التنبيه السابع
في تعارض الضررين ومسائله ثلاث:
المسألة الاُولى: ما لو دار أمر شخص واحد بين ضررين بحيث لا بدّ له من الوقوع في أحدهما، وفروعه ثلاثة:
الأوّل: ما إذا دار أمره بين ضررين مباحين، بناءً على ما ذكـرناه (2) من عدم حرمة الاضرار بالنفس بجميع مراتبه. وفي مثله يجوز له اختيار أ يّهما شاء بلا محذور.
الثاني: ما إذا دار الأمر بين ضرر يحرم ارتكابه كتلف النفس، وما لا يحرم ارتكابه كتلف المال. وفي مثله لا ينبغي الشك في لزوم اختيار المباح تحرزاً عن الوقوع في الحرام.
الثالث: ما إذا دار الأمر بين ضررين محرمين. ويكون المقام حينئذ من باب التزاحم، فلا بدّ له من اختيار ما هو أقل ضرراً والاجتناب عمّا ضرره أكثر وحرمته أشد وأقوى، بل الاجتناب عمّا كان محتمل الأهمّية. نعم، مع العلم
ـــــــــــــ (2) في ص 636 وما بعدها.
ــ[653]ــ
بالتساوي أو احتمال الأهمّية في كل من الطرفين يكون مخيّراً في الاجتناب عن أ يّهما يشاء. والوجه في ذلك كلّه ظاهر. وممّا ذكرناه ظهر الحكم فيما لو دار الأمر بين الاضرار بأحد الشخصين، إذ بعد حرمة الاضرار بالغير يكون المقام من باب التزاحم، فيجري فيه ما تقدّم في الفرع الثالث ولا حاجة إلى الاعادة.
المسألة الثانية: ما لو دار أمر الضرر بين شخصين عكس المسألة الاُولى ومثاله المعروف ما إذا دخل رأس دابة شخص في قدر شخص آخر، ولم يمكن التخليص إلاّ بكسر القدر أو ذبح الدابة، وفروع هذه المسألة أيضاً ثلاثة:
الأوّل: أن يكون ذلك بفعل أحد المالكين، والحكم فيه وجوب إتلاف ماله وتخليص مال الآخر مقدمةً لردّه إلى مالكه، لقاعدة اليد، ولا يجوز إتلاف مال الغير ودفع مثله أو قيمته إلى مالكه، لأ نّه متى أمكن ردّ العين وجب ردّها، ولا تصل النوبة إلى المثل أو القيمة، والانتقال إلى المثل والقيمة إنّما هو بعد تعذّر ردّ العين.
الثاني: أن يكون ذلك بفعل شخص ثالث غير المالكين، وفي مثله يتخيّر في إتلاف أ يّهما يشاء ويضمن مثله أو قيمته لمالكه، إذ بعد تعذّر إيصال كلا المالين إلى مالكيهما، عليه إيصال أحدهما بخصوصيته والآخر بماليته من المثل أو القيمة، لعدم إمكان التحفظ على كلتا الخصوصيتين.
الثالث: أن يكون ذلك غير مستند إلى فعل شخص، بأن يكون بآفة سماوية، وقد نسب إلى المشهور في مثله لزوم اختيار أقل الضررين، وأنّ ضمانه على مالك الآخر، ولا نعرف له وجهاً غير ما ذكره بعضهم من أنّ نسبة جميع الناس إلى الله تعالى نسبة واحدة، والكل بمنزلة عبد واحد، فالضرر المتوجه إلى أحد شخصين كأحد الضررين المتوجه إلى شخص واحد فلا بدّ من اختيار أقل الضررين (1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رسائل فقهية للشيخ الأنصاري (قدس سره): 125 / التنبيه السادس.
ــ[654]ــ
وهذا لا يرجع إلى محصل. ولا يثبت به ما هو المنسوب إلى المشهور من كون تمام الضرر على أحد المالكين، وهو من كانت قيمة ماله أكثر من قيمة مال الآخر. ولا وجه لالزامه بتحمل تمام الضرر من جهة كون ماله أكثر من مال الآخر، مع كون الضرر مشتركاً بينهما بآفة سماوية.
والصحيح أن يقال: إنّه إذا تراضى المالكان باتلاف أحد المالين بخصـوصه ولو بتحملهما الضرر على نحو الشركة، فلا إشكال حينئذ، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم (1)، وإلاّ فلا بدّ من رفع ذلك إلى الحاكم، وله إتلاف أ يّهما شاء ويقسّم الضرر بينهما بقاعدة العدل والانصاف الثابتة عند العقلاء.
ويؤيّدها: ما ورد في تلف درهم عند الودعي، من الحكم باعطاء درهم ونصف لصاحب الدرهمين ونصف درهم لصاحب الدرهم الواحد، فانّه لايستقيم إلاّ على ما ذكرناه من قاعدة العدل والانصاف، وقد تقدّم في بحث القطع (2). هذا فيما إذا تساوى المالان من حيث القيمة، وأمّا إن كان أحدهما أقل قيمةً من الآخر، فليس للحاكم إلاّ إتلاف ما هو أقل قيمةً، لأنّ إتلاف ما هو أكثر قيمةً سبب لزيادة الضرر على المالكين بلا موجب.
