1 ـ حديث الرفع 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 13406


 ومنها: حديث الرفع المروي في خصال الصدوق (قدس سره) بسند صحيح عن حريز عن أبي عبدالله (عليه السلام): «قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): رفع عن اُمّتي تسعة: الخطأ والنسيان وما اُكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه والحسد والطيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة» (3).

 وتقريب الاستدلال به: أنّ الالزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة ممّا لايعلم فهو مرفوع بمقتضى الحديث الشريف، والمراد من الرفع هو الرفع في مرحلة الظاهر لا الرفع في الواقع ليستلزم التصويب، وذلك للقرينة الداخلية والخارجية.

 أمّا القرينة الداخلية التي قد يعبّر عنها بمناسبة الحكم والموضوع فهي أنّ نفس التعبير بما لا يعلم يدل على أنّ في الواقع شيئاً لا نعلمه، إذ الشك في شيء والجهل به فرع وجوده، ولو كان المرفوع وجوده الواقعي بمجرد الجهل به لكان

ــــــــــــ
(3) الخصال: 417 / باب التسعة ح 9، الوسائل 15: 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

ــ[299]ــ

الجهل به مساوقاً للعلم بعدمه كما هو ظاهر.

 وأمّا القرينة الخارجية فهي الآيات والروايات الكثيرة الدالة على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل. وإن شـئت فعبّر عن القرينة الخارجية بقاعدة الاشتراك، فانّها من ضروريات المذهب.

 وأيضاً لا إشكال في حسن الاحتياط، ولو كان المراد من الرفع هو الرفع الواقعي لم يبق مورد للاحتـياط كما هو ظاهر، فيكون المراد من الحديث أنّ الالزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة مرفوع ظاهراً ولو كان ثابتاً في الواقع، فانّ الحكم الشرعي ـ واقعياً كان أو ظاهرياً ـ أمر وضعه ورفعه بيد الشارع. ولا تنافي بين الترخيص الظاهري والالزام الواقعي، على ما تقدّم بيانه في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي (1). ولعل هذا هو مراد صاحب الكفاية (قدس سره) من قوله: فالالزام المجهول ممّا لا يعلمون فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً (2)، فالمقصود من الفعلية في كلامه هو حال الشك لا الفعلية الاصطلاحية في مقابل الانشائية، لأنّ فعلية الحكم بهذا المعنى تابعة لفعلية موضوعه، فمع تحقق الموضوع لا يعقل رفع الحكم في مقام الفعلية مع بقائه في مقام الجعل والانشاء.

 وبما ذكرناه ـ من أنّ الحكم الواقعي بنفسه قابل للرفع في مرحلة الظاهر ـ يظهر ما في كلام الشيخ (قدس سره) من أنّ رفع الحكم المشكوك إنّما هو بعدم إيجاب الاحتياط، فالمرفوع هو وجوب الاحتياط (3)، لأنّ ذلك خلاف ظاهر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 125 ـ 127.

(2) كفاية الاُصول: 339.

(3) فرائد الاُصول 1: 364.

ــ[300]ــ

الحديث، فانّ ظاهره أنّ المرفوع هو نفس ما لا يعلم وهو الحكم الواقعي لا وجوب الاحتياط، وبعد كون الحكم بنفسه قابلاً للرفع في مرحلة الظاهر على ما تقدّم لا وجه لارتكاب خلاف الظاهر، وحمل الحديث على رفع إيجاب الاحتياط. نعم، عدم وجوب الاحتياط من لوازم رفع الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر، لأنّ الأحكام كما أ نّها متضادة في الواقع كذلك متضادة في مقام الظاهر، فكما أنّ عدم الالزام في الواقع يستلزم الترخيص بالمعنى الأعم، كذلك رفع الالزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهراً. ولا يعقل وجوب الاحتياط بعد فرض الترخيص، فيكون المرفوع هو نفس الحكم الواقعي ظاهراً، ومن لوازم رفعه عدم وجوب الاحتياط، لعدم إمكان الجمع بين الترخيص الظاهري ووجوب الاحتياط، لتضاد الأحكام ولو في مرحلة الظاهر، فالمرفوع هو نفس الحكم الواقعي لا وجوب الاحتياط. نعم، إذا شكّ في وجوب الاحتياط في مورد ولم يقم دليل على وجوبه ولا على عدم وجوبه، كان وجوب الاحتياط حينئذ مشمولاً لحديث الرفع، ولكنّه خارج عن محل الكلام، وليس كلام الشيخ ناظراً إليه.

