات حكماً وإن كانت ظواهر حقيقة.

 وفيه: أنّ العلم الاجمالي المذكور يوجب الفحص عن المخصص والمقيد والقرينة على المجاز، لا سقوط الظواهر عن الحجية رأساً، وإلاّ لم يجز العمل بالروايات أيضاً، لوجود العلم الاجمالي فيها أيضاً، كما في القرآن.

 الرابع: أ نّه دلّت عدّة من الروايات على وقوع التحريف في القرآن فيحتمل وجود القرينة على إرادة خلاف الظاهر فيما سقط منه بالتحريف، وهذا الاحتمال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 106 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1 و 10 وغيرهما.

(2) الوسائل 27: 185 / أبواب صفات القاضي ب 13 ح 25.

ــ[144]ــ

مانع عن انعقاد الظهور، لكونه من باب احتمال قرينية الموجود، لا من باب احتمال وجود القرينة ليدفع بأصالة عدم القرينة.

 وفيه أوّلاً: أنّ التحريف بمعنى السقط أمر موهوم لا حقيقة له، إذ القرآن قد بلغ من الأهمّية عند المسلمين في زمان النبي (صلّى الله عليه وآله) مرتبة حفظته الصدور زائداً على الكـتابة، فكيف يمكن تحريفه حتّى عن الصدور الحافظة له. والروايات الدالة على التحريف، إمّا ضعاف لا يعتمد عليها، وإمّا لا دلالة لها على التحريف بمعنى النقيصة، بل المراد منها التقديم والتأخير أو التأويل أو غير ذلك ممّا ذكرناه في كتابنا البيان فراجع (1).

 وثانياً: أنّ التحريف ـ على تقدير تسليم وقوعه ـ لا يقدح في الظهور للروايات الدالة على وجوب عرض الأخبار المتعارضة، بل مطلق الأخبار على كتاب الله(2)، وعلى ردّ الشروط المخالفة للكتاب والسنّة (3)، فانّ هذه الروايات قد صدرت عن الصادقين (عليهما السلام) بعد التحريف على تقدير تسليم وقوعه، فيعلم من هذه الروايات أنّ التحريف على تقدير وقوعه غير قادح في الظهور.

 وأمّا منع الكبرى، ودعوى عدم حجّية ظواهر الكتاب على فرض تسليم الظهور، فقد استدلّ له بوجهين:

 الأوّل: أنّ الله سبحانه منع من اتباع المتشابه بقوله تعالى: (فَأَمَّا ا لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)(4) والمتشابه ما كان ذا احتمالين قبالاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البيان في تفسير القرآن: 225 وما بعدها.

(2) تقدّم استخراجها في الصفحة السابقة.

(3) الوسائل 18: 16 / أبواب الخيار ب 6 ح 1 وغيره.

(4) آل عمران 3: 7.

ــ[145]ــ

للمحكم وهو النص الذي لا يحتمل الخلاف، فيشمل الظواهر، ولا أقل من احتمال شمول المتشابه للظواهر باعتبار أنّ المتشابه غير ظاهر المراد، ومجرد احتمال شموله لها يكفي في الحكم بعدم حجيتها، لأنّ الحجية تحتاج إلى الامضاء ومع احتمال المنع لا يثبت الامضاء.

 وفيه: أنّ المتشابه هو التفاعل من الشبه، فيكون المراد منه كون الكلام ذا احتمالين متساويين، بحيث كان كل منهما شبيهاً بالآخر، فيكون المراد منه المجمل ولا يشمل الظواهر يقيناً. ومع الغض عن ذلك والالتزام باحتمال الشمول نقول: إنّ مجرد الاحتمال غير قادح في حجيتها، فانّها ثابتة ببناء العقلاء ما لم يثبت الردع عنها، ومجرد احتمال الردع لا يكفي في رفع اليد عنها. مضافاً إلى أنّ الروايات الدالة على عرض الأخبار على الكتاب وطرح الخبر المخالف له تدل على أنّ المتشابه غير شامل للظواهر، لأنّ الخبر المخالف للكتاب الذي أمر بطرحه هو الذي يخالف ظاهر الكتاب، لا نص الكتاب، إذ الخبر المخالف لنص الكـتاب لم يوجد ليكون مورداً للطرح، فيستكشف من ذلك أنّ المتشـابه ما ليس له ظهور، فلا يشمل ما له ظهور (1).

