حجية الظن المطلق \ أدلة حجية الظن - مقدّمات الانسداد 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7000

 

الكلام في حجّية الظن المطلق

 واستدلّ عليها بوجوه أربعة كلّها عقلية:

 الوجه الأوّل: أنّ الظن بالتكليف مستلزم للظن بالضرر على المخالفة، ودفع الضرر المظنون واجب بحكم العقل.

 واُجيب عنه بأجوبة بعضها راجع إلى منع الصغرى، وبعضها راجع إلى منع الكبرى.

 والصحيح في الجواب منع إحدى المقدّمتين على سبيل منع الخلو، بأن يمنع الصغرى على تقدير والكبرى على تقدير آخر، وكلتاهما على تقدير ثالث، بيان ذلك: أ نّه إن كان مراد المستدل من الضرر هو الضرر الاُخروي فالكبرى وإن كانت صحيحة تامّة، إذ العقل مستقل بدفع الضرر المظنون، بل بدفع الضرر المحتمل، ولذا وجب الاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص، وفي أطراف العلم الاجمالي، بل الضرر محتمل حتّى في موارد العلم التفصيلي بالتكليف، فانّ استحقاق العقاب على المخالفة وإن كان مقطوعاً به فيها، إلاّ أنّ العـقاب فيها أيضاً محتمل لا معلوم، لاحتمال صدور العفو منه تعالى واحتمال الشفاعة.

ــ[252]ــ

وبالجملة: لا ينبغي الشك في الكبرى على هذا التقدير، إلاّ أنّ الصغرى ممنوعة، إذ لا ملازمة بين التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة على المخالفة ليكون الظن بالتكليف مستلزماً للظن بالعقاب على المخالفة، وإلاّ كان احتمال التكليف مستلزماً لاحتمال العقاب على المخالفة ولزم الاحتياط في الشبهات البدوية ولو بعد الفحص، لأنّ دفع الضرر المحتمل أيضاً واجب عقلاً كالضرر المظنون، مع كونه واضح البطلان لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.

 وبعبارة اُخرى: استحقاق العقاب من لوازم تنجّز التكليف لا من لوازم وجوده الواقعي، فمع عدم تنجّزه بالعلم الوجداني ولا بالحجّة المعتبرة لا عقاب على مخالفته بقبح العقاب بلا بيان بحكم العقل.

 وبما ذكرناه ظهر فساد ما ذكره صاحب الكفاية (1) (قدس سره) من أنّ العقل وإن لم يكن مستقلاً باستحقاق العقاب على المخالفة، ولكنّه غير مستقل بعدمه أيضاً، فالعقاب حينئذ محتمل والعقل حاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل، انتهى. إذ مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان على ما اعترف هو به في مبحث البراءة (2) لا يبقى مجال للترديد في استحقاق العقوبة وعدمه، فانّ موضوع حكم العقل وهو عدم البيان محقق، إذ المفروض عدم كون الظن حجّة، فالعقل مستقل بعدم استحقاق العقاب، فلا يكون هناك احتمال للعقاب.

 وإن كان مراده من الضرر هو الضرر الدنيوي، فقد يمنع كلتا المقدّمتين وقد يمنع الكبرى فقط، بيان ذلك: أنّ التكاليف الوجوبية ليس في مخالفتها إلاّ تفويت المصلحة، بناءً على ما هو المعروف بين العـدلية من تبعية الأحكام للمـصالح

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 309.

(2) كفاية الاُصول: 343.

ــ[253]ــ

والمفاسد في متعلقاتها، فالظن بالوجوب لا يستلزم الظن بالضرر في المخالفة، بل مستلزم للظن بفوات المصلحة، ولا يصدق عليه الضرر فانّه عبارة عن النقص المالي أو البدني أو العقلي والروحي. وكذا الحال في التكاليف التحريمية الناشئة عن المفاسد النوعية الراجعة إلى اختلال النظام كحرمة قتل النفس وحرمة أكل مال الغير غصباً، فانّه ليس في ارتكاب تلك المحرّمات ضرر دنيوي على الفاعل، فالظن بمثل هذا النوع من الحرمة لا يستلزم الظن بالضرر. نعم، يستلزم الظن بالمفسدة النوعية الراجعة إلى اختلال النظام، ففي مورد الظن بالتكليف الوجوبي ومورد الظن بهذا النوع من التكليف التحريمي، كانت الصغرى والكبرى كلتاهما ممنوعة. ودعوى لزوم جلب المصلحة المظنونة ولزوم دفع المفسدة النوعية المظنونة ساقطة لا شاهد عليها، وإلاّ لزم الاحتياط في الشبهة الموضوعية، مع احتمال الوجوب أو احتمال هذا النوع من الحرمة، ولم يلتزم به أحد.

 وأمّا التكاليف التحريمية الناشئة عن المفسدة الشخصية، بمعنى كون الحرمة ناشئة عن الضرر المتوجه إلى شخص المرتكب، كحرمة أكل السم وحرمة شرب الخمر ونحو ذلك ممّا يكون في ارتكابه ضرر على الفاعل ونقص في بدنه أو في ماله أو في عقله أو في عرضه، فالظن بمثل هذا النوع من التحريم وإن كان يستلزم الظن بالضرر إلاّ أنّ الكبرى ممنوعة، إذ لم يدل دليل على وجوب دفع الضرر الدنيوي المظنون في هذه الموارد ممّا لم يكن التكليف فيه منجّزاً، وإلاّ لزم الاحتياط في الشبهات الموضوعية أيضاً مع الظن بالضرر، ولم يلتزم به أحد.