ثمّ إنّ ما ذكرناه من الفروع وأحكامها إنّما هو فيما إذا لم تثبت أهمّية أحد الضررين في نظر الشارع، وأمّا إذا ثبت ذلك فلا بدّ من اختيار الضرر الآخر في جميع الفروع السابقة، كما إذا دخل رأس عبد محقون الدم في قدر شخص آخر، فانّه لا ينبغي الشك في عدم جواز قتل العبد، ولو كان ذلك بفعل مالك العبد، بل يتعيّن كسر القدر وتخليص العبد، غاية الأمر كون ضمان القدر عليه، كما أ نّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 2: 272 / كتاب العلم ب 33 ح 7.
(2) في ص 67.
ــ[655]ــ
إن كان بفعل الغير كان الضمان عليه، وإن كان بآفة سماوية كان الضرر مشتركاً بينهما.
المسألة الثالثة: وهي لا تخلو من الأهمّية من حيث كثرة الابتلاء بها، ما إذا دار الأمر بين تضرر شخص والاضرار بالغير من جهة التصرف في ملكه، كمن حفر في داره بالوعة أو بئراً يكون موجباً للضرر على الجار مثلاً، وتوضيح المقام يقتضي ذكر أقسام تصرّف المالك في ملكه الموجب للاضرار بالجار، فنقول: إنّ تصرّفه يتصوّر على وجوه:
الأوّل: أن يكون المالك بتصرّفه قاصداً لإضرار الجار، من دون أن يكون فيه نفع له أو في تركه ضرر عليه.
الثاني: الصورة مع كون الداعي إلى التصرف مجرد العبث والميل النفساني، لا الاضرار بالجار.
الثالث: أن يكون التصرف بداعي المنفعة، بأن يكون في تركه فوات منفعة.
الرابع: أن يكون الداعي التحرز عن الضرر بأن يكون في تركه ضرر عليه.
والمنسوب إلى المشهور جواز التصرّف وعدم الضمان في الصورتين الأخيرتين، بعد التسالم على الحرمة والضمان في الصورتين الاُوليين(1) أمّا وجه الحرمة والضمان في الصورتين الاُوليين فظاهر، فانّه لا إشكال في حرمة الاضرار بالغير ولا سيّما الجار، والمفروض أ نّه لا يكون فيهما شيء ترتفع به حرمة الاضرار بالغير.
وأمّا الوجه لجواز التصرّف وعدم الضمان في الصـورتين الأخيرتين، فقد استدلّ له بوجهين:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع فرائد الاُصول 2: 538 و539، ورسائل فقهية للشيخ الأنصاري (قدس سره): 126 / التنبيه السابع.
ــ[656]ــ
الوجه الأوّل: أنّ منع المالك عن التصرف في ملكه حرج عليه، ودليل نفي الحرج حاكم على أدلة نفي الضرر، كما أ نّه حاكم على الأدلة المثبتة للأحكام. وهذا الدليل ممنوع صغرىً وكبرى: أمّا الصغرى: فلعدم كون منع المالك عن التصرف في ملكه حرجاً عليه مطلقاً، فانّ الحرج المنفي في الشريعة المقدّسة إنّما هو بمعنى المشقّة التي لا تتحمل عادة، ومن الظاهر أنّ منع المالك عن التصرف في ملكه لا يكون موجباً للمشقة التي لا تتحمل عادة مطلقاً، بل قد يكون وقد لا يكون. وليس الحرج المنفي في الشريعة المقدّسة بمعنى مطلق الكلفة، وإلاّ كان جميع التكاليف حرجية، فانّها كلفة ومنافية لحرّية الانسان وللعمل بما تشتهي الأنفس. وأمّا الكبرى: فلأ نّه لا وجه لحكـومة أدلة نفي الحرج على أدلـة نفي الضرر، فانّ كل واحد منهما ناظر إلى الأدلة الدالة على الأحكام الأوّلية، ويقيّدها بغير موارد الحرج والضرر في مرتبة واحدة، فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر.
الوجه الثاني: أنّ تصرف المالك في ملكه في المقام لا بدّ من أن يكون له حكم مجعول من قبل الشارع: إمّا الجواز أو الحرمة، فلا محالة يكون أحدهما خارجاً عن دليل لا ضرر، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيكون دليل لا ضرر مجملاً بالنسبة إليهما، فلا يمكن التمسك بحديث لا ضرر لشيء منهما، فيرجع إلى أصالة البراءة عن الحرمة ويحكم بجواز التصرف.
