المراد بالضرر المحتمل الواجب دفعه 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7313


 إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول: إنّ الضرر المحتمل الذي يجب دفعه بحكم العقل إمّا أن يراد به الضرر الاُخروي أي العقاب، أو الضرر الدنيوي، أو المفسدة المقتضية لجعل الحرمة.

 فإن كان المراد به العقاب فامّا أن يكون وجوب دفعه غيرياً أو نفسياً أو طريقياً أو إرشادياً، ولا يتصور له خامس. أمّا الوجوب الغيري فهو غير محتمل في المقام، إذ الوجوب الغيري هو الذي يترشح من وجوب نفسي عند توقف واجب على شيء آخر، وليس في المقام واجب متوقف على دفع العقاب الاُخروي ليترشح الوجوب منه إليه، لا في فرض تحقق الحكم واقعاً ولا في فرض عدمه. أمّا في فرض تحققه فلأ نّه ليس هناك إلاّ تكليف واحد وليس

ــ[330]ــ

متوقفاً على دفع العقاب بل دفع العقاب يحصل بامتثاله وهو من آثاره العقلية. وأمّا في فرض عدم تحققه، فالتوقف منتف بانتفاء موضوعه كما هو ظاهر.

 وأمّا الوجوب النفسي فهو أيضاً غير صحيح في المقام، إذ على تقدير الوجوب النفسي يكون العقاب على مخالفة نفسه لا على مخالفة التكليف الواقعي المجهول، فلا يكون وجوب دفع الضرر المحتمل بياناً للتكليف الواقعي، فإذن يكون التكليف الواقعي غير واصل إلى المكلف لا بنفسه ولا بطريقه، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا مانع. وبها يرفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل. هذا، مضافاً إلى أنّ الوجوب النفسي يستلزم تعدد العقاب عند مصادفة احتمال التكليف للواقع، ولا يمكن الالتزام به، فانّ احتمال التكليف لا يزيد على القطع به، ولا تعدد للعقاب مع القطع بالتكليف، فكيف مع احتماله.

 وأمّا الوجوب الطريقي فهو أيضاً غير معقول في المقام، إذ الوجوب الطريقي هو الذي يترتب عليه احتمال العقاب ويكون منشأً له، لأنّ احتمال التكليف الواقعي لا يستلزم احتمال العقاب إلاّ مع تنجز التكليف ووصوله إلى المكلف بنفسه أو بطريقه، فمع عدم تنجّز التكليف وعدم وصوله بنفسه ولا بطريقه ليس هناك احتمال للعقاب أصلاً. وأمّا القطع بالعقاب فغير موجود حتّى في مخالفة التكليف المنجّز الواصل لاحتمال العفو والشفاعة. ففي موارد جعل الوجوب الطريقي كان التكليف على تقدير تحققه واقعاً واصلاً إلى المكلف بطريقه ومنجّزاً، فاستحقّ العقاب على مخالفته. ومنشأ الاستحقاق هو الوجوب الطريقي، كوجوب الاحتياط الشرعي الثابت في موارده، وكوجوب العمل بالاستصحاب المثبت للتكليف مع العلم بالحالة السابقة. فاتّضح أنّ الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب ولولاه لما كان العقاب محتملاً، فكيف يمكن

ــ[331]ــ

الالتزام بأنّ وجوب دفع الضرر المحتمل طريقي، إذ قد عرفت أنّ الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب، فلا مناص من أن يكون الوجوب في رتبة سابقة على احتمال العقاب، مع أنّ احتمال العقاب مأخوذ في موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل، فلا بدّ من تقدّمه عليه تقدّم الموضوع على الحكم، وهذا هو الدور الواضح.