 بل يمكن أن يقال: إنّه لا دليل على وجوب دفع الضرر الدنيوي المتيقن، ولا سيّما إذا كان فيه غرض عقلائي، فكيف بالضرر المظنون أو المحتمل. نعم، قد دلّ الدليل على حرمة الاضرار بالنفس في موارد خاصّة، كقتل الانسان نفسه أو قطع بعض أعضائه، كما دلّ الدليل على حرمة ارتكاب ما يخاف ضرره في

ــ[254]ــ

موارد خاصّة، كالصوم والوضوء والغسل، ولابدّ من الاقتصار في مورد النص(1)، إذ لا يسـتفاد منه كبرى كلّية، مع أنّ الاعتبار في تلك الموارد بخوف الضرر المنطبق على الاحتمال أيضاً لا خصوص الظن بالضرر.

 الوجه الثاني: أنّ الأخذ بخلاف الظن ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلاً، فتعيّن الأخذ بالظن.

 وفيه: أنّ تمامية هذا الوجه متوقفة على أمرين: تنجز التكليف وعدم إمكان الاحتياط، إذ على تقدير عدم كون التكليف ثابتاً، لا مانع من الرجوع إلى البراءة، وليس فيه ترجيح المرجوح على الراجح كما هو ظاهر. وكذا لو تنجّز التكليف وتمكن المكلف من الاحتياط فعليه العمـل بالاحتياط لقاعدة الاشتغال، وليس فيه أيضاً ترجيح المرجوح على الراجح. نعم، فيما إذا تنجّز التكليف ولم يمكن الاحتياط كما إذا ترددت القبلة بين جهتين تظنّ القبلة في إحداهما المعيّنة ولم يمكن الاحتياط لضيق الوقت مثلاً، تعيّن الأخذ بالظن لقبح ترجيح المرجوح على الراجح. وعليه فلا يكون هذا الوجه إلاّ مقدّمة من مقدّمات دليل الانسداد، فلا ينتج إلاّ بانضمام الباقي منها إليه.

 الوجه الثالث: أنّ العلم الاجمالي بثبوت تكاليف إلزامية وجوبية وتحريمية يقتضي وجوب الاحتياط في جميع الشبهات، لكنّه موجب للعسر المنفي في الشريعة المقدّسة، فلا بدّ من التبعيض في الاحتياط والأخذ بمظنونات التكليف، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

 وفيه: أنّ هذا الوجه أيضاً من مقدّمات دليل الانسداد، ولا ينتج ما لم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3: 342 و 348 / أبواب التيمم ب 2 ح 1 و 2 و ب 5 ح 7 و 8، الوسائل 10: 214 و 218 / أبواب من يصح منه الصوم ب 16 ح 1 و ب 19 ح 1.

ــ[255]ــ

تنضم إليه البقية.

 الوجه الرابع: هو الدليل المعروف بدليل الانسداد، وتحقيق الكلام فيه يقتضي البحث في جهات أربع:

 الجهة الاُولى: في بيان أصل المقدّمات التي يتأ لّف منها هذا الدليل.

 الجهة الثانية: في تعيين النتيجة المترتبة عليها على تقدير تماميتها من حيث إنّها الكشف أو الحكومة.

 الجهة الثالثة: في أنّ نتيجة المقدّمات ـ على تقدير تماميتها ـ مطلقة أو مهملة.

 الجهة الرابعة: في تمامية المقدّمات وعدمها.

 أمّا الكلام في الجهة الاُولى: فهو أ نّه ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري (1)(قدس سره) أنّ ما يتأ لّف منه دليل الانسداد اُمور أربعة:

 الأوّل: العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية.

 الثاني: انسداد باب العلم والعلمي في كثير من تلك التكاليف.

 الثالث: عدم وجوب الاحتياط التام في جميع الشبهات، إمّا لعدم إمكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة ولا إلى القرعة ونحوها، ولا إلى فتوى من يرى انفتاح باب العلم أو العلمي.

 الرابع: استقلال العقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

 وذكر صاحب الكفاية(2) (قدس سره) أ نّها خمسة، وزاد على الاُمور المذكورة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 228.

(2) كفاية الاُصول: 311.

ــ[256]ــ

مقدّمة اُخرى وجعلها الثالثة من المقدّمات، والثالثة في كلام الشيخ (قدس سره) الرابعة وهي أ نّه لا يجوز لنا إهمال التكاليف وعدم التعرض لامتثالها أصلاً.

 والصحيح ما صنعه الشيخ (قدس سره) إذ لو كان مراد صاحب الكفاية (قدس سره) من المقدّمة الاُولى هو العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية في حق كل مكلف ممّن يجري دليل الانسداد في حقّه كما هو ظاهر كلامه، فهذه المقدمة هي بعينها المقدّمة الثالثة في كلامه، إذ معنى العلم بالتكاليف الفعلية أ نّه لا يجوز إهمالها وعدم التعرض لامتثـالها. وإن كان مراده هو العلم بأصل الشريعة لا العلم بفعلية التكاليف في حقّنا، فلا وجه لجعل ذلك من مقدّمات الانسداد، وإن كان صحيحاً في نفسه لأنّ المقصود ذكر المقدّمات القريبة التي يتأ لّف منها دليل الانسداد لا المقدّمات البعيدة، وإن كان دليل الانسداد متوقفاً عليها في نفس الأمر، وإلاّ لزم أن يجعل من المقدّمات إثبات الصانع وإثبات النبوّة، إلى غير ذلك من المقدّمات البعيدة التي هي مسلّمة في نفسها ومفروغ عنها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net