وفيه: ما تقدّم (1) من أنّ دليل لا ضرر لا يشمل إلاّ الأحكام الالزامية، لأ نّه ناظر إلى نفي الضرر من قبل الشارع في عالم التشريع. والضرر في الأحكام الترخيصية لا يستند إلى الشارع حتّى يكون مرتفعاً بحديث لا ضرر، فحرمة الاضرار بالغير تكون مشمولةً لحديث لا ضرر ومرتفعةً به دون الترخيص.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 618 / التنبيه الأوّل.
ــ[657]ــ
هذا، ولكن التحقيق عدم شمول حديث لا ضرر للمقام، لأنّ مقتضى الفقرة الاُولى عدم حرمة التصرف لكونها ضرراً على المالك، ومقتضى الفقرة الثانية ـ وهي لا ضرار ـ حرمة الاضرار بالغير على ما تقدّم بيانه(1)، فيقع التعارض بين الصدر والذيل، فلا يمكن العمل بإحدى الفقرتين. وإن شئت قلت: إنّ حديث لا ضرر لا يشمل المقام أصلاً لا صدراً ولا ذيلاً، لما ذكرناه (2) من كونه وارداً مورد الامتنان على الاُمّة الاسلامية، فلا يشمل مورداً كان شـموله له منافياً للامتنان، ومن المعلوم أنّ حرمة التصرف والمنع عنه مخالف للامتنان على المالك، والترخيص فيه خلاف الامتنان على الجار، فلا يكون شيء منهما مشمولاً لحديث لا ضرر.
وبما ذكرناه ظهر أ نّه لا يمكن التمسك بحديث لا ضرر فيما كان ترك التصرف موجباً لفوات المنفعة وإن لم يكن ضرراً عليه، لأنّ منع المالك عن الانتفـاع بملكه أيضاً مخالف للامتنان، فلا يكون مشمولاً لحديث لا ضرر، فلا يمكن التمسك بحديث لا ضرر في المقام أصلاً، بل لا بدّ من الرجوع إلى غيره، فإن كان هناك عموم أو إطلاق دلّ على جواز تصرف المالك في ملكه حتّى في مثل المقام يؤخذ به ويحكم بجواز التصرف، وإلاّ فيرجع إلى الأصل العملي وهو في المقام أصالة البراءة عن الحرمة، فيحكم بجـواز التصرف. وبما ذكرناه ظهر الحكم فيما إذا كان التصرف في مال الغير موجـباً للضرر على الغير، وتركه موجـباً للضرر على المتصرف، فيجري فيه الكلام السابق من عدم جواز الرجوع إلى حديث لا ضرر، لكونه وارداً مورد الامتنان، فيرجع إلى عموم أدلة حرمة التصرف في مال الغير، كقوله (صلّى الله عليه وآله): «لا يحل مال
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 618 / التنبيه الأوّل.
(2) في ص 632.
ــ[658]ــ
امرئ إلاّ بطيب نفسه»(1)، وغيره من أدلة حرمة التصرف في مال الغير، ويحكم بحرمة التصرف.
هذا كلّه من حيث الحكم التكليفي. وأمّا الحكم الوضعي وهو الضمان فالظاهر ثبـوته حتّى فيما كان التصرف جائزاً، لعدم الملازمة بين الجواز وعدم الضمان، فيحكم بالضمان لعموم قاعـدة الاتلاف. ودعوى كون الحكم بالضمان ضررياً فيرتفع بحديث لا ضرر، مدفوعة بأنّ الحكم بالضمان ضرري في جميع موارده، فلا يمكن رفعه بحديث لا ضرر، لما تقدّم (2) من أنّ حديث لا ضرر لا يشمل الأحكام المجعولة ضرريةً من أوّل الأمر، وحديث لا ضرر ناظر إلى الأحكام التي قد تكون ضررية وقد لا تكون ضررية، ويقيّدها بصورة عدم الضرر.
هذا مُضافاً إلى ما تقدّم أيضاً من أ نّه حديث امتناني لا يشمل باب الضمان أصلاً (3).
هذا تمام كلامنا في قاعدة لا ضرر في هذه الدورة، والحمد لله أوّلاً وآخراً على ما وفّقني لكتابة هذا السِّفر القيِّم، وصلّى الله على رسوله الكريم وآله الأبرار الأطهار وأصحابه الأخيار الكبار.
كتبتهُ وأنا مُعْتَكِف بجوار العتبة المقدّسة العلويّة في النجف الأشرف، على مشرّفها آلاف التحيّة والإكرام والصلاة والسلام، وأنا مستجير بذمّته حيّاً وميِّتاً، وكان ذلك في 8 / 8 / 1376 اللّيلة الثامنة من شهر شعبان المُعظّم من شهور سنة ست وسبعين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة على هاجرها الصلاة والسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 5: 120 / أبواب مكان المصلي ب 3 ح 1 (باختلاف يسير).
(2) في ص 626 / التنبيه الثالث.
(3) تقدّم في ص 625 / التنبيه الثالث.
|