 ثمّ إنّ الاستدلال بهذا الحديث الشريف على المقام إنّما يتم على تقدير أن يكون المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» خصوص الحكم أو ما يعمه، فانّ الموصول على كل من التقديرين يشمل الشبهة الحكمية والموضوعية. أمّا على التقدير الثاني فواضح، إذ المراد من الموصول حينئذ أعم من الحكم المجهول والموضوع المجهول. وأمّا على التقدير الأوّل، فلأنّ مفاد الحديث حينئذ أنّ الحكم المجهول مرفوع، وإطلاقه يشمل ما لو كان منشأ الجهل بالحكم عدم وصوله إلى المكلف كما في الشبهات الحكمية، أو الاُمور الخارجية كما في الشبهات الموضوعية، وأمّا لو كان المراد من الموصول خصوص الفعل الصادر

 
 

ــ[301]ــ

من المكلف في الخارج، بمعنى كون الفعل غير معلوم العنوان للمكلف، بأن لا يعلم أنّ شرب هذا المائع مثلاً شرب خمر أو شرب ماء، فلا يتم الاستدلال به للمقام، لاختصاص الحديث حينئذ بالشبهة الموضوعية، لأنّ ظاهر الوصف المأخوذ في الموضوع كونه من قبيل الوصف بحال نفس الموصوف لا بحال متعلقه، فلو كان الموصول عبارة عن الفعل الخارجي كان الحديث مختصاً بما إذا كان الفعل بنفسه مجهولاً لا بحكمه، فلا يشمل الشبهات الحكمية التي لا يكون عنوان الفعل فيها مجهولاً.

 وربّما يقال بأنّ المراد من الموصول هو الفعل الخارجي ويستشهد له باُمور:

 الأوّل: وحدة السياق، لأنّ المراد بالموصول في بقية الفقرات هو الفعل الذي لا يطيقون، والفعل الذي يكرهون عليه، والفعل الذي يضطرون إليه، إذ لا معنى لتعلّق الاكراه والاضطرار بالحكم، فيكون المراد من الموصول في «ما لايعلمون» أيضاً هو الفعل بشهادة السياق.

 وفيه: أنّ الموصول في جميع الفقرات مستعمل في معنى واحد، وهو معناه الحقيقي المبهم المرادف للشيء، ولذا يقال إنّ الموصول من المبهمات، وتعريفه إنّما هو بالصلة، فكأ نّه (صلّى الله عليه وآله) قال: رفع الشيء الذي لا يعلم، والشيء الذي لا يطيقون، والشيء المضطر إليه، وهكذا، فلم يستعمل الموصول في جميع الفقرات إلاّ في معنىً واحد، غاية الأمر أنّ الشيء المضطر إليه لا ينطبق خارجاً إلاّ على الأفعال الخارجية، وكذا الشيء المكره عليه، بخلاف الشيء المجهول فانّه ينطبق على الحكم أيضاً. والاختلاف في الانطباق من باب الاتفاق من جهة اختلاف الصلة لا يوجب اختلاف المعنى الذي استعمل فيه الموصول كي يضر بوحدة السياق، فانّ المستعمل فيه في قولنا ما ترك زيد فهو لوارثه، وما ترك عمرو فهو لوارثه، وما ترك خالد فهو لوارثه، شيء واحد فوحدة السياق

ــ[302]ــ

محفوظة. ولو كان هذا المفهوم منطبقاً على الدار في الجملة الاُولى، وعلى العقار في الثانية، وعلى الأشجار في الثالثة، فلا شهادة لوحدة السياق على أنّ متروكات الجميع منطبقة على جنس واحد. والمقام من هذا القبيل بعينه.

