التنبيه الرابع - التنبيه الخامس 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5333


التنبيه الرابع

 قد يتوهّم عدم جريان البراءة في الشبهة التحريمية الموضوعية، بدعوى أنّ الشك فيها ليس شكاً في التكليف ليرجع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو إلى حديث الرفع، فانّ جعل الحكم بنحو الكلّي الذي هو وظيفة الشارع معلوم، ووصل إلى المكلف أيضاً، وإنّما الشك في مقام الامتثال والتطبيق، فالمتعيّن هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، لأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

 وأورد عليه الشيخ (قدس سره)(1) بما ملخّصه: أنّ الأحكام الشرعية مجعولة بنحو القضايا الحقيقية التي يحكم فيها على الأفراد المقدّر وجودها، فهي تنحل إلى أحكام متعددة بتعدد أفراد الموضوع، فلكل فرد من أفراد الموضوع حكم مستقل، وعليه فلو شكّ في كون شيء مصداقاً للموضوع كان الشك في ثبوت الحكم له، فيكون شكاً في التكليف، والمرجع فيه البراءة لا الاشتغال.

 وذكر صاحب الكفاية (قدس سره) (2) أنّ النهي قد يكون انحلالياً، بأن يكون كل فرد من أفراد الموضوع محكوماً بحكم مستقل، وقد يكون حكماً واحداً متعلقاً بترك الطبيعة رأساً، بحيث لو وجد فرد منها لما حصل الامتثال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 406.

(2) كفاية الاُصول: 353.

ــ[374]ــ

أصلاً. فعلى الأوّل يكون الشك في انطباق الموضوع على شيء شكاً في ثبوت التكليف فالمرجع هي البراءة، وعلى الثاني كان مورداً لقاعدة الاشتغال، لأنّ تعلّق التكليف بترك الطبيعة رأساً معلوم، ولا يحرز امتثاله إلاّ بترك كل ما يحتمل انطباق الطبيعة عليه، إلاّ إذا كانت له حالة سابقة فيستصحب، فيكون الامتثال محرزاً بالتعبد.

 وتحقيق المقام يقتضي بسطاً في الكلام، فانّ تعلّق التكليف التحريمي بالطبيعة ليس منحصراً بما ذكره الشيخ (قدس سره) من الانحلال إلى تكاليف متعددة بتعدد أفراد الموضوع، ولا بما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من القسمين، فنقول: إنّ النهي المتعلق بالطبيعة يتصوّر على أقسام:

 الأوّل: أن يكون متعلقاً بها على نحو الطبيعة السارية، بأن يكون التكليف متعدداً بتعدد أفرادها، وعليه فلو شكّ في كون شيء مصداقاً للموضوع كان الشك في ثبوت التكليف، فيرجع إلى البراءة كما ذكره الشيخ وصاحب الكفاية (قدس سرهما).

 الثاني: أن يكون متعلقاً بها على نحو صرف الوجود، بأن يكون التكليف واحداً متعلقاً بترك الطبيعة رأساً، بحيث لو وجد فرد منها لما حصل الامتثال أصلاً، وإن كان المتصف بالحرمة هو أوّل وجود الطبيعة دون غيره. وفي هذا الفرض لو شكّ في كون شيء مصداقاً للموضوع فذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أنّ المرجع فيه قاعدة الاشتغال، باعتبار أنّ تعلّق التكليف بترك الطبيعة معلوم، ولا يحرز امتثاله إلاّ بترك كل ما يحتمل انطباق الطبيعة عليه. ولكنّ التحقيق أنّ المرجع فيه أيضاً هي البراءة، لأنّ الشك في المصداق في هذا الفرض شكّ في تعلّق التكليف الضمني به، فيرجع إلى البراءة، إذ لا اختصاص لها

ــ[375]ــ

بالتكاليف الاستقلالية، بناءً على ما ذكرناه في محلّه (1) من جريان البراءة عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين.

 الثالث: أن يكون النهي زجراً عن المجموع، بحيث لو ترك فرداً واحداً من الطبيعة فقد أطاع، ولو ارتكب بقية الأفراد بأجمعها في مقابل القسم الثاني، إذ فيه لو ارتكب فرداً واحداً فقد عصى، ولو ترك البقية بأجمعها كما تقدّم، ومن الواضح أ نّه في هذا الفرض الثالث يجوز للمكلف ارتكاب بعض الأفراد المتيقنة مع ترك غيره، فضلاً عن الفرد المشكوك فيه.

