تمايز العلوم
اختلف القوم في المائز بين العلوم هل أنّه بالموضوع ، أو بالمحمول ، أو بالغرض كما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1).
والظاهر أنّ مركز النفي والإثبات ليس أمراً واحداً ليقع الخلاف فيه ، فتارةً يراد من تمايز العلوم مرحلة الإثبات لمن يجهلها ، واُخرى يراد منه التمايز في مرحلة الثبوت وفي مقام التدوين .
أمّا المقام الأول : فحقيقته أنّ كل شخص إذا كان جاهلا بحقيقة علم من العلوم وأراد معرفته والإحاطة به ـ ولو بصورة إجمالية ـ فللعالم بذلك العلم أن يميّزه له عن غيره بما شاء من التمييز بالموضوع أو المحمول أو الغرض على سبيل الإجمال أو التفصيل ، فله أن يقول مثلا : غاية علم النحو حفظ اللسان عن الخطأ في المقال ، أو أنّ موضوعه الكلمة والكلام ، أو أنّ محموله الإعراب والبناء .
ولعلّ الوجه في من خصّ المائز بالموضوعات هو أسبقية الموضوع على غيره بحسب الرتبة ، فإنّ المحمول تابع له ، والغرض يترتّب على ثبوته للموضوع .
وأمّا المقام الثاني : فلأنّ كل مؤلّف لعلم ـ بعد اختياره جملة من المسائل المتشتّتة ، وتدوينها في كتابه مقتصراً عليها ـ يختلف تمييزه باختلاف الدواعي .
فتارةً يكون هناك غرض خارجي يترتّب على العلم والمعرفة بتلك المسائل ، كما في أغلب العلوم ، فلابدّ من البحث عن كل مسألة اشتملت على ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 8 .
ــ[28]ــ
الغرض ، كما لابدّ في هذا الفرض من التمييز بالغرض . وليس للمدوّن أن يميّزها بالموضوعات ، إذ لا عبرة في الفرض بوحدة الموضوع وتعدّده . على أنّه يقتضي جعل كل باب بل كل مسألة علماً على حدة ، كما ذكره صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1).
واُخرى يكون الداعي إلى التدوين نفس العلم والمعرفة للشيء ، دون أن يكون هناك غرض خارجي يدعوه إلى تدوين المسائل . وهذا على نحوين : فتارةً يكون هناك موضوع ، ويودّ البحث عن أحواله وشؤونه ، كما في علم الطب الباحث عن طوارئ بدن الإنسان ، فلابدّ من التمييز بالموضوع . واُخرى يكون هناك محمول ، ويودّ الباحث معرفة ما يعرض عليه ذلك المحمول ، كالحركة والسكون فلابدّ من التمييز بالمحمول فقط .
فمن هنا ظهر أنّه لا وجه لما أطلقه القوم من التمييز ، بل قد عرفت أنّ الدواعي تختلف ، وباختلافها يختلف ما به التمييز .
موضوع علم الاُصول
المعروف بينهم أنّ موضوع علم الاُصول الأدلّة الأربعة : الكتاب ، السنّة الإجماع ، العقل .
وفيه : أنّه إن اُريد بها أنّها بوصف دليليتها موضوع لعلم الاُصول ، بمعنى أنّ البحث يقع عمّا يعرض الدليل بعد ثبوت دليليته ، فلازمه خروج أكثر مسائل الاُصول عدا مباحث الألفاظ ، لأنّ ما عداها من مباحث الحجج يقع البحث عنها من حيث أصل الحجّية والدليلية ، فيقال : خبر الواحد حجّة أم لا ، والإجماع المنقول
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 8 .
ــ[29]ــ
حجّة أم لا . ولا إشكال أنّ البحث عن ثبوت الحجّية ليس بحثاً عن عوارض الدليل ، وإنّما هو بحث عن دليلية الخبر أو الإجماع .
نعم البحث في مباحث الألفاظ بحث عن العوارض ، حيث يبحث فيها ـ مثلا ـ عن أنّ الأمر الوارد في الكتاب أو السنّة ظاهر في الوجوب ، وهذا بحث عن العوارض . إلاّ أنّ الالتزام باختصاص المسائل الاُصولية بمباحث الألفاظ يستدعي خروج الكثير من المسائل والالتزام بأنّ ذكرها للاستطراد ، وهذا واضح الفساد .