 وبعبارة اُخرى: إن احتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل، فجعل وجوب دفع الضرر المحتمل لغو، إذ الأثر المترتب عليه هو احتمال العقاب المتحقق مع قطع النظر عنه على الفرض، وإن لم يحتمل العقاب فيكون وجوب دفع الضرر المحتمل منتفياً بانتفاء موضوعه. فتعيّن أن يكون وجوب دفع الضرر المحتمل إرشادياً بمعنى أنّ العقل يحكم ويرشد إلى تحصيل المؤمّن من عقاب مخالفة التكليف الواقعي على تقدير تحققه. والفرق بينه وبين الوجوب الطريقي أنّ الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب، ولولاه لما كان العقاب محتملاً على ما تقدّم بيانه، بخلاف الوجوب الارشادي فانّه في رتبة لاحقة عن احتمال العقاب، إذ لولا احتمال العقاب لما كان هناك ارشاد من العقل إلى تحصيل الأمن منه.

 وبذلك ظهر أنّ مورد كل من القاعدتين مغاير لمورد الآخر، ولا تنافي بينهما، لعدم اجتماعهما في مورد واحد أبداً، فان احتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل ـ بأن كان التكليف المحتمل منجّزاً على تقدير ثبوته واقعاً، كما في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي والشبهة الحكمية قبل الفحص ـ كان مورداً لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل إرشاداً إلى تحصيل المؤمّن، ولا مجال فيه لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وإن لم يحتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل مع احتمال التكليف ـ فانّ احتمال التكليف لا يستلزم احتمال العقاب، كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص فيما إذا لم يكن

ــ[332]ــ

هناك منجّز خارجي من علم إجمالي أو إيجاب احتياط أو غيرهما ـ كان مورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا مجال فيه لجريان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل على ما تقدّم بيانه. وبعبارة اُخرى واضحة: مورد وجوب دفع الضرر المحتمل فرض وصول التكليف تفصيلاً أو إجمالاً بنفسه أو بطريقه، كما في أطراف العلم الاجمالي والشبهة قبل الفحص وموارد وجوب الاحتياط الشرعي، ومورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو فرض عدم وصوله بنفسه ولا بطريقه كما في الشبهة بعد الفحص واليأس عن الحجة على التكليف، فلا توارد بين القاعدتين في مورد واحد أصلاً.

 هذا كلّه على تقدير أن يكون المراد بالضرر المحتمل هو العقاب.

 وأمّا لو كان المراد به الضرر الدنيوي فكل من الصغرى والكبرى ممنوع. أمّا الصغرى فلأ نّه لا ملازمة بين ارتكاب الحرام وترتّب الضرر الدنيوي، بل ربّما تكون فيه المنفعة الدنيوية كما في موارد الانتفاع بمال الغير غصباً. نعم، يترتب الضرر الدنيوي على ارتكاب بعض المحرّمات كأكل الميتة وشرب السم مثلاً، ولكن لا تثبت به الكلية. وأمّا الكبرى فلأ نّه لا استقلال للعقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي بل هو ممّا نقطع بخلافه، فانّا نرى أنّ العقلاء يقدمون على الضرر المقطوع به لرجاء حصول منفعة، فكيف بالضرر المحتمل. نعم، الاقدام على الضرر الدنيوي بلا غرض عقلائي يعدّ سفاهة عند العقلاء ويلام فاعله، إلاّ أنّ العقل غير مستقل بقبحه الملازم لاستحقاق العقاب ليكون حراماً شرعاً، وإلاّ لزم كون كل فعل سفهي حراماً شرعاً، وهذا ممّا نقطع بخلافه.

 وأمّا إن كان المراد بالضرر المفسدة، فالصغرى وإن كانت مسلّمة في خصوص ما يحتمل حرمته، بناءً على ما عليه العدلية

من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، فانّ احتمال الحرمة في شيء لا ينفك حينئذ عن احتمال المفسدة فيه، إلاّ أنّ

ــ[333]ــ

الكبرى ممنوعة، إذ العقل لا يحكم بوجوب دفع المفسدة المحتملة، كيف وقد اتّفق العلماء من الاُصوليين والأخباريين، بل العقلاء أجمع على عدم لزوم الاجتناب عمّا يحتمل وجود المفسدة فيه في الشبهة الموضوعية، ولو كان العقل مستقلاً بوجوب دفع المفسدة المحتملة كان الاحتياط واجباً فيها أيضاً، إذ لا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية من هذه الجهة.

 فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا تعارض قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات البدوية بعد الفحص واليأس عن الحجّة على التكليف.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net