 الثاني: الروايات الكثيرة الناهية عن تفسير القرآن بالرأي (2).

 وفيه: أنّ الأخذ بظاهر الكلام لا يكون من التفسير، إذ التفسير عبارة عن كشف القناع على ما قالوا (3)، والكلام الظاهر في معنى ليس له قناع ليكشف، وعلى تقدير التنزل وتسليم كونه من التفسير ليس هو تفسـيراً بالرأي، بل تفسير بحسب المحاورات العرفية، إذ المراد بالتفسير بالرأي هو حمل الكلام على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ويرد عليهم أيضاً: أنّ هذا تمسّك بظاهر الكتاب على عدم حجّيته وهم لا يرونه.

(2) منها ما في الوسائل 27: 185 / أبواب صفات القاضي ب 13 ح 25 و28 وغيرهما.

(3) القاموس المحيط 2: 156 وفيه: كشف المغطّى.

ــ[146]ــ

خلاف ظاهره، أو على أحد محتملاته مع كونه مجملاً غير ظاهر في شيء منها بالاستحسانات، فالمراد بالتفسير بالرأي المنهي عنه في الأخبار هو حمل الآيات على خلاف ظواهرها، أو على أحد محتملاتها مع عدم كونها ظاهرةً في شيء منها، على ما وقع من أكثر المفسرين من العامّة.

 ويحتمل أن يكون المراد بالأخبار الناهية عن التفسير بالرأي هو الاستقلال بالعمل بالكتاب، بلا مراجعة الأئمة (عليهم السلام)، كما هو ظاهر بعض الأخبار. وأمّا العمل بظواهر الكتاب ـ بضميمة مراجعة الروايات لاحتمال التخصيص والتقييد وغيرهما من القرائن على المراد ـ فلم يدل على المنع عنه دليل.

 فتحصّل: أنّ الصحيح جواز العمل بظواهر الكتاب بعد الفحص عن الأخبار، كما هو الحال في العمل بظواهر الأخبار، إذ العمل بها أيضاً يحتاج إلى الفحص عن المخصص والمقيد، والقرينة على إرادة خلاف الظاهر. هذا تمام الكلام في البحث عن حجية الظواهر.

تذييل:

 إعلم أنّ لكل لفظ دلالات ثلاثاً:

 الدلالة الاُولى: كون اللفظ موجباً لانتقال المعنى إلى ذهن السامع مع علمه بالوضع. وهذه الدلالة لا تتوقف على إرادة اللاّفظ، بل اللفظ بنفسه يوجب انتقال المعنى إلى الذهن ولو مع العلم بعدم إرادة المتكلم، كما إذا كان نائماً أو سكراناً، أو نصب قرينةً على إرادة غير هذا المعنى، كما في قولنا: رأيت أسداً يرمي، فانّ ذهن المخاطب ينتقل إلى الحيوان المفترس بمجرد سماع كلمة الأسد، وإن كان يعلم أنّ مراد المتكلم هو الرجل الشجاع، بل هذه الدلالة لا تحتاج إلى متكلم ذي إدراك وشعور، فانّ اللفظ الصادر من لافظ غير شاعر بل من غير

ــ[147]ــ

لافظ يوجب انتقال المعنى إلى ذهن السامع. وبالجملة: هذه الدلالة بعد العلم بالوضع غير منفكة عن اللفظ أبداً، ولا تحتاج إلى شيء من الأشياء.