وإن أرادوا بها أنّ ذوات الأدلّة الأربعة موضوع العلم ، فالبحث عن أصل الدليلية وإن كان بحثاً عن العوارض ، إلاّ أنّ تخصيص الموضوع بالأدلّة الأربعة يستدعي خروج غير واحد من المسائل عن علم الاُصول ، لأنّ البحث فيها ليس بحثاً عن عوارض الأدلّة الأربعة .
ولهذا التزم الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)(1) بارجاع البحث عن خبر الواحد إلى البحث عن ثبوت السنّة به ، ومعنى ذلك : أنّ السنّة التي هي عبارة عن قول المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره ، كما أنّها تثبت بالخبر المتواتر وبالقرينة القطعية هل تثبت بخبر الواحد . وهذا بحث عن عوارض السنّة .
ولا يخفى أنّه غير مفيد ، أولا : أنّ غاية ما جاء به كان تصحيحاً للبحث عن خبر الواحد والتعادل والترجيح ، وأمّا مثل الشهرة الفتوائية والاستصحاب ونحوهما فالتوجيه المذكور لا يشملهما ، لعدم كشفهما عن السنّة ، وإنّما يكشفان عن ثبوت نفس الحكم الشرعي . فالبحث عنهما لا يعود إلى السنّة .
وثانياً : أنّه لو اختص التوجيه بخبر الواحد والتعادل والترجيح ، فمع ذلك لا يتم أيضاً ، لأنّه إن اُريد بالثبوت الثبوت الحقيقي الخارجي ، فالبحث عن ثبوت
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فرائد الاُصول 1 : 108 .
ــ[30]ــ
السنّة بالخبر ـ الذي مرجعه إلى البحث عن تأثير الخبر في وجود السنّة ـ باطل جزماً ، فإنّ المؤثّر في وجود السنّة نفس المبادئ والمقدّمات التي حصلت حينها ، أمّا نقل زرارة ـ مثلا ـ لمقالة الإمام (عليه السلام) فهو حكاية عن السنّة ، ومن المعلوم تقدّم المحكي على الحاكي رتبة ، واستحالة أن يكون المحكي معلولا للحكاية أو الحاكي .
وإن اُريد به الثبوت الحقيقي الذهني فالبحث عنه يرجع إلى البحث عن حصول العلم الوجداني بثبوت السنّة من الخبر على نحو لا يحصل التشكيك فيه . وهذا باطل أيضاً ، لأنّ المراد من الخبر الذي يبحث عن حجّيته هو القابل للصدق والكذب ، أمّا الموجب للقطع بالثبوت فليس بمبحوث عنه .
وإن اُريد به الثبوت التعبّدي ، بمعنى أنّ الشارع المقدّس هل جعل خبر الواحد حجّة كاشفة عن ثبوت السنّة ، فهو صحيح وبحث عن العوارض . إلاّ أنّه بحث عن عوارض الخبر لا السنّة ، لأنّ معنى جعل الحجّية لذلك الخبر أنّ الشارع أعطاه صفة الطريقية ، وتمّم جهة كشفه الناقص عن الواقع ، وهذا من عوارض الكاشف لا المنكشف ، فما تكلّفه الشيخ (قدّس سرّه) غير سديد .
والظاهر أنّ علم الاُصول ليس له موضوع أصلا ، بل هو عبارة عن جملة مسائل وقواعد متشتّتة ، جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دوّن ذلك العلم . وهذه القواعد ـ على اختلاف ما يحصل منها من حيث القطع بالحكم الواقعي ، أو التعبّد به ، أو الوظيفة الشرعية عند الشك في الحكم ، أو الوظيفة العقلية التي يرجع إليها أخيراً ـ كلّها تحصّل غرضاً واحداً ، وهو تحصيل الوظيفة الفعلية في مقام العمل ، وهذا المقدار يكفي في معرفة علم الاُصول .
وإن أبيت عن ذلك ، والتزمت بوجود الموضوع في جميع العلوم ، فنقول : موضوع علم الاُصول عبارة عن جامع انتزاعي من موضوعات مسائل الاُصول
ــ[31]ــ
على اختلافها ، التي غايتها تحصيل الحجّة الفعلية في مقام العمل .
|