تنبيهات:
التنبيه الأوّل
أنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، كما أنّ موضوع البراءة الشرعية هو الشك وعدم العلم، وعليه فكل ما يكون بياناً ورافعاً للشك ولو تعبداً، يتقدّم عليهما بالورود أو الحكومة، من غير فرق بين أن تكون الشبهة موضوعية كما لو علم بخمرية مائع ثمّ شكّ في انقلابه خلاً، فانّ استصحاب الخمرية يرفع موضوع أصالة البراءة عن حرمة شربه، أو تكون حكمية كما إذا شكّ في جواز وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال، فانّ استصحاب الحرمة السابقة على تقدير جريانه يمنع عن التمسّك بأصالة البراءة. وعبّر الشيخ (قدس سره) (2)عن هذا الأصل بالأصل الموضوعي، باعتبار أ نّه رافع لموضوع الأصل الآخر، ولم يرد منه خصوص الأصل الجاري في الموضوع كما توهّم.
ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) (3) رتّب على ما أفاده جريان أصالة عدم التذكية، فيما إذا شكّ في حلية لحم وحرمته من جهة الشك في قابلية الحيوان للتذكية وعدمها، وأورد على نفسه بأنّ أصالة عدم التذكية معارضة بأصالة عدم الموت حتف الأنف، فأجاب عنه بأنّ الموت حتف الأنف عبارة اُخرى عن عدم التذكية ولا مغايرة بينهما.
ــــــــــــ (2)، (3) فرائد الاُصول 1: 401 و 409 ـ 410.
ــ[358]ــ
وتحقيق المقام يقتضي بسطاً في المقال فأقول: إنّ الشك في حرمة اللحم تارةً يكون من الشبهة الموضوعية، واُخرى: من الشبهة الحكمية.
والشبهة الموضوعية على أقسام:
القسم الأوّل: ما كان الشك في حلية اللحم من جهة دوران الأمر بين كونه من مأكول اللحم أو من غيره، مع العلم بوقوع التذكية بجميع شرائطها عليه، كما إذا شكّ في كون اللحم المتخذ من حيوان علم وقوع التذكية عليه من شاة أو من أرنب مثلاً.
القسم الثاني: ما إذا كان الشك في الحلية من جهة احتمال طروء عنوان على الحيوان مانع عن قبوله التذكية، بعد العلم بقابليته لها في حد ذاته، كاحتمال الجلل في الشاة، أو كونها موطوءة إنسان، أو ارتضاعها من لبن خنزيرة.
القسم الثالث: ما إذا كان الشك في حليته لاحـتمال عدم قبول الحيوان للتذكية ذاتاً، بعد العلم بوقوع الذبح الجامع للشرائط عليه، كما لو تردد الحيوان المذبوح في الظلمة مثلاً بين كونه شاةً أو كلباً.
القسم الرابع: ما كان الشك فيه من جهة احتمال عدم وقوع التذكية عليه، للشك في تحقق الذبح أو لاحتمال اختلال بعض الشرائط، مثل كون الذابح مسلماً أو كون الذبح بالحديد أو وقوعه إلى القبلة، مع العلم بكون الحيوان قابلاً للتذكية.
أمّا القسم الأوّل: فهو مورد لأصالة الحل، من دون حاجة إلى الفحص لكون الشبهة مصداقية. وأمّا ما أفاده الشهيد (قدس سره) (1) من أنّ الأصل في اللحوم مطلقاً هو الحرمة فهو غير صحيح بالنسبة إلى هذا الفرض، إذ لا وجه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الروضة البهيّة 1: 49.
ــ[359]ــ
له بعد العلم بوقوع التذكية عليه.
وأمّا ما ذكره بعضهم من التمسك باستصحاب حرمة أكله الثابتة قبل زهاق الروح، فهو أيضاً غير وجيه أمّا أوّلاً: فلأنّ حرمة أكل الحيوان الحي غير مسلّمة، وقد أفتى جماعة من الفقهاء بجواز بلع السمك الصغير حيّاً، مع أنّ تذكيته إنّما هي بموته خارج الماء، لا بنفس إخراجه منه، ولذا التزموا بعدم جواز أكل القطعة المبانة من السمك الحي بعد إخراجه من الماء حيّاً. وأمّا ثانياً: فلأنّ الحرمة الثابتة على تقدير تسليمها كانت ثابتة لعنوان الحيوان المتقوّم بالحياة، وما يشك في حليته إنّما هو اللحم، وهو مغاير للحيوان فلا يمكن جريان الاستصحاب.
