أمّا الكلام في الجهة الاُولى: فهو أنّ المعروف المشهور بينهم انجبار ضعف السند بعمل المشهور، مع أنّ الشهرة في نفسها لا تكون حجّة. واختاره صاحب الكفاية (قدس سره) وذكر في وجهه أنّ الخبر الضعيف وإن لم يكن حجّةً في نفسه، إلاّ أنّ عمل المشهور به يوجب الوثوق بصدوره ويدخل بذلك في موضوع الحجّية (1).
أقول: إن كان مراده أنّ عمل المشهور يوجب الاطمئنان الشخصي بصدور الخبر، فالكبرى وإن كانت صحيحةً إذ الاطمئنان الشخصي حجّة ببناء العقلاء، فانّه علم عادي، ولذا لا تشمله أدلة المنع عن العمل بالظن، لكنّ الصغرى ممنوعة، إذ ربّما لا يحصل الاطمئنان الشخصي من عمل المشهور. وإن كان مراده أنّ عمل المشهور يوجب الاطمئنان النوعي، فما ذكره غير تام صغرىً وكبرى. أمّا الصغرى: فلأ نّه لا يحصل الاطمئنان بصدور الخبر الضعيف لنوع الناس من عمل المشهور. وأمّا الكبرى: فلأ نّه على تقدير حصول الاطمئنان النوعي لا دليل على حجّيته مع فرض عدم حصول الاطمئنان الشخصي، ولم يثبت ذلك بدليل، إنّما الثابت ـ بسيرة العقلاء وبعض الآيات الشريفة والروايات التي تقدّم ذكرها ـ حجّية خبر الثقة الذي يحصل الوثوق النوعي بوثاقة الراوي، بمعنى كونه محترزاً عن الكذب، لا حجّية خبر الضعيف الذي يحصل الوثوق النوعي بصدقه ومطابقته للواقع من عمل المشهور، بل لا دليل على حجّية خبر الضعيف الذي يحصل منه اليقين النوعي بصدقه في فرض عدم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 332.
ــ[280]ــ
حصول اليقين الشخصي ولا الاطمئنان الشخصي.
وبالجملة: لا بدّ في حجّية الخبر إمّا من الوثوق النوعي بوثاقة الراوي أو الوثوق الشخصي بصدق الخبر ومطابقته للواقع ولو من جهة عمل المشهور، لا من جهة وثاقة الراوي، وأمّا مع انتفاء كلا الأمرين فلم يدل دليل على حجّيته ولو مع حصول الوثوق النوعي، بل اليقين النوعي بصدقه. هذا كلّه مع ما تقدّم في أواخر بحث حجّية الخبر من منع الصغرى، وأ نّه لم يعلم استناد المشهور إلى الخبر الضعيف، ومجرد الموافقة من دون الاستناد لا يوجب الانجبار عند القائل به (1).
وأمّا الجهة الثانية: فالمعروف بينهم فيها أنّ الخبر الصحيح يوهن باعراض المشهور عنه، بل صرّحوا بأ نّه كلّما ازداد الخبر صحّةً ازداد وهناً باعراض المشهور عنه. وليعلم أنّ محل الكلام هو الخبر الذي كان بمرأىً من المشهور ومسمع ولم يعملوا به، وأمّا الخبر الذي احتمل عدم اطّلاعهم عليه فهو خارج عن محل الكلام، ولا إشكال في جواز العمل به مع كونه صحيحاً في نفسه، إذ لا يصدق عليه أ نّه معرض عنه عند المشهور، لأنّ الاعراض فرع الاطلاع، فمع عدم الاطلاع لا يصح إسناد الاعراض إليهم.
وبالجملة: محل الكلام الخبر الذي اُحرز إعراض المشهور عنه، فالمشهور أ نّه يوهن به ويسقط عن الحجّـية. وذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أ نّه لا يسقط بذلك عن الحجّية، لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره الحاصل من إعراض المشهور أو غيره من أسباب الظن غير المعتبر (2) وهذا هو الصحيح، وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك أواخر بحث
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدّم في ص 236.
(2) كفاية الاُصول: 332 و 333.
ــ[281]ــ
حجّية الخبر فراجع (1). هذا كلّه من حيث السند.
وأمّا من حيث الدلالة فالمعروف بينهم عدم انجبار ضعف الدلالة بعمل المشهور، مع عدم ظهور الخبر في نفسه، وعدم وهن الدلالة باعراض المشهور مع ظهوره في نفسه.
وهذا الذي ذكروه متين جدّاً. أمّا عدم الانجبار بعمل المشهور فلاختصاص دليل الحجّية بالظهور، فلو لم يكن اللفظ بنفسه ظاهراً في معنى ولكن المشهور حملوه عليه لا يكون حملهم موجباً لانعقاد الظهور في اللفظ، فلا يشمله دليل حجّية الظواهر. وأمّا عدم الانكسار فلعدم اختصاص دليل حجّية الظواهر بما إذا لم يكن الظن بخلافها، أو بما إذا لم يحملها المشهور على خلافها، فلو كان اللفظ بنفسه ظاهراً في معنى، وحمله المشهور على خلافه لم يكن ذلك مانعاً عن انعقاد الظهور، فلا يسقط عن الحجّية، فما ذكروه في الدلالة من أنّ عمل المشهور لا يوجب الانجبار ولا إعراضهم يوجب الانكسار متين. فياليتهم عطفوا السند على الدلالة وقالوا فيه بما قالوا فيها من عدم الانجبار والانكسار. ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ص 236.
|