 الثاني: أنّ إسناد الرفع إلى الحكم حقيقي، وإلى الفعل مجازي، إذ لا يعقل تعلّق الرفع بالفعل الخارجي، لعدم كون رفعه ووضعه بيد الشارع، فلو اُريد بالموصول في جميع الفقرات الفعل، كان الاسناد في الجميع مجازياً. وأمّا إذا اُريد به الحكم في خصوص ما لا يعلمون، كان الاسناد بالاضافة إليه حقيقياً. وهذا المقدار وإن لم يكن فيه محذور، إذ لا مانع من الجمع بين إسنادات متعددة في كلام واحد مختلفة من حيث الحقيقة والمجاز بأن يكون بعضها حقيقياً وبعضها مجازياً، إلاّ أنّ الرفع في الحديث قد اُسند باسناد واحد إلى عنوان جامع بين جميع الاُمور المذكورة فيه، وهو عنوان التسعة، والاُمور المذكورة بعده معرّف له وتفصيل لاجماله، فلزم أن يكون إسناد واحد حقيقياً ومجازياً بحسب اختلاف مصاديق المسند إليه، وهو غير جائز.

 وفيه أوّلاً: أ نّه يتمّ لو اُريد بالرفع الرفع التكويني، لأنّ إسناد الرفع حينئذ إلى الفعل الخارجي يكون مجازياً لا محالة، إذ الفعل متحقق خارجاً، ولا يكون منتفياً حقيقةً ليكون إسناد الرفع إليه حقيقياً. وأمّا إن اُريد به الرفع التشريعي، بمعنى عدم كون الفعل مورداً للاعتبار الشرعي. وبعبارة اُخرى: الرفع التشريعي عبارة عن عدم اعتبار الشارع شيئاً من مصاديق ما هو من مصاديقه تكويناً، كما في جملة من موارد الحكومة، كقوله (عليه السلام): لا رِبا بين الوالد والولد(1) فكان إسناد الرفع إلى الفعل الخارجي أيضاً حقيقياً، فيكون إسـناد الرفع إلى التسعة حقيقياً، بلا فرق بين أن يراد من الموصول في «ما لا يعلمون» الحكم أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18: 135 / أبواب الرِّبا ب7 ح1 و3 وفيهما: «ليس بين الرجل وولده رِبا».

ــ[303]ــ

الفعل الخارجي.

 وثانياً: أ نّه لو سلّمنا كون المراد من الرفع هو الرفع التكويني كان إسناده إلى التسعة حينئذ مجازياً لا حقيقياً ومجازياً، وذلك لأنّ إسناد الرفع إلى بعض المذكورات في الحديث وإن كان حقيقياً وإلى بعض آخر مجازياً، إلاّ أنّ ذلك بحسب اللب والتحليل، والميزان في كون الاسناد حقيقياً أو مجازياً إنّما هو الاسناد الكلامي لا الاسناد التحليلي، وليس في الحديث إلاّ إسناد واحد بحسب وحدة الجملة وهو إسناد الرفع إلى عنوان جامع بين جميع المذكورات، وهو عنوان التسعة، وحيث إنّ المفروض كون الاسـناد إلى بعضه وهو الفعل مجازياً، فلا محالة كان الاسناد إلى مجموع التسعة مجازياً، إذ الاسناد الواحد إلى المجموع المركب ـ ممّا هو له ومن غير ما هو له ـ إسناد إلى غير ما هو له، كما في قولنا: الماء والميزاب جاريان، وعليه فاسناد الرفع إلى التسعة مجازي ولو على تقدير أن يكون المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» هو الحكم أو الأعم منه، فلا يلزم أن يكون إسناد واحد حقيقياً ومجازياً.