وأمّا القسم الثاني: فلا مانع فيه من الرجوع إلى استصحاب عدم طروء مانع من التذكية، فإذا تحقق الذبح عليه جامعاً للشرائط المعـتبرة فيه تثبت التذكية بضمّ الوجدان إلى الأصل فيحكم بحليته.
وأمّا القسم الثالث: فإن قلنا بأنّ كل حيوان قابل للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل، كما ادّعاه صاحب الجواهر (قدس سره) (1). واستدلّ عليه برواية علي ابن يقطين (2) الواردة في الجلود، وقلنا أيضاً بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية حتّى في العناوين الذاتية كعنوان الكلبية مثلاً، فلا مانع من التمسك بذلك العموم بعد إجراء استصحاب عدم تحقق العنوان الخارج منه، فيحكم بحلية لحم تردد بين الشاة والكلب بالشبهة الموضوعية.
وأمّا لو منعنا عن كلا الأمرين أو عن أحدهما، فإن قلنا بأنّ التذكية أمر
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جواهر الكلام 36: 196.
(2) الوسائل 4: 352 / أبواب لباس المصلّي ب 5 ح 1.
ــ[360]ــ
وجودي بسيط مسبب عن الذبح بشرائطه، كما هو الظاهر من لفظ المذكى، نظير الطهارة المسببة عن الوضوء أو الغسل، والملكية الحاصلة من الايجاب والقبول، فيستصحب عدمها كما في نظائرها. وأمّا إذا قلنا بأ نّها عبارة عن نفس الفعل الخارجي مع الشرائط الخاصّة، كما استظهره المحقق النائيني (قدس سره) (1) من إسناد التذكية إلى المكلف في قوله تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)(2) الظاهر في المباشرة دون التسبيب، فلا مجال لاجراء أصالة عدم التذكية، للقطع بتحققها على الفرض، فيرجع إلى أصالة الحل. ولكن هذا المبنى فاسد، والاستظهار المذكور في غير محلّه، إذ يصحّ إسناد الفعل التسبيبي إلى المكلف من غير مسامحة وعناية، فيقال: زيد ملك الدار مثلاً.
وأمّا القسم الرابع: فالمرجع فيه أصالة عدم التذكية، ويترتب عليها حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة فيه، لأن غير المذكى قد أخذ مانعاً عن الصلاة. هذا كلّه في الشبهة الموضوعية.
وأمّا الشبهة الحكمية فلها صور أيضاً:
الصورة الاُولى: أن يكون الشك من غير جهة التذكية، كما لو شكّ في حلية لحم الأرنب لعدم الدليل، مع العلم بوقوع التذكية عليه، والمرجع فيه أصالة الحل، ولا يتوهم جريان أصالة الحرمة الثابتة قبل وقوع التذكية، لما تقدّم في الشبهة الموضوعية.
الصورة الثانية: أن يكون الشك في الحلية للجهل بقابلية الحيوان للتذكية، كما في الحيوان المتولد من الشاة والخنزير، من دون أن يصدق عليه اسم أحدهما،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فوائد الاُصول 3: 382، راجع أيضاً أجود التقريرات 3: 338.
(2) المائدة 5: 3.
ــ[361]ــ
فإن وجد عموم يدل على قابلية كل حيوان للتذكية إلاّ ما خرج فيرجع إليه بلا حاجة إلى استصحاب العدم الأزلي. وإنّما احتجنا إلى هذا الاستصحاب في الفرض المتقدِّم، لأنّ الشبهة فيه كانت موضوعية، ولا يمكن الرجوع فيها إلى العموم إلاّ بعد إحراز الموضوع بالاستصحاب ونحوه.
وإن لم يوجد عموم يدل على ذلك، فإن قلنا بأنّ التذكية أمر بسيط، فالأصل عدم تحققها، وإلاّ فيرجع إلى أصالة الحل. هذا كلّه فيما إذا لم يكن الشك في القابلية ناشئاً من احتمال طروء المانع. وأمّا إن كان مستنداً إلى ذلك، كما لو شككنا في انّ الجلل الحاصل مانع عن التذكية أم لا، فيرجع إلى أصالة عدم تحقق المانع.
الصورة الثالثة: أن يكون الشك في الحلية ناشئاً من الشك في اعتبار شيء في التذكية وعدمه، كما إذا شككنا في اعتبار كون الذبح بالحديد مثلاً وعدمه، والمرجع فيها أصالة عدم تحقق التذكية، للشك في تحققها. ودعوى الرجوع إلى إطلاق دليل التذكية لنفي اعتبار الأمر المشكوك فيه غير مسموعة، إذ ليست التذكية أمراً عرفياً كي ينزّل الدليل عليه ويدفع احتمال التقييد بالاطلاق، كما كان الأمر كذلك في مثل قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ)(1) ولعل هذا واضح.