 وهذه الدلالة هي التي تسمّى عند القوم بالدلالة التصورية مرّةً باعتبار أنّ اللفظ بوجب تصور المعنى في الذهن، وبالدلالة الوضعية اُخرى باعتبار أنّ منشأها الوضع، وهو عبارة عن جعل العلقة بين اللفظ والمعنى بحيث ينتقل المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ.

 والمختار عندنا كون الدلالة الوضعية غيرها، لأنّ هذه الدلالة لا تكون غرضاً من الوضع لتكون وضعية، والأنسب تسميتها بالدلالة الاُنسية، إذ منشؤها اُنس الذهن بالمعنى، لكثرة استعمال اللفظ فيه لا الوضع، لما ذكرناه في بحث الوضع من أنّ الوضع عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بأ نّه متى أراد تفهيم معنى فلان فهو يتكلم باللفظ الفلان (1). وعليه فلا يكون مجرد خطور المعنى في الذهن عند سماع اللفـظ مستنداً إلى تعهده، بل إلى اُنس الذهن به الحاصـل من كثرة الاستعمال. وهذه الدلالة ممّا لا يرتبط بمحل كلامنا فعلاً، ولا تترتب ثمرة على البحث عن أ نّها هي الدلالة الوضعية أو غيرها.

 الدلالة الثانية: دلالة اللفظ على كون المعنى مراداً للمتكلم بالارادة الاستعمالية، أي دلالة اللفظ على أنّ المتكلم أراد تفهيم هذا المعنى واستعمله فيه، وهذه الدلالة تسمّى عند القوم بالدلالة التصديقية، وعندنا بالدلالة الوضعية، كما عرفت. وكيف كان، فهذه الدلالة تحتاج إلى إحراز كون المتكلم بصدد التفهيم ومريداً له، فمع الشك فيه ليست للفظ هذه الدلالة، فضلاً عمّا إذا علم عدم إرادته له، كما إذا علم كونه نائماً مثلاً، بل هذه الدلالة متوقفة على عدم نصب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 48.

ــ[148]ــ

قرينة على الخلاف متصلة بالكلام، إذ مع ذكر كلمة «يرمي» في قولنا: رأيت أسداً يرمي مثلاً، لا تكون كلمة أسد دالةً على أنّ المتكلم أراد تفهيم الحيوان المفترس كما هو ظاهر.

 الدلالة الثالثة: دلالة اللفظ على كون المعنى مراداً للمتكلم بالارادة الجدية، وهي التي تسمى عندنا بالدلالة التصديقية في قبال الدلالة الوضعية، وعند القوم بالقسم الثاني من الدلالة التصديقية، وهي متوقفة على عدم نصب قرينة منفصلة على الخلاف أيضاً، مضافاً إلى عدم نصب قرينة متصلة، فانّ القرينة المنفصلة وإن لم تكن مانعةً عن تعلّق الارادة الاستعمالية كالقرينة المتصلة، ولذا ذكرنا في مبحث العام والخاص أنّ المخصص المنفصل لا يكون كاشفاً عن عدم استعمال العام في العموم، ليكون مجـازاً (1)، إلاّ أ نّها ـ أي القرينة المنفصلة ـ كاشفة عن عدم تعلق الارادة الجدية بالمعنى المستعمل فيه. وبعبارة اُخرى: القرينة المنفصلة لا تكون مانعةً عن انعقاد الظهور للكلام، بل مانعة عن حجّية الظهور، بخلاف القرينة المتصلة، فانّها مانعة عن انعقاد الظهور من أوّل الأمر.

 إذا عرفت ذلك فاعلم أ نّه إذا اُحرز مراد المتكلم، بأن علم عدم نصب القرينة المنفصلة، فيؤخذ به بلا إشكال. وأمّا إذا شكّ في مراده، فمرجع الشك إلى أحد أمرين:

 الأوّل: عدم انعقاد الظهور للكلام.

