الجهة الثانية : فقه الحديث ومعناه 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4209


 الجهة الثانية: في فقه الحديث ومعناه، إنّ في هاتين الجملتين ثلاث كلمات: ضرر، وضرار، وكلمة لا، فلنشرح كل واحدة ليعلم المراد التركيبي منها:

 أمّا الضرر: فهو اسم مصدر من ضرّ يضرّ ضرّاً، ويقابله المنفعة لا النفع كما في الكفـاية(2)، لأنّ النفع مصدر لا اسم مصدر، ومقابله الضر لا الضرر، كما في قوله تعالى: (لاَ يَمْلِكُونَ لاَِنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً)(3) والفرق بين المصدر

ـــــــــــــ
(2) كفاية الاُصول: 381.

(3) الرعد 13: 16.

ــ[606]ــ

واسمه واضح، فانّ معنى المصدر نفس الفعل الصادر من الفاعل، ومعنى اسم المصدر هو الحاصل من المعنى المصدري. ومادّة الضرر تستعمل متعدية إذا كانت مجردة، فيقال: ضرّه ويضرّه. وأمّا إن كانت من باب الإفعال فتستعمل متعدية بالباء، فيقال: أضرّ به ولا يقال أضرّه.

 وأمّا معنى الضرر فهو النقص في المال، كما إذا خسر التاجر في تجارته، أو في العرض كما إذا حدث شيء أوجب هتكه مثلاً، أو في البدن بالكيفية كما إذا أكل شيئاً فصار مريضاً، أو بالكمّية كما إذا قطع يده مثلاً. والمنفعة هي الزيادة من حيث المال كما إذا ربح التاجر في تجارته، أو من حيث العرض كما إذا حدث شيء أوجب تعظيمه، أو من حيث البدن كما إذا أكل المريض دواءً فعوفي منه. وبينهما واسطة، كما إذا لم يربح التاجر في تجارته ولم يخسر، فلم يتحقق منفعة ولا ضرر. فظهر أنّ التقابل بينهما من تقابل التضاد لا من تقابل العدم والملكة على ما في الكفاية (1).

 وأمّا الضرار: فيمكن أن يكون مصدراً للفعل المجرد كالقيام، ويمكن أن يكون مصدر باب المفاعلة، لكن الظاهر هو الثاني، إذ لو كان مصدر المجرد لزم التكرار في الكلام بحسب المعنى بلا موجب، ويكون بمنزلة قوله: لا ضرر ولا ضرر. مع انّ قوله (صلّى الله عليه وآله): «إنّك رجل مضار» (2) في قصّة سمرة ابن جندب يؤيّد كونه مصدر باب المفاعلة.

 ثمّ إنّ المعروف بين الصرفيين والنحويين بل المسلّم عندهم أنّ باب المفاعلة فعل للاثنين، لكنّ التتبع في موارد الاستعمالات يشهد بخلاف ذلك، وأوّل من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 381.

(2) الوسائل 25: 429 / كتاب إحياء الموات ب 12 ح 4.

ــ[607]ــ

تنبّه لهذا الاشتباه المسلّم هو بعض الأعاظم من مشايخنا المحققين (قدس سرهم)(1) والذي يشهد به التتبع أنّ هيئة المفاعلة وضعت لقيام الفاعل مقام إيجاد المادة وكون الفاعل بصدد إيجاد الفعل. وأقوى شاهد على ذلك هي الآيات الشريفة القرآنية: فمنها قوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللهَ وَا لَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ)(2) فذكر سبحانه وتعالى أنّ المنافقين بصدد إيجاد الخدعة، ولكن لا تقع خدعتهم إلاّ على أنفسهم، ومن ثمّ عبّر في الجملة الاُولى بهيئة المفاعلة، لأنّ الله تعالى لا يكون مخدوعاً بخدعتهم، لأنّ المخدوع ملزوم للجهل، وتعالى الله عنه علواً كبيراً. وعبّر في الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرد، لوقوع ضرر خدعتهم على أنفسهم لا محالة.

 ومنها قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ...)(3) ووجه الدلالة واضح لا حاجة إلى البيان. والشواهد على ما ذكرناه في هيئة المفاعلة كثيرة في الآيات الشريفة جداً، ومن تتبع يجد صدق ما ذكرناه، فانّ بعض مشايخنا المتقدِّم ذكره قد تتبع لاستفادة هذا المطلب من أوّل القرآن إلى آخره. هذا ما يرجع إلى معنى لفظي الضرر والضرار.

