أمّا الجهة الاُولى : فقد ذهب البعض إلى أنّ كل علم لابدّ له من موضوع استناداً إلى برهان لزوم السنخية بين العلّة والمعلول ، الذي أسّسه الحكماء لإثبات الصادر الأول ، وقالوا : إنّ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد ، كما أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد ، ضرورة أنّه لابدّ من وجود سنخية ومناسبة بين العلّة والمعلول ، والواحد بما هو واحد لا يسانخ الاثنين بما هما اثنان .
وتقريب هذا المعنى فيما نحن فيه : هو أنّ الغرض في كل واحد من العلوم أمر واحد يترتّب على البحث عن عوارض موضوعات مسائله ، والموضوعات المتعدّدة المتباينة لا تؤثّر أثراً واحداً كما هو المفروض ، فاحتجنا إلى جامع يحوي تحته جميع موضوعات المسائل ، ليكون ذلك الجامع بنفسه مؤثّراً في تحصيل الغرض دون موضوعات المسائل ، وحينئذ يتمّ حديث صدور الواحد عن الواحد .
والجواب عن ذلك : أنّ قاعدة صدور الواحد عن الواحد وإن كانت مسلّمة بالإضافة إلى الفاعل بالاضطرار دون الفاعل بالاختيار ، إلاّ أنّ تطبيق القاعدة على ما نحن فيه مردود من وجوه ثلاثة :
الأوّل : أنّ الغرض الذي يقصدونه في المقام إن اُريد به الشخصي فلا ريب أنّه يترتّب على مجموع المسائل لا جميعها ، فنسبة كل مسألة إلى ما يترتّب عليه الغرض نسبة الجزء إلى الكل ، وبديهي أنّ المجموع إذا كان هو العلّة لم يلزم محذور صدور الواحد عن المتعدّد .
ــ[23]ــ
وإن اُريد به الغرض النوعي فلا ريب أنّ الغرض في كل مسألة يغاير الغرض في الاُخرى ، مثلا القدرة على استنباط الحكم على نحو الجزم والبت إنّما تترتّب على مباحث الاستلزامات العقلية دون مباحث الألفاظ والحجج والاُصول العملية ، كما أنّ القدرة على استنباط الحكم على نحو التعبّد به شرعاً إنّما تترتّب على خصوص مباحث الألفاظ والحجج دون غيرها ، فالغرضان متغايران .
وهكذا علم النحو ، فإنّ الغرض المترتّب على باب الفاعل غير الغرض الذي يترتّب على باب المفعول ، وغيره في باب الإضافة ، وإن كان يجمعها صون اللسان عن الخطأ في المقال .
وعليه فلا حاجة إلى جامع واحد يضمّ تحته موضوعات المسائل ، فإنّ الغرض ـ كما عرفت ـ متعدّد ، فلا يلزم صدور الواحد عن الكثير إذا لم نلتزم بالموضوع الجامع .
الثاني : أنّ الأغراض في العلوم لا تترتّب على نفس مسائلها لنحتاج إلى تصوير الجامع بين موضوعاتها ، إذ أنّ لازمه أن يكون العامي الجامع لبعض الكتب الاُصولية ـ مثلا ـ قادراً على الاستنباط ، لوجود نفس المسائل عنده خارجاً ، وهو باطل بالضرورة ، بل الأغراض تترتّب على العلم بثبوت محمولات تلك المسائل لموضوعاتها ، فلا حاجة إلى تصوير الجامع بين الموضوعات ، فإنّ المحصِّل للغرض إنّما هو العلم بالمسائل. نعم لابدّ من تصوير جامع بين العلوم ، وهذا أمر آخر .
ومع تسليم ترتّب الغرض على نفس المسائل ، فهو لا محالة يترتّب على النسب الخاصّة ، فلابدّ من تصوير الجامع بين هذه النسب ، ولا ضرورة إلى تصويره بين الموضوعات ، لأنّ المؤثّر في تحصيل الغرض ـ على الفرض ـ إنّما هو ثبوت المحمولات لموضوعاتها ، لا خصوص موضوعاتها .
الثالث : أنّ تصوير الجامع بين موضوعات المسائل غير ممكن دائماً ، وذلك
ــ[24]ــ
فإنّ محمولات علم الفقه اُمور اعتبارية ، كالوجوب والحرمة والطهارة والنجاسة وهذه تارةً تثبت للموضوعات التي هي من الأجسام الخارجية، مثل الماء طاهر والخمر نجس .
واُخرى تثبت للمواضيع التي هي من قبيل الأعراض الخارجية أو الاُمور الاعتبارية ، مثل شرب الخمر حرام ، والنكاح سنّة ، والصلاة واجبة ، والبيع حلال والهبة جائزة .
وثالثة تثبت المحمولات للاُمور العدمية ، كالتروك الواجبة في الحجّ ، وغيره .
فكانت موضوعات المسائل مختلفة من حيث المقولة ، فمنها ما هو من مقولة الجوهر ، ومنها ما هو من الأعراض من مقولة الجدة ، ومن الوضع ، ومن الكيف ومن الموضوعات ما يكون من الاُمور العدمية . وقد حقّق في محلّه أنّه لا جامع بين الجواهر والأعراض ، فضلا عن أن يكون جامع بينها وبين الاُمور العدمية ، ومع هذا كيف يمكننا أن نتصوّر جامعاً يضمّ موضوعات المسائل .
فالذي تحصّل ممّا ذكرناه : عدم الحاجة إلى موضوع للعلم يجمع موضوعات مسائله .
وأمّا الجهة الثانية ـ وبها يعلم حال الثالثة ـ : فقد قسّم القوم العوارض إلى سبعة أقسام ، فإنّ العرض تارةً يعرض الشيء بلا واسطة أصلا ، وهو العارض أوّلا وبالذات ، واُخرى بواسطة شيء ، وهذه الواسطة إمّا داخلية وإمّا خارجية . والداخلية إمّا أعمّ كالجنس ، وإمّا أخصّ كالفصل ، والمقصود بذلك أنّه أخصّ بالإضافة إلى الجزء الآخر ، وإلاّ فهو مساو للذات . ثمّ إنّ الواسطة الخارجية أعمّ أو أخصّ أو مساوية أو مباينة ، فهذه سبعة أقسام .
|