المقام الثاني : دوران الأمر بين المحذورين مع كون أحد الحكمين أو كلاهما تعبدياً 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4446


ــ[389]ــ

 المقام الثاني: فيما إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبدياً مع وحدة الواقعة، كما إذا دار الأمر بين وجوب الصلاة على المرأة وحرمتها عليها، لاحتمالها الطهر والحيض مع عدم إحراز أحدهما ولو بالاستصحاب، بناءً على حرمة الصلاة على الحائض ذاتاً، بمعنى أن يكون نفس العمل حراماً عليها ولو مع عدم قصد القربة وانتسابه إلى المولى، ففي مثل ذلك يمكن المخالفة القطعية باتيان العمل بغير قصد القربة، فانّه على تقدير كونها حائضاً فأتت بالمحرّم، وعلى تقدير عدم كونها حائضاً فقد تركت الواجب، ولأجل ذلك كان العلم الاجمالي منجّزاً وإن لم تجب الموافقة القطعية لتعذّرها.

 توضيح ذلك: أنّ العلم الاجمالي على أربعة أقسام:

 القسم الأوّل: ما يمكن فيه الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، وهو الغالب، كما إذا دار الأمر بين وجـوب شيء وحرمة شيء آخر، فانّه يمكن الموافقة القطعية بالجمع بين الاتيان بالأوّل وترك الثاني، ويمكن أيضاً المخالفة القطعية بترك الأوّل والاتيان بالثاني.

 القسم الثاني: ما لا يمكن فيه الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية، كموارد دوران الأمر بين المحذورين فيما لم يكن شيء من الحكمين المحتملين تعبدياً، وقد تقدّم حكمه في المقام الأوّل.

 القسم الثالث: ما يمكن فيه المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية، كالمثال المتقدِّم في حقّ المرأة المرددة بين الطهر والحيض، وكما لو علم إجمالاً بوجوب أحد الضدّين اللذين لهما ثالث في زمان واحد، فانّه يمكن المخالفة القطعية بتركهما معاً، ولا يمكن الموافقة القطعية لعدم إمكان الجمع بين الضدّين في آن واحد.

 القسم الرابع: عكس الثالث بأن يمكن فيه الموافقة القطعية دون المخالفة

ــ[390]ــ

القطعية، كما لو علم إجمالاً بحرمة أحد الضدّين اللذين لهما ثالث في وقت واحد، فانّه يمكن الموافقة القطعية بتركهما معاً، ولا يمكن المخالفة القطعية لاستحالة الجمع بين الضدّين. وكذا الحال في جميع موارد الشبهات غير المحصورة في الشبهات التحريمية، فانّه يمكن فيها الموافقة القطعية بترك جميع الأطراف، ولا يمكن فيها المخالفة القطعية لعدم إمكان ارتكاب جميع الأطراف.

 إذا عرفت ذلك فاعلم أ نّه لا أثر للعلم الاجمالي في القسم الثاني، فتجري الاُصول النافية في أطرافه على ما تقدّم بيانه في المقام الأوّل. وأمّا غيره من الأقسام الثلاثة فالاُصول في أطراف العلم الاجمالي في مواردها متعارضة متساقطة على ما سيجيء الكلام فيه قريباً (1) إن شاء الله تعالى. ويترتب على ذلك تنجيز العلم الاجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية أو من إحدى الجهتين دون الاُخرى. وبعبارة اُخرى: إذا تساقطت الاُصول في أطراف العلم الاجمالي، فالحكم المعلوم بالاجمال يتنجز بالمقدار الممكن، فإن أمكن المخالفة القطعية والموافقة القطعية فالتنجيز ثابت من الجهتين، وإلاّ فمن إحداهما، وحيث إنّ المخالفة القطعية فيما هو محل الكلام فعلاً ممكنة، كان العلم الاجمالي منجّزاً بالنسبة إليها، فحرمت عليها المخالفة القطعية بأن تأتي بالصلاة بدون قصد القربة. وحيث إنّ الموافقة القطعية غير ممكنة، فلا محالة يحكم العقل بالتخيير بين الاتيان بالصلاة برجاء المطلوبية وبين تركها رأساً.

 ثمّ إنّ الشيخ(قدس سره)(2) قد تعرّض في المـقام لدوران الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنية، كما إذا دار الأمر بين شرطية شيء لواجب ومانعيته عنه، فاختار التخيير هنا أيضاً على حذو ما تقدّم، فيتخير المكلف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 404 وما بعدها، راجع أيضاً ص 421.

(2) راجع فرائد الاُصول 2: 502 و 503.

ــ[391]ــ

بين الاتيان بما يحتمل كونه شرطاً وكونه مانعاً وبين تركه.

 والتحقيق عدم تمامية ذلك، لأنّ الحكم بالتخيير في باب التكاليف الاستقلالية إنّما كان من جهة عدم تنجز الالزام المردّد بين الوجوب والحرمة لاستحالة الموافقة القطعية. وهذا بخلاف الالزام المعلوم إجمالاً في المقام، فانّه يمكن موافقته القطعية كما يمكن مخالفته القطعية، فيكون منجّزاً ويجب فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل.