 وأمّا كلمة لا الداخلة عليهما في الجملتين: فهي لنفي الجنس، وتوضيح المراد منها وبيان مفادها في المقام يتوقف على ذكر موارد استعمال الجمل المنفية بها في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو المرحوم العلاّمة المحقق الشيخ محمّد حسين الاصفهاني الكمپاني (طاب ثراه). راجع نهاية الدراية 4: 437.

(2) البقرة 2: 9.

(3) التوبة 9: 111.

ــ[608]ــ

الأحكام الشرعية، وفي مقام التشريع، وهي على أقسام:

 فمنها: ما تكون الجملة مستعملة في مقام الاخبار عن عدم تحقق شيء كنايةً عن مبغوضيته فيكون الكلام نفياً اُريد به النهي، والسر في صحّة هذا الاستعمال هو ما ذكرناه في مبحث الأوامر(1) من أنّ الاخبار عن عدم شيء كالاخبار عن وجوده، فكما صحّ الاخبار عن وجود شيء في مقام الأمر به، بمعنى أنّ المؤمن الممتثل يفعل كذا، كقول الفقهاء يعيد الصلاة أو أعاد الصلاة، كذلك صحّ الاخبار عن عدم وجود شيء في مقام النهي عنه بالعناية المذكورة أي بمعنى أنّ المؤمن لا يفعل كذا. وقد وقع هذا الاستعمال في الآيات والروايات. أمّا الآيات فكقوله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)(2). وأمّا الروايات فكقوله (صلّى الله عليه وآله): «لا غش بين المسلمين» (3).

 فظهر بما ذكرناه أ نّه لا وجه لانكار صاحب الكفاية (قدس سره) تعاهد هذا النحو من الاستعمال للتركيب المشتمل على كلمة «لا» التي لنفي الجنس (4).

 ومنها: ما تكون الجملة فيه مستعملة أيضاً في مقام الاخبار عن عدم تحقق شيء في الخارج، لكن لا بمعنى عدم التحقق مطلقاً، بل بمعنى عدم وجود الطبيعة في ضمن فرد خاص أو حصّة خاصّة، بمعنى أنّ الطبيعة غير منطبقة على هذا الفرد أو على هذه الحصّة. والمقصود نفي الحكم الثابت للطبيعة عن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ محاضرات في اُصول الفقه 1: 483.

(2) البقرة 2: 197.

(3) كنز العمال 4: 60 و 158 / ح 9511 و 9970.

(4) كفاية الاُصول: 382.

ــ[609]ــ

الفرد أو عن الحصّة، كقوله (عليه السلام): «لا رِبا بين الوالد والولد» (1) وقوله (صلّى الله عليه وآله): «لا غيبة لمن ألقى جلباب الحياء» (2) وقوله (عليه السلام): «لا سهو للإمام مع حفظ من خلفه» (3)، فانّ المقصود نفي حرمة الرِّبا بين الوالد والولد، ونفي حرمة الغيبة في المورد المذكور ونفي حكم الشك مع حفظ المأموم، فانّ المراد من السهو في هذه الرواية وغيرها هو الشك على ما ذكر في محلّه (4). وهذا هو الذي يعبّر عنه بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع. وظهر أ نّه لا بدّ في هذا الاستعمال من ثبوت حكم إلزامي أو غيره، تكليفي أو وضعي في الشريعة المقدّسـة لنفس الطبيعة، ليكون هذا الدليل نافياً له عن الفرد أو عن الحصّة بلسان نفي الموضوع. هذا فيما إذا كان النفي حقيقياً، وأمّا إذا كان النفي ادّعائياً فلا يترتب عليه إلاّ نفي الآثار المرغوبة المعبّر عنه بنفي الكمال، كما في قوله (صلّى الله عليه وآله): «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في مسجده» (5).

 ومنها: ما تكون الجملة فيه مستعملةً في نفي شيء في الشريعة المقدّسـة الاسلامية، فتارةً تكون مستعملة في نفي موضوع من الموضوعات في الشريعة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لم نجد هذا النص في مصادر الحديث المتداولة والموجود فيها: «ليس بين الرجل وولده رِبا». الوسائل 18: 135 / أبواب الرِّبا ب 7 ح 1، 3.

(2) مستدرك الوسائل 8: 461 / أبواب أحكام العشرة ب 93 ح 4. وفيه: «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له».

(3) لم نجد هذا النص في مصادر الحديث المتداولة والموجود فيها: «ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه» الوسائل 8: 241 / أبواب الخلل ب 24 ح 8.

(4) ذكر في موارد منها: شرح العروة الوثقى 19: 45.