إنّما الكلام في أنّ المترتب على أصالة عدم التذكية خصوص حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة فيه أو النجاسة أيضاً.
والتحقيق: هو الأوّل، لأنّ حرمة أكل اللحم مترتب على عدم التذكية بمقتضى قوله تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)(2) وهكذا عدم جواز الصلاة، بخلاف النجاسة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2: 275.
(2) المائدة 5: 3.
ــ[362]ــ
فانّها مترتبة على عنوان الميتة، والموت في عرف المتشرعة ـ على ما صرّح به مجمع البحرين(1) ـ زهاق النفس المستند إلى سبب غير شرعي، كخروج الروح حتف الأنف أو بالضرب أو الشق ونحوها، فيكون أمراً وجودياً لا يمكن إثباته بأصالة عدم التذكيـة، وعليه فيتمّ ما ذكـره الفاضل الـنراقي (قدس سره) من معارضة اصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت، فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة (2)، وإن كان التحقيق جريانهما معاً، إذ لا يلزم منه مخالفة عملية، ومجرّد كون عدم التذكية ملازماً للموت ـ لأنّ التذكية والموت ضدّان لا ثالث لهما ـ غير مانع عن جريانهما، فانّ التفكيك بين اللوازم في الاُصول العملية غير عزيز، كما في المتوضئ بمائع مردد بين الماء والبول مثلاً، فانّه محكوم بالطهارة الخبثية دون الحدثية للاستصحاب، مع وضوح الملازمة بينهما بحسب الواقع، ففي المقام يحكم بعدم جواز الأكل بمقتضى أصالة عدم التذكية، وبالطهارة لأصالة عدم الموت.
ثمّ إنّ المحـقق الهمداني (قدس سره) (3) ذهب إلى أنّ النجاسة مترتبة على عدم التذكية، واستدلّ على ذلك بما في ذيل مكاتبة الصيقل من قوله (عليه السلام): «فإن كان ما تعمل وحشياً ذكياً فلا بأس» (4) باعتبار أنّ مفهومه أ نّه لو لم يكن ذكياً ففيه بأس. والمراد بالبأس النجاسة، لأ نّها هي المسؤل عنها في المكاتبة. والظاهر عدم دلالة المكاتبة على ذلك، وإنّما تدل على نفي البأس عمّا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البحرين 2: 223 وفيه: الموت ضدّ الحياة. وفي المصباح المنير: 584 الميتة في عرف الشرع ما مات حتف أنفه أو قتل على هيئة غير مشروعة.
(2) عوائد الأيّام: 601، ولاحظ أيضاً ص 606.
(3) مصباح الفقيه (الطهارة): 653 السطر 2.
(4) الوسائل 3: 462 و 463 / أبواب النجاسات ب 34 ح 4.
ــ[363]ــ
كان يستعمله في عمله من جلود الحمر الوحشية الذكية في قبال الميتة المذكورة في صدرها، فلا مفهوم لها، ويدل على ما ذكرناه ذكر الوحشية في الكلام، لأنّ كون الحمار وحشياً لا دخل له في طهارة جلده يقيناً.
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ مقتضى أصالة عدم التذكية إذا جرت في مورد إنّما هي حرمة أكل اللحم وعدم جواز الصلاة في جلده، وأمّا النجاسة فهي غير مترتبة على هذا الأصل، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة. وعلى هذا يحمـل ما أفاده الشهيد (قدس سره) من أنّ الأصل في اللحـوم هي الحرمة والطهارة (1).
ثمّ إنّ صاحب الحدائق(قدس سره)(2) أورد على الاُصوليين وتعجّب منهم، حيث حكموا بحرمة اللحم المشكوك فيه تمسكاً بأصالة عدم التذكية، مع أ نّهم يقولون بعدم جريان الأصل مع وجود الدليل، والدليل على الحل موجود في المقام، وهو قوله (عليه السلام): «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» (3).
وفساد ما ذكره واضح، لأنّ الدليل الذي لا يجري الأصل مع وجوده هو الدليل على الحكم الواقعي، والدليل المذكور في كلامه هو الدليل على البراءة التي هي من الاُصول العملية، لا الدليل على الحكم الواقعي ليتقدّم على الاستصحاب، بل دليل الاستصحاب يخرج مورد جريانه عمّا لا يعلم حرمته، ويدرجه في معلوم الحرمة، ومعه كيف يمكن التمسك بدليل البراءة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الروضة البهيّة 1: 49.
(2) الحدائق الناضرة 5: 526.
(3) الوسائل 17: 87 / أبواب ما يكتسب به ب4 ح 1 (باختلاف يسير).
|