 الثاني: احتمال عدم كون الظاهر مراداً جدياً له.

 أمّا إذا كان الشك في المراد لعدم انعقاد الظهور للكلام أصلاً، فسبب الشك فيه أحد اُمور:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 4: 318 ـ 322.

ــ[149]ــ

 إمّا عدم العلم بالموضوع له فلم يحرز المقتضي للظهور.

 وإمّا احتمال قرينية الموجـود، أو احتمال وجود القرينة، والجامع بينهما هو احتمال المانع عن الظهور بعد وجود المقتضي له، سـواء كان لاحتمال مانعـية الموجود أو احتمال وجود المانع.

 فإن كان الشك في المراد ناشئاً من عدم العلم بالموضوع له وبما يفهم من اللفظ عرفاً، فلا إشكال في كون اللفظ مجملاً غير ظاهر في شيء، والمرجع في مثله هو الأصل العملي، وكذا الحال فيما إذا كان الشك ناشئاً من احتمال قرينية الموجود، بأن يكون الكلام محتفاً بما يصلح للقرينية، كما في الأمر الواقع في مقام توهم الحظر، والضمير الراجع إلى بعض أفراد العام، فلا ينعقد للكلام ظهور حتّى يؤخذ به، نعم، في خصوص ما إذا كان الكلام محتفاً بما يصلح للقرينية على المجاز بأن يكون الأمر دائراً بين المعنى الحقيقي والمجازي إن قلنا بأنّ أصالة الحقيقة بنفسها حجّة بلا حاجة إلى انقعاد الظهور ـ كما نسب إلى السيّد المرتضى (قدس سره) (1) ـ فيؤخذ بها، وإن لم نقل بذلك كما هو الصحيح، إذ الثابت ببناء العقلاء هو الأخذ بالظاهر لا العمل بأصالة الحقيقة مع عدم انعقاد الظهور للكلام، فيكون الكلام أيضاً مجملاً لا ظهور له ليؤخذ به.

 ولايخفى أ نّه لو قلنا بمقالة السيّد (قدس سره) لا يمكن الأخذ بأصالة الحقيقة فيما إذا احتف العام بما يصلح للقرينيّة على التخصيص، لما ذكرناه في بحث العام والخاص: من أنّ التخصيص لا يوجب المجازية في لفظ العام (2)، فليس احتمال التخصيص احتمالاً للتجوز، ليدفع بأصالة الحقيقة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 10 ـ 11 و 376 ـ 377.

(2) تقدّم استخراجه في ص 148.

ــ[150]ــ

 وأمّا إن كان الشك ناشئاً من احتمال وجود القرينة فهو على قسمين: لأنّ منشأ الاحتمال تارةً يكون أمراً داخلياً، كما إذا احتمل غفلة المتكلم عن نصب القرينة أو غفلة السامع عن سماعها، بلا فرق بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد. واُخرى يكون أمراً خارجياً، كما إذا وقع التقطيع واحتمل سقوط القرينة معه، ويلحق بهذا الباب ما لو عرض على السامع نوم أو سنة أثناء تكلم المتكلم، فاحتمل ذكر القرينة في هذا الحال.

 أمّا القسم الأوّل: فلا ريب في تحقق بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال لكن لا ابتداءً كما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) (1) بل بعد إجراء أصالة عدم القرينة كما ذكره الشيخ (قدس سره)(2) لأنّ مورد بناء العقلاء هو الأخذ بالظاهر، فلا بدّ من إثباته أوّلاً باجراء أصالة عدم القرينة، ثمّ الحكم بحجيته.

 وأمّا القسم الثاني: فالمشهور فيه أيضاً عدم الاعتناء بالاحتمال، إلاّ أنّ المحقق القمي (3) (قدس سره) منع فيه من الأخذ بما يكون اللفظ ظاهراً فيه على تقدير عدم وجود القرينة واقعاً، وبنى عليه انسداد باب العلمي في الأحكام، لوقوع التقطيع في الأخبار.