(5) الوسائل 5: 194 / أبواب أحكام المساجد ب 2 ح 1.

ــ[610]ــ

المقدّسة فيستفاد منه نفي الحكم الثابت له في الشرائع السابقة أو في العرف كما في قوله (صلّى الله عليه وآله): «لا رهبانية في الاسلام» (1) فانّ الرهبانية كانت مشروعة في الاُمم السابقة، فنفيها في الاسلام كناية عن نفي تشريعها. وكقوله (صلّى الله عليه وآله): «لا مناجشة في الاسلام» (2) فانّ الازدياد في ثمن السلعة من غير إرادة شرائها كان متعارفاً عند العرف فنفاه الشارع. والمقصود نفي تشريعها، ومن هذا الباب قوله (عليه السلام): «لا قياس في الدين» (3) فانّ حجّية القياس كانت مرتكزة عند العامّة فنفاها بنفيه. وبالجملة: الحكم المنفي في هذا القسم هو ما كان ثابتاً للموضوع في الشرائع السابقة أو في سيرة العرف، بلا فرق بين أن يكون إلزامياً أو غير إلزامي، تكليفياً أو وضعياً.

 واُخرى تكون الجملة مستعملةً في نفي نفس الحكم الشرعي ابتداءً، كما في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)(4) فانّ ثبوت الحرج في الشريعة إنّما هو بجعل حكم حرجي، فنفيه في الشريعة إنّما هو بعدم جعل حكم يلزم من امتثاله الحرج على المكلف.

 إذا عرفت ما ذكرناه من موارد استعمال كلمة «لا» النافية للجنس، فلنرجع إلى استظهار المراد من الحديث الشريف، وما يستفاد منها بحسب خصوصية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 14: 155 / أبواب مقدّمات النكاح ب 2 ح 2.

(2) كنز العمال 4: 383 / ح 11025.

(3) لم نجد هذا النص في مصادر الحديث المتداولة والموجود فيها: «لا رأي في الدين» و «ليس في دين الله قياس» ونحوهما، راجع الوسائل 27: 35/ أبواب صفات القاضي ب 6 ح 34 و 37.

(4) الحج 22: 78.

ــ[611]ــ

المقام، فقد ذكر له احتمالات أربعة:

 الأوّل: أن يكون الكلام نفياً اُريد به النهي بمنزلة قوله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ) على ما تقدّم بيانه (1). وعلى هذا فمفاد الجملتين حرمة الاضرار بالغير، وحرمة القيام مقام الاضرار. واختار هذا الاحتمال شيخنا الشريعة الاصفهاني (قدس سره) (2) وأصرّ عليه.

 وهذا الاحتمال وإن كان ممكناً في نفسه، إلاّ أ نّه لا يمكن الالتزام به في المقام. أمّا بناءً على اشتمال الرواية على كلمة «في الاسلام» كما في رواية الفقيه ونهاية ابن الأثير (3) فظاهر، لأنّ هذا القيد كاشف عن أنّ المراد هو النفي في مقام التشريع، لا نفي الوجود الخارجي بداعي الزجر. وأمّا بناءً على عدم ثبوت اشتمالها عليها كما هو الصحيح لكون رواية الفقيه مرسلةً غير منجبرة، ورواية ابن الأثير للعامّة، فلأنّ حمل النفي على النهي يتوقف على وجود قرينة صارفة عن ظهور الجملة في كونها خـبرية كما هي ثابتة في قوله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ) فانّ العلم بوجود هذه الاُمور في الخارج مع العلم بعدم جواز الكذب على الله (سبحانه وتعالى) قرينة قطعية على إرادة النهي. وأمّا المقام فلا موجب لرفع اليد عن الظهور وحمل النفي على النهي، لامكان حمل القضيّة على الخبرية على ما سنذكره قريباً (4) إن شاء الله تعالى.

 الثاني: أن يكون المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع على ما تقدّم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 608.

(2) قاعدة لا ضرر: 25.

(3) راجع ص 602.

(4) في ص 615.

ــ[612]ــ

بيانه (1)، كما في قوله (عليه السلام): «لا رِبا بين الوالد والولد» (2)، فانّ الرِّبا بمعنى الزيادة موجود بينهما، إنّما المقصود نفي الحرمة. وعليه فيكون مفاد الجملتين أنّ الأحكام الثابتة لموضوعاتها ـ حال عدم الضرر ـ منفية عنها إذا كانت تلك الموضوعات ضررية، فانّ الوضوء إذا كان ضررياً ينفى عنه الوجوب. واختار هذا الاحتمال صاحب الكفاية (قدس سره) (3).