 وتوضيح المقام: أنّ احتمال كون شيء مانعاً أو شرطاً يتصوّر بصورتين:

 الصورة الاُولى: ما يتمكن فيه المكلف من الامتثال التفصيلي ولو برفع اليد عمّا هو مشتغل به فعلاً، كما لو شكّ بعد النهوض للقيام في الاتيان بالسجدة الثانية، فانّه بناءً على تحقق الدخول في الغير بالنهوض كان الاتيان بالسجدة زيادةً في الصلاة وموجباً لبطلانها، وبناءً على عدم تحققه به كان الاتيان بها واجباً ومعتبراً في صحّتها، فانّه إذا رفع يده عن هذه الصلاة وأتى بصلاة اُخرى حصل له العلم التفصيلي بالامتثال.

 الصورة الثانية: ما يتمكن فيه المكلف من الامتثال الاجمالي إمّا بتكرار الجزء أو بتكرار أصل العمل، كما إذا دار أمر القراءة بين وجوب الجهر بها أو الاخفات، فانّه إذا كرّر القراءة بالجهر مرّةً وبالاخفات اُخرى مع قصد القربة فقد علم بالامتثال إجمالاً. وكذا لو كرّر الصلاة كذلك.

 أمّا الصورة الاُولى: فلا ريب في وجوب إحراز الامتثال، ولا يجوز له الاكتفاء بأحد الاحتمالين، لعدم إحراز الامتثال بذلك، والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، فعليه رفع اليد عن هذه الصلاة وإعادتها، أو إتمامها على أحد الاحتمالين ثمّ إعادتها. وعلى كل تقدير لا وجه للحكم بالتخيير وجواز الاكتفاء بأحد الاحتمالين في مقام الامتثال.

ــ[392]ــ

 هذا بناءً على عدم حرمة إبطال صلاة الفريضة مطلقاً أو في خصوص المقام من جهة أنّ دليل الحرمة قاصر عن الشمول له، فانّ عمدة مدركه الاجماع، والقدر المتيقن منه هو الحكم بحرمة قطع الصلاة التي يجوز للمكلف الاقتصار عليها في مقام الامتثال. وأمّا الصلاة المحكوم بوجوب إعادتها فلا دليل على حرمة قطعها، وتمام الكلام في محلّه (1).

 وأمّا لو بنينا على حرمة قطع الفريضة حتّى في مثل المقام، لكان الحكم بالتخيير في محلّه، إلاّ أ نّه لا لأجل دوران الأمر بين الجزئية والشرطية، بل من جهة دوران الأمر بين حرمة الفعل وتركه، فهو مخيّر بين الفعل والترك وعليه الاعادة على كلا التقديرين. وإن شئت قلت: إنّ لنا في المقام علمين إجماليين: أحدهما: العلم الاجمالي بثبوت إلزام متعلق بطبيعي العمل المردّد بين ما يؤتى فيه بالجزء المشكوك فيه وما يكون فاقداً له. ثانيهما: العلم الاجمالي بحرمة الجزء المشكوك فيه ووجوبه، لدوران الأمر فيه بين الجزئية الموجبة لوجوبه والمانعية المقتضية لحرمته، لكونه مبطلاً للعمل. والعلم الثاني وإن كان لا يترتب عليه أثر، لعدم التمكّن من الموافقة القطعية، ولا من المخالفة القطعية فيحكم بالتخيير بين الاتيان بالجزء المشكوك فيه وتركه، إلاّ أنّ العلم الاجمالي الأوّل يقتضي إعادة الصلاة تحصيلاً للفراغ اليقيني.

 وأمّا الصورة الثانية: وهي ما يتمكّن المكلف فيه من الامتثال الاجمالي بتكرار الجزء أو بتكرار أصل العمل، فلا وجه فيها لجواز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي، فيجب عليه إحراز الامتثال ولو إجمالاً. وبالجملة: الحكم بالتخيير إنّما هو مع عدم التمكن من الامتثال العلمي، ومع التمكّن منه فالاقتصار على الامتثال الاحتمالي يحتاج إلى دليل خاص، ومع عدمه ـ كما هو المفروض في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شرح العروة 15: 523 فصل في حكم قطع الصلاة.

ــ[393]ــ

المقام ـ يحكم العقل بلزوم الامتثال العلمي، باعتبار أنّ شغل الذمّة اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.

 هذا فيما إذا أمكن التكرار. وأمّا إذا لم يمكن كما إذا دار الأمر بين القصر والتمام عند ضيق الوقت، فالتخيير بين الأمرين في الوقت وإن كان ممّا لا مناص منه، إلاّ أ نّه قد يتوهّم عدم سقوط العلم الاجمالي عن التنجيز بالنسبة إلى وجوب الاتيـان بالمحتمل الآخر في خارج الوقـت، فلا يجوز الاقتصار باتيـان أحد المحتملين في الوقت، بل يجب عليه الاحتياط والاتيان بالمحتمل الآخر في خارج الوقت.

 ولكنّ التحقيق عدم وجوب الاتيان بالقضاء في خارج الوقت، إذ القضاء بفرض جديد وتابع لصدق فوت الفريضة في الوقت، ولم يحرز الفوت في المقام، لأنّ إحرازه يتوقف على إحراز فعلية التكليف الواقعي في الوقت بالعلم الوجداني أو الأمارة أو الأصل، وكل ذلك غير موجود في المقام، فانّ غاية ما في المقام هو العلم الاجمالي بأحد الأمرين من الجزئية أو المانعية، وهو لا يكون منجّزاً إلاّ بالنسبة إلى وجوب الموافقة الاحتمالية ووجوب الأخذ بأحد المحتملين في الوقت، دون المحتمل الآخر، لعدم إمكان الموافقة القطعية، فإذا لم يحرز التكليف بالنسبة إلى المحتمل الآخر في الوقت لم يحرز الفوت كي يجب القضاء.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net