 وهل يجوز ارتكاب جميع الأفراد المتيقنة وترك خصوص الفرد المشكوك فيه أم لا؟ الظاهر هو الجواز، لأ نّه يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين في المحرّمات، وهو على عكس الشك في الأقل والأكثر في الواجبات، فانّ تعلّق التكليف بالأقل عند دوران الواجب بين الأقل والأكثر هو المتيقن، إنّما الشك في تعلّقه بالزائد، فيرجع في نفـيه إلى البراءة. وأمّا في باب المحرّمات فتعلّق التكليف بالأكثر هو المتيقن، إنّما الشك في حرمة الأقل، لأنّ الاتيان بالأكثر ـ أعني الأفراد المتيقنة والفرد المشكوك فيه ـ محرّم قطعاً، وأمّا ارتكاب ما عدا الفرد المشكوك فيه فحرمته غير معلومة والمرجع هو البراءة.

 الرابع: أن يكون النهي متعلقاً بجميع الأفراد الخارجية، باعتبار أنّ المطلوب أمر بسيط متحصّل من مجموع التروك، كما لو فرضنا أنّ المطلوب بالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه هو وقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل. وفي هذا الفرض لو شكّ في كون شيء مصداقاً للموضوع كان المرجع قاعدة الاشتغال، وعدم جواز ارتكاب المشكوك في كونه فرداً له، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 494 وما بعدها.

ــ[376]ــ

المحصّل بعد العلم بثبوت التكليف، فلا مناص من القول بالاشتغال. نعم [ لو ] كان الأمر البسيط حاصلاً سابقاً، فمع ارتكاب الفرد المشكوك فيه يجري استصحاب بقاء هذا الأمر، فيكون الامتثال حاصلاً بالتعبد الشرعي.

 فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام: أنّ ما ذكره بعضهم ـ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال في الشبهة التحريمية الموضوعية ـ إنّما يصح في خصوص قسم واحد من الأقسام المذكورة، وهو القسم الأخير.
 

التنبيه الخامس

 قد عرفت حسن الاحتياط عقلاً وشرعاً حتّى فيما إذا قامت الأمارة على عدم التكليف في الواقع، فانّ احتمال ثبوت التكليف في الواقع كاف في حسن الاحتياط، لتدارك المصلحة الواقعية على تقدير وجودها، إلاّ أنّ حسنه مقيّد بعدم استلزامه اختلال النظام، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الحالات الطارئة لهم، وكل ذلك واضح.

 إنّما المقصود هو الاشارة إلى أنّ كل فرد من أفراد الشبهة لا يكون الاحتياط فيه مستلزماً لاختلال النظام، وإنّما المستلزم لذلك هو الجمع بين المحتملات والأخذ بالاحتياط في جميع الشبهات، وعليه فالاحتياط في كل شبهة في نفسها مع قطع النظر عن الاُخرى باق على حسنه، ويترتب على ذلك أ نّه على تقدير كون الاحتياط في جميع الشبهات مستلزماً لاختلال النظام لا بأس بالتبعيض في الاحتياط.

 وبعـبارة اُخرى: كون الاحتياط الكلّي قبيحاً لاستلزامه اختلال النظام لا ينافي حسن التبعيض فيه، وللتبعيض طريقان:

ــ[377]ــ

 الأوّل: أن يختار الاحتياط في جميع الشبهات العرضية إلى أن ينتهي الأمر إلى اختلال النظام، فيترك الاحتياط رأساً وفي جميع الشبهات.

 الثاني: أن يخـتار الاحتياط في بعض الأفراد العرضية دون بعض حتّى لا ينتهي الأمر إلى اختلال النظام أبداً. ولعل هذا الطريق الثاني أولى، لما ورد عنهم (عليهم السلام) من أنّ القليل الذي تدوم عليه خير من كثير لا تدوم عليه (1).

 ثمّ إنّ لهذا الطريق أيضاً صورتين:

 الاُولى: أن يحتاط في الموارد التي كان التكليف المحـتمل فيها أهم في نظر الشارع من التكليف المحتمل في غيرها.

 الثانية: أن يحتاط في الموارد التي كان ثبوت التكليف فيها مظنوناً أو مشكوكاً، ويترك الاحتياط فيما كان احتمال التكليف فيه موهوماً، فان كان ذلك أيضاً مخلاًّ بالنظام يكتفي بالاحتياط في المظنونات فقط. وهذا هو المراد ممّا ذكره صاحب الكـفاية (قدس سره) بقوله: كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أوّل الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً (2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 118 / أبواب مقدّمة العبادات ب 28 ح 10 (باختلاف يسير).

(2) كفاية الاُصول: 354.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net