 وهذا الاحتمال أيضاً ممّا لا يمكن الالتزام به في المقام، وإن كان الاستعمال المذكور صحيحاً في نفسه، كما ذكرناه في الأمثلة المتقدمة، وذلك لأنّ المنفي في المقام هو عنوان الضرر، والضرر ليس عنواناً للفعل الموجب للضرر، بل مسبب عنه ومترتب عليه، فلو كان النفي نفياً للحكم بلسان نفي موضوعه، لزم أن يكون المنفي في المقام الحكم الثابت لنفس الضرر، لا الحكم المترتب على الفعل الضرري، فيلزم نفي حرمة الاضرار بالغير بلسان نفي الاضرار، وهو خلاف المقصود، فانّ المقصود حرمة الاضرار بالغير.

 هذا مضافاً إلى أنّ الضرر بالنسبة إلى الحكم المترتب عليه موضوع، فهو مقتض له، فكيف يعقل أن يكون مانعاً عنه. نعم، لو كان المنفي في المقام هو الفعل الضرري أمكن القول بأنّ المراد نفي حكم هذا الفعل بلسان نفي الموضوع كالوضوء الضرري مثلاً، فما هو المنفي في المقام لا يمكن الالتزام بنفي حكمه بلسان نفي الموضوع، وما يمكن الالتزام بنفي حكمه بلسان نفي الموضوع لا يكون منفياً في المقام.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 608 ـ 609.

(2) تقدّم في ص 609.

(3) كفاية الاُصول: 381.

ــ[613]ــ

 وبالجملة: نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنّما يكون فيما إذا كان دليل بعمومه أو إطلاقه شاملاً لمورد الضرر، ليكون دليل النفي ناظراً إلى نفي شموله لمورد الضرر بلسان نفي انطباق الموضوع عليه. وأمّا إذا كان المنفي عنوان الضرر فلا معنى لنفي الحكم الثابت له بعنوانه وهو الحرمة لما ذكرناه.

 وربّما يقال ـ كما في الكفاية (1) ـ إنّ رفع الخطأ والنسيان في حديث الرفع إنّما يكون رفعاً للحكم المتعلق بالفعل الصادر حال الخطأ والنسيان، بلسان رفع الموضوع، مع أنّ المرفوع في ظاهر الحديث هو نفس الخطأ والنسيان، فليكن المقام كذلك، وعليه فالمنفي هو حكم الفعل الضرري بلسان نفي الموضوع.

 وفيه أوّلاً: أنّ الالتزام بنفي الحكم عن الفعل الصادر حال الخطأ والنسيان في حديث الرفع إنّما هو للقرينة القطعية، باعتبار أنّ رفع الخطأ والنسيان تكويناً مستلزم للكذب، لوجودهما بالوجدان، ورفع الحكم المتعلق بنفس الخطأ والنسيان مستلزم للخلف والمحال، فانّ الموضوع هو المقتضي للحكم فكيف يعقل أن يكون رافعاً له، فلا مناص من الحمل على رفع الحكم المتعلق بالفعل الصادر حال الخطأ والنسيان. وهذا بخلاف المقام إذ يمكن فيه تعلّق النفي بنفس الضرر في مقام التشريع، ليكون مفاده نفي جعل الحكم الضرري على ما سيجيء بيانه قريباً (2) إن شاء الله تعالى.

 وثانياً: أنّ نسبة الخطأ والنسيان إلى الفعل هي نسبة العلّة إلى المعلول، فيصح أن يكون النفي نفياً للمعلول بنفي علّته، فيكون المراد أنّ الفعل الصادر حال الخطأ والنسيان كأ نّه لم يصدر في الخارج أصلاً فيرتفع حكمه لا محالة،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 341.

(2) في ص 615.

ــ[614]ــ

بخلاف الضرر فانّه معلول للفعل ومترتب عليه في الخارج، ولم يعهد في الاستعمالات المتعارفة أن يكون النفي في الكلام متعلقاً بالمعلول وقد اُريد به نفي العلّة ليترتب عليه نفي الحكم المتعلق بالعلّة. ولو سلّم صحّة هذا الاستعمال فلا ينبغي الشك في كونه خلاف الظاهر جداً، فلا يصار إليه إلاّ بالقرينة القطعية.