 وما ذكره هو الصحيح من حيث الكبرى الكلّية، إذ لم يثبت بناء من العقلاء على الأخذ بالظاهر التقديري، أي المعلّق على عدم وجود القرينة واقعاً، فلو وصل إليهم كتاب مزّق بعضه لا يعملون بظاهر الباقي، مع احتمال وجود قرينة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 286.

(2) فرائد الاُصول 1: 101.

(3) قوانين الاُصول 1: 451 و 452.

ــ[151]ــ

صارفة عن الظاهر في المقطوع. وكذا الحال فيما إذا عرض على العبد نوم أو سنة حين تكلم المولى، فليس له العمل بظاهر ما سمعه من الكلام مع احتمال فوات قرينة صارفة حين عروض النوم أو السنة له.

 إلاّ أنّ تطبيقها على المقام غير صحيح، ولا تنتج انسداد باب العلمي في الأحكام، لما ذكرناه سابقاً (1) من أنّ المقطّعين للأخبار كانوا عارفين بأسلوب الكلام فلا تخفى عليهم القرائن الدالة على المراد بحسب المحاورات العرفية، وكانوا في أعلى مراتب الورع والتقى، فعدالتهم أو وثاقتهم مانعة عن إخفاء القرينة عمداً، ومعرفتهم باُسلوب الكلام والمحاورات العرفية مانعة عن إخفائها جهلاً، فإذا نقلوا الأخبار بلا قرينة يؤخذ بظواهرها ولا ينسدّ باب العلمي بالأحكام. هذا كلّه فيما إذا كان الشك في المراد لعدم انعقاد الظهور للكلام.

 وأمّا إن كان الشك في المراد لاحتمال عدم كون الظاهر مراداً جدياً للمتكلم، مع انعقاد الظهور لكلامه، فيكون سبب الشك فيه أيضاً أحد اُمور ثلاثة:

 إمّا احتمال غفلة المتكلم عن بيان القرينة. وهذا الاحتمال منفي بالنسبة إلى الأئمة (عليهم السلام).

 وإمّا احتمال تعمده في عدم ذكر القرينة لمصلحة فيه أو لمفسدة في الذكر.

 وإمّا احتمال اتكاله على قرينة حالية أو مقالية متقدمة أو متأخرة لم نظفر عليها بعد الفحص. وعلى جميع هذه التقادير الثلاثة كان المرجع أصالة الظهور الثابتة حجيتها ببناء العقلاء، فانّهم يأخذون بظواهر الكلام ولا يعتنون بالاحتمالات الثلاثة المتقدمة، فأصالة الظهور بنفسها حجّة ببناء العقلاء وعدم ردع الشارع عنه لا لأصالة عدم القرينة ـ كما يستفاد من كلام شيخنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 141.

ــ[152]ــ

الأنصاري (قدس سره) (1) ـ لأنّ وجود القرينة المتصلة المانعة عن انعقاد الظهور مقطوع العدم على الفرض، ووجود القرينة المنفصلة وإن كان محتملاً، إلاّ أ نّه لا يمنع عن انعقاد الظهور، وإنّما يمنع عن حجّية الظهور على فرض الوصول، ومع عدم الوصول كما هو المفروض قد ثبت البناء من العقلاء على الأخذ بالظاهر، فلا حاجة إلى التمسك بأصالة عدم القرينة.

 وبعبارة اُخرى: الشك في وجود القرينة المنفصلة كاف في حجّية الظواهر، بلا حاجة إلى إحراز عدم القرينة بالأصل، إذ البناء من العقلاء قد تحقق على الأخذ بالظواهر ما لم تحرز القرينة على الخلاف. هذا تمام الكلام في بحث الظواهر.
 ـــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 101.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net