 الثالث: أنّ مفهوم الرفع يقتضي أن يكون متعلقه أمراً ثقيلاً ولا سيّما أنّ الحديث الشريف قد ورد في مقام الامتنان، فلا بدّ من أن يكون المرفوع شيئاً ثقيلاً ليصح تعلّق الرفع به، ويكون رفعه امتناناً على الاُمّة. ومن الظاهر أنّ الثقيل هو الفعل لا الحكم، إذ الحكم فعل صادر من المولى فلا يعقل كونه ثقيلاً على المكلف، وإنّما سمّي بالتكليف باعتبار جعل المكلف في كلفة الفعل أو الترك.

 وبالجملة: الثقيل على المكلف هو فعل الواجب أو ترك الحرام، لا مجرّد إنشاء الوجوب والحرمة الصادر من المولى، وعليه فلا بدّ من أن يراد من الموصول في جميع الفقرات هو الفعل لا الحكم.

 وفيه: أنّ الثقل وإن كان في متعلق التكليف لا في نفسه، إلاّ أ نّه صحّ إسناد

ــ[304]ــ

الرفع إلى السبب بلا عناية، وصحّ أيضاً إسناده إلى الأثر المترتب عليه، فصحّ أن يقال: رفع الالزام أو رفع المؤاخذة، فلا مانع من إسناد الرفع إلى الحكم، باعتبار كونه سبباً لوقوع المكلف في كلفة وثقل.

 الرابع: أنّ الرفع والوضع متقابلان ويتواردان على مورد واحد، ومن الظاهر أنّ متعلّق الوضع هو الفعل، باعتبار أنّ التكليف عبارة عن وضع الفعل أو الترك على ذمّة المكلف في عالم الاعتبار والتشريع، وعليه فيكون متعلق الرفع أيضاً هو الفعل لا الحكم.

 وفيه: أ نّه إنّما يتم فيما إذا كان ظرف الرفع أو الوضع ذمّة المكلف. وأمّا إذا كان ظرفهما الشرع كان متعلقهما هو الحكم، وظاهر الحديث الشريف أنّ ظرف الرفع هو الاسلام بقرينة قوله (صلّى الله عليه وآله): «رفع عن اُمّتي» فانّه قرينة على أ نّه رفع التسعة في الشريعة الاسلامية (1).

 الخامس: أ نّه لا إشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعية، فاُريد بالموصول فيما لا يعلمون الفعل يقيناً، ولو اُريد به الحكم أيضاً لزم استعماله في معنيين وهو غير جائز، ولا أقل من كونه خلاف الظاهر.

 وفيه أوّلاً: ما عرفت(2) من أنّ الموصول لم يستعمل في الفعل ولا في الحكم، بل استعمل في معناه المبهم المرادف لمفهوم الشيء، غاية الأمر أ نّه ينطبق على الفعل مرّةً وعلى الحكم اُخرى، واختلاف المصاديق لا يوجب تعدّد المعنى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هكذا ذكر سيّدنا الاُستاذ العلاّمة (دام ظلّه) وفي ذهني القاصر أ نّه يمكن أن يدعى أنّ قوله (صلّى الله عليه وآله): «عن اُمّتي» قرينة على أنّ ظرف الرفع ذمّة الاُمّة قبالاً للاُمم السابقة، لا الدين الاسلامي في مقابل الأديان السابقة فلاحظ.

(2) في الجواب عن الأمر الأوّل في ص 301.

ــ[305]ــ

المستعمل فيه.

 وثانياً: أنّ شمول الحديث للشبهات الموضوعية لا يقتضي إرادة الفعل من الموصول، بل يكفي فيه إرادة الحكم منه، باعتبار أنّ مفاده حينئذ أنّ الحكم المجهول مرفوع، سواء كان سبب الجهل به عدم تمامية الحجّة عليه من قبل المولى ـ كما في الشبهات الحكمية ـ أو الاُمور الخارجية ـ كما في الشبهات الموضوعية ـ .

 فتحصّل ممّا ذكرناه في المـقام: تمامية الاسـتدلال بالحديث الشريف على البراءة. وأمّا البحث عن معارضته بأخبار الاحتياط فسيأتي التعرّض له عند ذكر أدلة الاخباريين (1) إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــ

(1) في ص 349 و 350.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net