 وثالثاً: أنّ الرفع المتعلق بالخطأ والنسيان في حديث الرفع يمكن أن يكون من قبيل القسم الثالث من أقسام استعمالات لا النافية للجنس، فيكون المنفي حينئذ الحكم الثابت لهما في الشرائع السابقة، كما يشهد به قوله (صلّى الله عليه وآله): «رفع عن اُمّتي»(1) فانّه ظاهر في اختصاص الرفع بهذه الشريعة، ولازمه ثبوت الحكم في الشرائع السابقة، ولا تكون المؤاخذة على الخطأ والنسيان منافيةً للعدل، حتّى تستنكر في الشرائع السابقة أيضاً، فانّ المؤاخذة على عدم التحفظ عن الخطأ والنسيان بأن يكتب شيئاً أو يضع مقابل وجهه شيئاً مثلاً كي لا يخطئ ولا ينسى، لا ينافي العدل. نعم، إذا صدر الخطأ أو النسيان بغير اختياره بحيث لا يمكنه التحفظ عنهما لا تصحّ المؤاخذة عليهما حينئذ لا محالة. وعليه فلا وجه لقياس المقام برفع الخطأ والنسيان في حديث الرفع، لعدم كون الرفع رفعاً للحكم بلسان نفي الموضوع، بل يكون رفعاً للآثار التي كانت للخطأ والنسيان في الشرائع السابقة(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 15: 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

(2) هكذا ذكر سـيّدنا الاُسـتاذ العلاّمة (دام ظلّه العالي) وفي ذهني القاصر أنّ الآثار الثابتة في الشرائع السابقة أيضاً كانت للفعل الصادر حال الخطأ والنسيان، لا لنفس الخطأ والنسيان، فيرجع الأمر إلى نفي تلك الآثار في هذه الشريعة المقدّسة بلسان نفي الموضوع فلاحظ.

ــ[615]ــ

 الثالث: أن يكون المراد نفي الضرر غير المتدارك، ولازمه ثبوت التدارك في موارد الضرر بأمر من الشارع، فانّ الضرر المتدارك لا يكون ضرراً حقيقة.

 وهذا الوجه أبعد الوجوه، إذ يرد عليه أوّلاً: أنّ التقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل.

 وثانياً: أنّ التدارك الموجب لانتفاء الضرر ـ على تقدير التسليم ـ إنّما هو التدارك الخارجي التكويني لا التشريعي، فمن خسر مالاً ثمّ ربح بمقداره صحّ أن يقال ـ ولو بالمسامحة ـ أ نّه لم يتضرر. وأمّا حكم الشارع بالتدارك، فلا يوجب ارتفاع الضرر خارجاً، فمن سرق ماله متضرر بالوجدان، مع حكم الشارع بوجوب ردّه عليه.

 وثالثاً: أنّ كل ضرر خارجي ليس ممّا حكم الشارع بتداركه تكليفاً أو وضعاً، فانّه لو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر لا يجب عليه تداركه، مع كون التاجر الثاني هو الموجب للضرر على التاجر الأوّل، فضلاً عمّا إذا تضرر شخص من دون أن يكون أحد موجـباً للضرر عليه، كمن احترقت داره مثلاً، فا نّه لا يجب على جاره ولا على غيره تدارك ضرره. نعم، لو كان الاضرار باتلاف المال وجب تداركه على المتلف، لكن لا بدليل لا ضرر، بل بقاعدة الاتلاف من أ نّه من أتلف مال الغير فهو له ضامن.

 الرابع: ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدس سره) من أنّ المراد نفي الحكم الناشئ من قبله الضرر، فيكون الضرر عنواناً للحكم لكونه معلولاً له في مقام الامتثال، فكل حكم موجب لوقوع العبد المطيع في الضرر فهو مرتفع في عالم التشريع. وأمّا العبد العاصي فهو لا يتضرر بجعل أيّ حكم من الأحكام لعدم امتثاله. وبالجملة: مفاد نفي الضرر في عالم التشريع هو نفي الحكم الضرري، كما

ــ[616]ــ

أنّ مفاد نفي الحرج في عالم التشريع هو نفي الحكم الحرجي (1).

 وهذا هو الصحيح، ولا يرد عليه شيء ممّا كان يرد على الوجوه المتقدمة، فيكون الحديث الشريف دالاًّ على نفي جعل الحكم الضرري، سواء كان الضرر ناشئاً من نفس الحكم كلزوم البيع المشتمل على الغبن، أو ناشئاً من متعلقه كالوضوء الموجب للضرر، فاللزوم مرتفع في الأوّل والوجوب في الثاني.
ــــــــــــــ

(1) رسائل فقهية: 114 و 116، فرائد الاُصول 2: 534 (باختلاف يسير في المضمون).




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net